جاري إنسان بسيط، تحسّ، وأنت تحادثه، أنّك أمام أحد أقربائك، وأنه أتى للتوّ من إحدى قرى لبنان الريفيّة، لذلك لـم أسأله عن اسم البلد الذي يتحدّر منه، ولا عن الدين الذي يعتنق. وكان يحب عمل الخير كثيراً، لدرجة أصبح معها يجمع براميل القمامة، ويضعها داخل بيوتنا دون أي مقابل.
ولكن، ولسوء حظّنا جميعاً، غزا مرض السرطان كبد هذا الجار المسكين، ووافته المنيّة بسرعة مذهلة، فوجدت أن من واجبي زيارة أرملته، وتعزيتها بمصابها الأليم، فاشتريت باقة من الورد، ومشيت إلى بيتها بخطى بطيئة، لأنني، والحق أقول، لا أعرف كيف أبدأ كلمات التعزية مع الآخرين، فأتلعثم دائماً، وكأن لساني أصيب بضربة شمس، أو بهزة حائط.
قرعت الباب عدّة مرات، ولـم يجبني أحد، فبدأت الظنون تتقاذفني :
ـ أين هي يا ترى؟
ـ أين الأقارب والأصحاب وأبناء الحي الواحد؟
ـ إذا مات (قاشوش) من أبناء جاليتي اللبنانيّة، نرى الناس يدخلون ويخرجون من بيته خروج النمل من وكره أيّام الحصاد، فما بال هؤلاء الجيران يهملون موتاهم؟ !!
ولـم يطل تساؤلي كثيراً، لأن أرملة المرحوم انتصبت أمامي بقامتها الهيفاء وقالت :
ـ أنا آسفة جداً، كنت أقضي حاجة ما .
ـ وأنا آسف أيضاً للمصيبة التي حلّت بك، لقد خسرنا جاراً لا يعوّض، ولكن ما علينا سوى الرضوخ لمشيئة اللـه .
ـ كان، رحمه اللـه، رجلاً فاضلاً، وزوجاً مخلصاً، من الصعب أن أحظى بمثله مرّة ثانية، ولهذا سأفتقده كثيراً .
ـ هل بإمكاني اصطحابك لزيارة ضريح المرحوم؟ فلقد اشتريت باقة من الأزهار لهذه الغاية .
ـ أنت لطيف جدّاً، ولكنّ زوجي لـم يقبر في ضريح .
ـ هل لي أن أعرف ماذا فعلتـم بجثمانه؟
ـ كانت رغبته أن يحرق ويذرّ رماده فوق المحيط .
ـ ماذا؟ !
ـ نعم.. ولكن ابني الوحيد، حفظه اللـه، رفض تنفيذ رغبة أبيه، مدّعياً أن البحر بعيد جدّاً عن مكان سكني، وهذا ما سيحول بيني وبين زيارتي الأسبوعيّة لرفات المرحوم .
ـ وماذا فعل إذن؟
ـ جمع الرماد في صندوق خشبيّ مذهّب، ووضعه في (كاراج) البيت .
الحقيقة أنني صعقت لدى سماعي هذه القصّة الغريبة البعيدة عن عاداتنا الشرقيّة، بعد السماء عن الأرض. ومع ذلك قرّرت مواصلة استنطاق جارتي حتى النهاية، فقلت :
ـ هل من مانع لديك إذا دخلت (الكاراج)، ووضعت هذه الباقة من الورد قرب صندوق المرحوم؟
ـ لا.. لا.. أبداً، ولكن الصندوق ليس في (الكاراج) .
ـ هل ما زال في بيت ابنك؟
ـ كلاّ ..
ـ أين هو إذن؟ !
ـ لقد أتت حفيدتي منذ لحظات، ووضعت الصندوق فوق درّاجتها الناريّة، وانطلقت به صوب المحيط .
ـ لتنفيذ وصيّة جدّها.. أما هكذا؟
ـ كلاّ.. كلاّ.. حفيدتي هذه، لـم تزر جدّها أثناء مرضه، حتّى ولـم تسأل عنه، وقد ندمت بعد وفاته على جفائها له، وها هي تحاول الآن الترفيه عنه، قدر المستطاع، فتأتي كل (ويك ـ أند) لتفسّحه على درّاجتها الناريّة .
وما أن أتمّت عبارتها هذه، حتى بدأ الدوار يسرح ويمرح في جمجمتي، وبدأت ألعن، بلغتي العربيّة طبعاً، هذه الأيام التي تشرذمت بها العائلات، وقلّ اهتمام صغارها بكبارها، لدرجة أن 75 بالمئة من العجائز (مشلوحين)، إن صحّ التعبير، في بيوت للعجزة. وأغتنمها فرصة لأحذّر الجميع من أن المستقبل قاتـم جداً أمام العديد من العائلات العربيّة، التي استهترت بتربيّة أطفالها، وانغمست في مستنقعات المادّة، واللـه وحده يدري كيف ستكون نهاية أفرادها .
وبعد استغراق مؤلـم، سألت الجارة :
ـ هل أنت راضية عن عمل حفيدتك هذا؟
ـ كل الرضى ..
وهنا صرخت كالمجنون الفالت من أحد المصحّات العقليّة :
ـ اسمعي يا مسز (مدري شو)، قولي لحفيدتك: أشرف لها ألف مرّة أن تترك جدّها في (كاراج) البيت من أن (تمشوره) على درّاجة نارية ..
ـ ولماذا يا مستر بعيني؟
ـ لأن اللـه خلقنا مرّة واحدة، ويميتنا مرّة واحدة أيضاً ..
ـ وما دخل هذا بذاك؟
ـ ماذا سيحدث لو اصطدمت درّاجة حفيدتك بسيّارة شحن مسرعة؟
ـ ستموت بالطبع ..
ـ وماذا سيحدث للمرحوم جدّها؟
ـ سيموت أيضاً !!
ـ وهل سمعت بإنسان يموت مرّتين؟
ـ يا إلهي.. من الآن وصاعداً سأعمل بنصيحتك أيّها الجار العزيز، وسأضعها أمام الأمر الواقع، إمّا أن تترك جدّها في (الكاراج)، وإمّا أن تأخذني معه .
هنا، لـم أعد قادراً على ضبط أعصابي، فانفجرت ضاحكاً، ولسان حالي يردّد :
الواحد منَّا بدُّو يموت
مرَّه.. مرتين.. وأكتر
وصعبه يرتاح بتابوت
أَو بِـصندوق مسكَّر

[email protected]