منذ خمسين سنة ونيّف، ألقت أميركا قنبلتين ذريتين على مدينتي نغازاكي وهيروشيما اليابانيتين، فأحرقت الانسان والبنيان، وتحولت الارض إلى جحيم قاتل. فرفع اليابانيون أيديهم استسلاماً، وأعلنت يابانهم الأم انكسارها في الحرب، دون أن تفكّر بالثأر، أو أن تهدد بانتقام عسكري جديد، أو أن تزنّر أبناءها بقنابل متفجّرة تقتل الأبرياء قبل أن ترعب الأعداء، كما يحصل الآن في عراقنا الحبيب، بل راحت تحضّر نفسها لانتصار أعظم، ألا وهو انتصارها الاقتصادي على معظم دول العالـم بما فيها أميركا.
باختصار شديد، أرادت اليابان أن تركع أميركا التي أركعتها عسكرياً، لا بالتسلح والموت، بل بالاقتصاد والتكنولوجيا والحياة السعيدة، وكان لها ما أرادت.
وخير دليل على ذلك الألعاب الألومبية الشتوية التي استضافتها منذ سنوات ، فلقد قدمت لضيوفها الرياضيين القادمين من كافة دول العالم، وخاصة المتقدّمة منها، وجبات من الدجاج المبرّد مع بعض المواد التي لا تؤكل باردة. فاحتج اللاعبون وقامت قيامتهم، واعتبروا أن اليابان تستخف بهم، فما كان من منظمي الالعاب إلا أن طمأنوهم قائلين:
ـ هذا ليس أكلاً بارداً. إنه أكل ساخن.
فصاحوا بصوت واحد:
ـ وكيف يكون ساخناً وهو بارد كطقسكم تماماً.
فابتسم اليابانيون لضيوفهم المتخلفين عنهم تكنولوجياً، وعلامات السخرية بادية على وجوههم وقالوا:
ـ إسحبوا هذا الخيط الرفيع وسيصبح الأكل ساخناً بغمضة عين..
وعندما سحب اللاعبون خيطاً لا يتجاوز طوله 20 سنتم، أصبح الأكل ساخناً، وكأنه خارج لتوّه من الفرن.
سطح الجزر اليابانية بمعظمه بركاني، وأشهر براكينها (فوجي ياما) المقدّس. ورغم فقر أرضها للمواد الأولية كالمعادن والفحم الحجري، وضيقها من الناحية الزراعية، تعتبر اليابان أول دولة اقتصادية في العالـم. ويعود الفضل بذلك إلى تصميم شعبها على بنائها بعد هزيمة لا يقوم بعدها سوى الجبابرة.
والظاهر أن اليابانيين عرفوا كيف يعيشون حاضرهم ويحضرون مستقبلهم، فقاموا بتصميم سيارات رائعة كانت السبب في كساد السيارات الأوروبية والأميركية، خاصة بعد أن أصبحت المعامل اليابانية تصدرها الى جميع دول العالـم، كالهوندا وال نيسن ، والتويوتا وغيرها. وصدقوني إذا قلت إنني، وبسبب الفوضى القاتلة التي تعم أوطاننا العربية، تمنيت من كل قلبي لو كنت يابانياً، أحمل جرحي إلى الحضارة والنبوغ وليس إلى الموت الأسود، وأسخر طاقاتي العقلية في بناء وطني المهدم لا بتهديمه أكثر فأكثر.
عروبتي أصبحت عبئاً ثقيلاً علي، أخاف أن أجاهر بانتمائي إليها، أو بالسكن في أوطانها المسكونة بالخوف.. والموت، فالعالم كله يسير إلى الأمام بخطوات جريئة، أما هي فتتدحرج إلى الوراء، إلى الماضي السحيق، إلى العدم.
عجيب أمر هذا الشعب الأصفر، فلقد تمكن من احتلال العالـم تكنولوجياً بعد أن أخفق في احتلاله بقوة السلاح. وصدق من قال: العقل دائماً يغلب البندقيّة.. بربكم، أما آن الأوان كي نتعظ ونعانق السلام؟

[email protected]