-1-

يحظى العراق والحالة العراقية القائمة باهتمام شديد من العالم العربي والغرب. وكانت الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة محل اهتمام شديد من العالم العربي والغرب، بحيث طغت أخبار هذه الانتخابات على المسألة الفلسطينية، والمسألة اللبنانية، وعلى باقي أخبار العالم العربي الأخرى، وذلك يعود إلى عدة أسباب منها:
1- أن العراق قبل التاسع من نيسان/ابريل 2003 وبعد هذا التاريخ، كان الشغل الشاغل للعالم العربي والغرب بما يتمتع به من ثروة نفطية كبيرة، وثروة ثقافية كبيرة متمثلة بهذه النخب الثقافية المختلفة، وبما يتمتع به من تنوع إثني وطائفي وديني. فملأ العراق الدنيا وشغل الناس.
2- ونتيجة لهذه المكانة الرفيعة والمهمة التي يشغلها العراق في العالم العربي، أصبح العراق بالنسبة للعالم العربي quot;بيضة القبانquot;. وهو ما يعني أن صلاح العالم العربي من صلاح العراق، وأن فساد العالم العربي من فساد العراق. وأصبح العراق وخاصة بعد سقوط النظام الديكتاتوري البائد هو بارومتر السياسة العربية تجاه العالم العربي وتجاه الغرب عامة، وخاصة عندما أصبح اللاعبون على المسرح السياسي العراقي ليسوا العرب فقط ولكن الغرب عموماً وأمريكا على وجه الخصوص التي وضعت ثقلها المالي والعسكري والسياسي في العراق، لكي تنجح التجربة الديمقراطية العراقية، وتصبح المثال المحتذى في العالم العربي. وقد تحقق جزء كبير من هذا المثال في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي وصفتها جريدة الواشنطن بوست (16/12/2005) بأنها انتخابات لم يشهد الغرب نفسه مثيلاً لها، من حيث نسبة الاقبال على الاقتراع التي بلغت حوالي 11 مليون ناخب يشكلون 70 بالمائة من مجموع الناخبين البالغ عددهم 15 مليون ناخب. وأن الجديد في هذه الانتخابات هذا الاقبال الهائل على الاقتراع من جانب السُنَّة العرب، والذين نأمل أن يكونوا واعين لحركة التاريخ العراقي الآن، وأن يدعموا حكومة علمانية عراقية قادمة لمدة أربع سنوات، علماً بأن تاريخهم السياسي والاجتماعي يقول بأنهم في معظمهم كانوا ضد قانون الأحوال المدنية المتقدم الذي وضع في عهد عبد الكريم قاسم، وخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة. وأنهم لعبوا دوراً كبيراً في دعم حكم الديكتاتور صدام كما هو معروف.
3- أن العراق بعد فجر التاسع من نيسان/ابريل 2003 أصبح البلد العربي المثير للتوقعات والتحديات والمفاجآت، وخاصة فيما يتعلق بالانتخابات. على عكس الدول العربية التي أصبحت حالات ستاتيكية وبحيرة هادئة من النادر أن يلقي فيها شخص بحجر لكي ترتج مياهها وتهتز قليلاً ، ثم تعود إلى حالتها من البيات والثبات. فالعراق بالأمس واليوم هو النهار العربي المتجدد والمثير والمحفّز على التفكير والتحليل والتأمل. لقد سُئلت بالأمس سؤالاً من قبل وسيلة اعلامية عن سبب هذه الإثارة وهذا الاهتمام الكبير بالانتخابات العراقية، وعلى عكس ما جرى في مصر قبل أيام من انتخابات تشريعية أيضاً. فكان ردي أن الانتخابات التشريعية المصرية كان أمرها ونتائجها محسومة منذ البداية . فكان من المتوقع أن يفوز الحزب الوطني الحاكم بثلثي المقاعد، وأن يفوز الإخوان المسلمون مع بقية أشلاء المعارضة المصرية الممزقة بالثلث الأخير. وهذا ما حصل بالفعل. ومن كان حصول الإخوان المسلمين على 88 مقعداً مفاجأة له لم يكن يقرأ التاريخ جيداً. فلو اتيحت للإخوان فرصة انتخابية حرة إلى حد ما خلال النصف قرن الماضي ومنذ 1952 لحققوا النتيجة نفسها، نتيجة لتمكنهم من الشارع المصري الفقير والمحافظ والمتدين بطبعه، ونتيجة لفساد الحياة السياسية والاقتصادية المصرية، وحاجة الشعب الملحة إلى منقذين فعليين وصادقين من الجوع والبطالة والفساد السياسي، يعتقد الشارع المصري بأن هؤلاء يتمثلون بالإخوان المسلمين الذين يجب أن يحكموا يوماً مصر أو غير مصر، لكي ينكشف أمرهم وتوضع شعاراتهم الانتخابية، ومنها شعارهم الكبير الرنان (الإسلام هو الحل) موضع التنفيذ على أرض الواقع. فالبعثيون لم يختبروا شعاراتهم السياسية إلا على أرض الواقع، عندما حكموا منذ عام 1963 في سوريا والعراق، وتبين لهم أن شعاراتهم رومانسية عاطفية. وافتضح أمرهم إلى أن سقطوا نهائياً في العراق في 2003، وها هم يتأرجحون في سوريا تهالكاً. والشارع العربي لن يتبين رومانسية وعاطفية وعدم واقعية شعارات الإخوان المسلمين إلا عندما يحكمون فعلياً. ولذا كان هيجل قد قال: quot;لا يمكن تخطي مرحلة ما إلا بعد اجتيازهاquot;.
4- أن ما يجري في العراق من تقدم في البناء السياسي الديمقراطي كاد أن يبهر العرب، ولا يصدقونه. فمنذ 14 قرناً من تاريخ العرب لم تجر ممارسات ديمقراطية كما جرى ويجري خلال الأعوام الثلاثة الماضية. فالإعلام الحر المطلق، وحرية المعارضة في أن تقول ما تشاء وتعارض من تشاء، وحرية المواطن أن يفعل ما يشاء في حدود القانون والنظام، حالات لم يعتد عليها العربي ولم يعرفها في أقطاره المختلفة، لذا فهو ينظر إلى ما يجري في العراق وهو بين الحلم واليقظة، بين الشك واليقين، بين الواقع والخيال، وبين مصدق ومكذب. ومن هنا اكتسبت الحالة العراقية كل هذا الاهتمام لدى العرب، وأخذوا يتابعونها ليس يوماً بيوم، ولكن ساعة بساعة، طوال السنوات الثلاث الماضية.

-2-
جرت الانتخابات التشريعية الأخيرة بحماس شديد من قبل العراقيين وكان الاقبال على صناديق الاقتراع يفوق الاقبال على صناديق الاقتراع في يناير الماضي 2005. وكان لذلك أسبابه الكثيرة منها :
1- أن الشعب العراقي قد كسر حاجز الخوف من الارهابيين الذين كانوا يهددونه بالموت والخطف فيما إذا سارع إلى الاقتراع.
2- أن الشعب العراقي يعلم بأن هؤلاء النواب والحكومة المنبثقة عن الجمعية الوطنية ورئيس الجمهورية هم حكام العراق لأربع سنوات قادمة هي سنوات الجهاد الأكبر العراقي كما سبق ووصفناها بعد أن فرغ العراقيون من الجهاد الأصغر، وهو البناء السياسي المتمثل في الاستفتاء على الدستور وانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية التشريعية. وأن الجهاد الأكبر يتمثل في البناء الاقتصادي والعمراني وبناء البنية التحتية واعادة بناء الجيش وقوى الأمن، والقضاء على الفلتان الأمني والارهاب، ومعالجة ملفات الفساد، والبطالة، والسوق السوداء، وغسيل الأموال، وانتشار المخدرات، وارتفاع معدلات الجريمة.
3- أن الشعب العراقي أصبح يؤمن ايماناً راسخاً بأن استكمال البناء السياسي هو الطريق إلى الحوار السياسي مع دول قوات التحالف لوضع برنامج زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق، لكي يستكمل العراق استقراره وسيادته الوطنية. ومن هنا، كان اقبال الشعب العراقي على صناديق الاقتراع على هذا النحو غير المعهود عند العرب. فالشعب العراقي آمن أن خلاصه في صناديق الاقتراع وليس في طوابير الاتبّاع، كما كان عليه الحال في العهد البائد.