كلّما استبدّ بنا ضجر الغربة، نركب السيارة أنا وزوجتي ليلى، ونذهب إلى (الماركت)، حيث تباع الأدوات الجديدة والمستعملة، وتعرض جميع أنواع الفاكهة والخضار. وكنا، في كل مرة نذهب إليه، نعود محمّلين بكل ما تصبو إليه نفسانا من أشياء أثريّة وحديثة وفاكهة.. ولكننا منذ أسبوعين عدنا منه ونحن نحمل هذه القصة الطريفة لا غير :
كنّا نقف قرب بائع للخضار، فاقتربت منّا امرأة لبنانية ترافقها ابنتها المراهقة، وسألت البائع بصوتٍ عالٍ وبإنكليزيّة مكسّرة عن سعر صندوق البندورة ـ الطماطم :
ـ هاو ماتش الـبوكس؟
قالتها و(أل) التعريف العربية تتقدّم (البوكس) بكل ثقة !..
فأجابها المسكين بإنكليزيّة سليمة، كونه أستراليّ المولد :
ـ فايف دولار، مدام .
فالتفتت لابنتها وقالت :
ـ ماذا يقول؟.. فسّري لي جيّداً يا بنت، ماذا يقول هذا الحمار؟ !
فأحنت البنت رأسها خجلاً وتمتمت :
ـ لـم أسمعه.. كنت أتطلّع بالنّاس .
فدفشتها الأم بكوعها وهي تصيح :
ـ روحي نسأل غيره.. أخونا لا يعرف الإنكليزية.. يجب أن أضربه بقبضتي على حنكه كي يتعلّم كيف يحكي إنكليزي ..
فهمست بأذن زوجتي: تعالي نلحق بها لنرى كم من الحمير ستلتقي..
ـ أرجوك.. دعها وشأنها.. أستراليا ملآنة بأشكالها..
ـ هذا الموضوع يهمني كثيراً، وسأكتب عنه لأبيّن للناس كيف استملكنا أوطاناً استضافتنا، وشوّهنا لغتها بعد أن شوهناها..
ـ إذا كان هذا ما تريد.. فلنلحق بها..
وفجأة توقّفت أمام بائع آخر، وسألته بصوت أعلى من السابق:
ـ هاو ماتش بوكس البندورة؟
والبائع، هذه المرة، لم يكن أحد الأستراليين، بل طبيباً عربياً لجأ إلى بيع الخضار بعد أن منعته الحكومة الأسترالية من ممارسة مهنة الطبابة التي برع بها في بلاده، فأجابها بلغة عربية سليمة، كونه عرفها من أصل عربي من لغتها الإنكليزية المطعمة بكلمات عربية صارخة:
ـ اعطيني أربعة دولارات، وصحتين على قلبك..
فالتفتت إليه، وصاحت بصوت أشبه ما يكون بهدير طائرة الكونكورد المتقاعدة:
ـ تعيش في أستراليا، ولا تتكلم الإنكليزية.. عيب يا رجل!
ـ لقد عرفتك امرأة عربية، فحاولت أن أخفف من معاناتك اللغوية، وبدلاً من أن تشكريني، أراك تسخرين مني.
ـ أشكرك.. أنا أشكرك.. على ماذا؟ على حمرنتك باللغة الإنكليزية؟
ودفشت ابنتها بكوعها مرة ثانية وهي تقول:
ـ اليوم ليس يومي.. لقد ابتليت بحمارين ولا أبشع..
فاحمر وجه ابنتها خجلاً وراحت تتمتم:
ـ هما على حق يا أمي.. وأنت على خطأ..
وهدرت طائرة الكونكورد في أذن ابنتها المسكينة:
ـ سوف لن آتي بك إلى (الماركت) بعد اليوم.. الظاهر أنني لم أخلّف سوى حمير جهلة.
فاقتربت من الطبيب الخضرجي وقلت له: هل سمعت ما قالت؟
فأجابني بقهقهة عالية: هذه المرأة أرحم من غيرها، وأفهم من غيرها، فوالله والله لو وقفت مكاني ساعة واحدة لتعرفت على أناس يجبرونك على انكار عروبتك، والتلطي وراء بضعة كلمات فرنسية، كي تنتمي إلى الفرنكفونية رغم أنف شيراك، ونكاية بكل العربان الذين تنكروا للغتهم، دون أن يتقنوا لغة أخرى.

[email protected]