الجزء الأول

في عام 1997م دعيت إلى عمان للمشاركة في ندوات فكرية قدمتها مؤسسة سجى للإنتاج الفني، واجتمعت هناك بطائفة كبيرة من المفكرين المرموقين، الذين يعتبرون قمم الفكر الإسلامي، وكنت أنا وجودت سعيد نمثل فكرة اللاعنف في هذا المؤتمر.
ويومها اجتمعت بثلاث أشخاص أراهم للمرة الأولى، فقالوا لي أنت الذي يقول بعدم الدفاع عن النفس؟ وعدم استخدام القوة في تغيير الأوضاع؟ قلت نعم؟ وكانت أحداث سبتمبر لم تولد بعد؟ فبدأ أوسطهم في الحديث، وأصبح مقدم برامج في قناة الجزيرة لاحقاً، فضحك علي حتى وقع على ظهره من سذاجتي وقلة خبرتي وعدم فهمي للنصوص القرآنية، والرجل انتقل إلى رحمة ربه الآن وأصبح في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ولقد أصغيت بحذر لكلام الثلاثة لمدة 25 دقيقة بدون تعليق حتى إذا فرغوا قلت لهم: لاجديد عندكم وبإمكاني أن أعطيكم أسلحة جديدة من الأفكار تتسلحون بها ولكن لماذا أسهل مهمتكم، وكل الإفكار التي ذكرتموها معروفة ومردود عليها؟
قال الأول من جديد: أنت تتحدث باللاعنف والتاريخ كله دم فهل هناك شاهد واحد للتغيير الاجتماعي بدون دم؟؟ قلت له إن أعظم ثورة اجتماعية على الإطلاق في التاريخ لم تكن البلشفية ولا الفرنسية، وهي ليست بتلك النماذج المشرفة، ولا حتى الإيرانية التي بدأت باللاعنف وختمت بيد المجرم الخلخالي وأضرابه في حملات الإعدام التي لم تتوقف، ولكن ثورة محمد ص حدثت وتمت ونجحت بخسارة شهيد واحد، وكانت امرأة هي (سمية) التي لم تدافع عن نفسها، فهل هناك أسلوب اقتصادي أفضل من هذا للنجاح الاجتماعي؟
وعند هذه النقطة يقفز الجميع ويقول ما بال الغزوات والسرايا والفتوحات؟ وعند هذه النقطة نبق في ضباب أشد من عسير ولندن؟ وهو أن محمد ص أقام دولة وبنى مجتمعا باللاعنف.
وهنا يقولون أن المسيح لم يستخدم قوة مسلحة ومحمد ص استخدمها، والاختلاط يأتي من مرحلة (الدعوة) و(الدولة)، لأن الدولة هي التي تمارس العنف منذ أن اخترع البشر الدولة وصنعوها، بسبب بسيط أن الدولة باحتكارها العنف توفر الأمن للأفراد كي يتمكنوا من إقامة الحضارة، فلولا (الأمن) ما نشأت وحدات الحضارات، والرسول محمد ص يختلف عن المسيح عليه السلام، أن الثاني لم يكمل عمله، والأول أكمله، وكان المسيح يلوح أحيانا باستخدام القوة فقد جاء في الأنجيل: ما جئت لألقي سلاما بل سيفا؟، وبالمقابل كان الرسول ص يوصي أتباعه في المرحلة المكية بعدم الدفاع عن النفس، ونزل القرآن يقول: quot;كفوا أيديكم وأقيموا الصلاةquot;. وكان يكرر النبي ص لأتباعه: لم نؤمر بقتال؟
والسيف في الإنجيل إشارة إلى ما فعله محمد ص بعد إقامة الدولة، في ممارسة العنف بعد احتكار القوة، التي هي وظيفة كل دولة، ولا يمكن أن تقوم دولة بدونها عمليا حتى اليوم، فالدولة كنظام سياسي لها (وظيفة) أولى هي توفير الأمن داخلها للأفراد باستخدام العنف، يظهر هذا واضحا في منظر رجل الشرطة والمسدس يتدلى من خصره حينما يستدعى للفصل في حادث سيارة، في أي مكان في العالم اليابان أو ماليزيا أو أمريكا وكندا، ولا أظن أن (الريجيه) المؤسسة الكندية للفصل بين مالك البيت والمستأجر تتواني عن استخدام الشرطة، فيما لو حكمت القاضية بخروج المستأجر وعودة البيت لمالكه الأساسي، ورفض المستأجر الخروج من المنزل؟؛ فداخل أي دولة في العالم، تمارس أي دولة إذا لزم الأمر القوة المسلحة لتطبيق القوانين داخلها، والدفاع عن نفسها في الهجوم عليها من الخارج في الحروب، وهذا له حديث آخر لاحقاً. وحديثنا يدور حول موضوع (كيفية صناعة المجتمع؟) هل ينشأ بالقوة العسكرية أم سلميا؟ وما أهمية ذلك؟ ولماذا حرص كل الأنبياء على سلوك نفس الطريقة؟ ولقد جاءك من نبأ المرسلين؟ وهل يزال الطاغوت بطاغوت القوة؟ أم يزال الطاغوت بالشرعية؟ فهذا ما فعله محمد ص، وما كان يحاول المسيح عليه السلام وغيره من الأنبياء فعله، من إزالة الطاغوت بالشرعية سلمياً، ولم يكمل المسيح عمله، واكمل محمد ص عمله، مما جعل اليهود في المدينة حين سمعوا الآية: quot;اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناquot; أن قالوا لو نزلت هذه الآية علينا لجعلنا يومها عيدا. وهو الذي جعل الفلكي الأمريكي (مايكل هاردت) في كتابه (العظماء المائة أولهم محمد ص) والذي سرق كاتب عربي كتابه ونسبه لنفسه؟ أن يعتبر محمد ص ناجح نجاحا باهرا مائة بالمائة، ليس مثل انتخابات أصنام العالم العربي من نماذج صدام الوحش، أو انتخابات حزب البعث في سوريا، فاستحق محمد ص أن يكون أفضل الرجال في التاريخ.
وفي جلستي تلك أذكر الثاني أيضا وكان مفكرا إسلاميا فلسطينيا فكان يصر على أسنانه غضبا وغيظا، وفي النقاشات التي دارت في لقاءات المؤتمر (سجى) صرخ يوما: لاتسمعوا لجلبي فهو يستند إلى آية من القرآن ونبيه رجل من الهند اسمه غاندي، فقام رجل فرد عليه وقال إن جلبي يدعو إلى حقن الدماء و(فلان) يدعو إلى سفك الدماء؟ مما جعل قياديا إسلاميا معروفا في الأردن أن يقفز ويتناول الميكروفون بسرعة ويقول يجب أن أدافع عن الرجل قبل أن يصبح اسمه في المطارات؟
ومن أعجب ما قرأت للرجل لاحقاً، إنني كنت أتصفح يوما جريدة الحياة، وإذا بالرجل نفسه يكتب في اللاعنف؟؟ مما يدل على ان الذي يغير عقلية الناس ضغط الأحداث أكثر من القناعات العقلية.
وينقل عن ماكس بلانك الذي كان أول من طور (ميكانيكا الكم) عام 1900م قوله: إن العالم لم يعترف ويسلم بأفكاره الجديدة في الفيزياء وينال جائزة نوبل عام 1934م حتى مات معاصروه. وهو الذي كان يقوله محمد ص أنه يطمع أن يخرج الله من ذراري المشركين من يعبد الله ولايشرك به شيئا.
وحينما يتحدث صاحبنا الفلسطيني عن اللاعنف فهو تقدم في مسارين: المسار الفلسطيني، وتغير عقلية أشد الناس صرامة في وجه تيار اللاعنف الذي هو رحمة للعالمين.
وبقي الرجل الثالث من الجلسة وهو الأخ الفاضل الوسيم العاقل (جمال الخاشقجي) رئيس تحرير جريدة الوطن السعودية السابق، الذي قال لمن حوله ياجماعة انتبهوا لهذه الأفكار فأنا في جعبتي خبرة واسعة من العمل الإسلامي في أفغانستان، وهو كلام جدير بالتأمل، واستفاد الرجل مما تكلمت، وأكرمني لاحقاً أن ضمني إلى باقة الكتاب عنده في الجريدة فكتبت 441 عمودا، حتى طار هو من الجريدة، وبطيرانه طرت أنا لاحقاً، وكله بسبب الفكر السلامي العقلاني الانفتاحي فدفع الرجل ثمن أفكاره.
وفي يوم اجتمعت في بيروت مع رجل مرموق من قيادات العمل الإسلامي الذي انشق وأنشأ له تيارا خاصا في السعودية عرف باسمه، ونشر كتابا بعنوان (وجاء دور المجوس) هاجم فيه الثورة الإيرانية تحت اسم مستعار، وسمى الأيرانيين بالمجوس، وكان برفقته رجل مهم من الأدمغة الإسلامية الحزبية فذكروا نظرية جودت سعيد في اللاعنف الإسلامي الذي أعلنه عام 1964م بكتاب بعنوان (مذهب ابن آدم الأول) استند فيه إلى الآيات الموجودة في سورة المائدة عن قصة ولدي آدم، وهي قصة ملفتة للنظر بقدر هامشيتها وغموضها في الثقافة الإسلامية، وأتذكر من السيد صاحب كتاب وجاء دور المجوس قوله إن جودت سعيد (مخلص) ولكنه (غير واعي)، وهو مع زميله اعتبروا أنفسهم واعين جيدا؟ وجودت سعيد ساذج مغفل، لأنه يدعو إلى السلم، ولا أظن أن شيئا تغير منذ أربعين سنة حتى الآن في موقف جودت سعيد والرجلين اللذين ذكرت، ولكن الذي تغير هو أن مرض العنف ارتطم بالبرجين في نيويورك؛ فلم يعد محليا عربيا؛ بل متفجرات على مدار العالم، ومصيبة كونية، وحروب تندلع، وقوى أجنبية تتدفق إلى أفغانستان والعراق، والمنطقة تتعرض لرياح تغيير عاصفة قاصفة؟ ومن لم يغير ما بنفسه أرسل الله إليه ما يدفعه إلى التغيير، ومن يغفل عن سنن الله ، فإن سنن الله لاتغفل عنه. كان في الكتاب مسطورا.
وهذه الإشكالية واجهتني أيضاًُ في مؤتمر فرجينيا في أمريكا عام 1993م حين دعيت للمشاركة في مؤتمر التعددية الذي نظمه المؤتمر العالمي للفكر الإسلامي، ولم يكن أحد قد سمع بعد بأحداث سبتمبر، فنبهت العيون إلى مخاطر العنف، وكان في المؤتمر رجال فكر مرموقون من الاتجاه الإسلامي وغير الإسلامي، وكان جواب رئيس المعهد يومها: أن عندنا من المشاكل كفاية ولا نريد زيادة، ولا أدري إن كان يذكر كلماتي الآن، وممن اجتمعت بهم رجل فاضل ومعتقل حاليا في أمريكا، وجماعة المعهد الفكري الإسلامي العالمي أظن أن معظمهم غادر أمريكا، بعد المضايقات الشديدة التي تعرضوا لها، وقام يومها حافظ الميرازي الذي يلمع حاليا في قناة الجزيرة فاستضافني في قناته الأمريكية يومها مع المذكور واظن أن اسمها كان (ANN) وكان سؤاله كيف أفهم موضوع سلمان رشدي؟ وكان جوابي: أننا يجب وضعه ضمن إطار اللاعنف الذي أنادي به أو ما أسميه شعار العلم والسلم.