كان ذلك اليوم مكفهرا، والزحام يملأ مكاتب الجامعة العربية، ووزراء الخارجية يتدافعون مهرولين نحو المطار قافلين إلى بلدانهم، فالاجتماعات رفعت بعد دقائق من وصول النبأ الزلزال من الرياض حيث اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز برصاص ابن أخيه، من بين الوزراء الذين قفزت لاستجلاء رد فعلهم على الحدث العربي الجلل، كان عبد الحليم خدام، كنت قبل ذلك تكلمت مع عبد العزيز بو تفليقة وزير خارجية الجزائر، وأحمد خليفة السويدي وزير خارجية الإمارات، وأمين عام الجامعة العربية الراحل محمود رياض، كل أعطى ردة فعله بكلمتين، وانتهى الأمر بسلام، إلا خدام أبى واستعصى، واستدار نحوي وأنا الهث راءه قائلا "طيب ما تحل عني،، الوقت مش للكلام، خللي غيري بقى يتكلم،، وبعدين مين قلك إني بتكلم وأنا ماشي،، قلت له طيب تفضل واجلس"،، فلم يجلس ولم يتكلم خدام. كان ذلك في العام 1975 ،، أما في العام الذي تلاه، والأعوام التي تلت فإنني رأيت عميد الدبلوماسية السورية لمرات ومرات، سواء في عمان أو دمشق حيث شرعت العاصمتان ما سمي آنذاك بالتنسيق والتكامل على طريق الوحدة التي كانت دمشق البعث تطمح إليها "عودة الفرع الأردني إلى الأصل السوري" بينما عمان الهاشميين كانت ترفضها مكتفية بتنسيق وتكامل المواقف على صعد كثيرة، لكن التنسيق انهار كعادة أي عمل عربي مشترك.
في كل مرة كنا نحن جوقة الصحافيين نلتقي خدام، كان يتكلم وكان ينتقي كلماته بهدوء ولكن بفظاظة لا تخلو من توجيه الاتهام لهذا الطرف أو ذاك، أو أنه لم يكن يتوانى باتهام الصحافيين أنفسهم في قلة معلوماتهم،، وفذ هذه يبدو مع أن الحق مع أبي جمال،، كثير من الزملاء في المهنة أو الطارئين عليها لا يستعدون لمعاركهم في السؤال والجواب ولا يدركون أن المعلومات قوة، لذلك يذهبون إلى المؤتمرات الصحافية أو المشاركة في تغطيات لأحداث كبيرة دون أدنى درجات الاستعداد والتزود بالمعرفة ولهذا يجعلون من أنفسهم ضحايا غير بريئة لوزير لامع مثل خدام أو غيره من الدبلوماسيين الحاذقين.
لكن الأمر كان مختلف جدا، ليس ادعاء أقولها، معي هذه المرة مع عبد الحليم خدام، ففي ربيع 1976 اشتدت حركته المكوكية بين العواصم، فملف لبنان الذي عهد إليه كان ساخنا،، ففي ذات مساء، كنت مع زملاء مراسلين لصحف أردنية في صالة دار رئاسة الوزراء الأردنية ننتظر انتهاء جلسة مجلس الوزراء منتظرين التقاط خبر أو معلومة ندفعها إلى صحفنا قبل ذهابها للطبع.
فجأة وسط همروجة أمنية ودربكة سياسية وصل خدام، وصعد من دون أن يلتفت إلينا رغم تدافعنا نحوه، إلى الطابق الثاني حيث مكتب رئيس الوزراء الأردني زيد الرفاعي الذي كان وزيرا للخارجية والدفاع،، وإذ انفض مجلس الوزراء،، ولم نحصل على معلومات، إلا أن الخبر جاءنا يركض بوصول خدام المفاجىء، والأكثر مفاجأة هو أنه بعد دقائق وصل الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال، على متن طائرة هيلوكبتر، وكان معه رئيس ديوانه الراحل عبد الحميد شرف،، فانضم الرجلان لاجتماع الطابق الثاني.
ساعة أن انتهى الاجتماع، ندهني عبد الحميد شرف على حدة، قال لي ليتك تسأل أبي جمال عن سر إبعاد الأردن عن مؤتمر الرياض،، هذا المؤتمر للتذكير عقد بدعوة عاجلة من المملكة العربية السعودية لبحث تطورات الوضع اللبناني، وكان بداية تجسيد إرسال قوات الردع السورية إلى لبنان، وفعلا ساعة هبط الملك وخدام والرفاعي من الطابق الثاني، انتظرت قليلا حتى وداع الملك، فهممت نحو خدام، ووجهت إليه السؤال،، كان الرفاعي وشرف واقفين، وليتني لم اسأل،، وكأنني اقترفت جريمة يعاقب عليها القانون،، رمقني خدام بغضب وقال "اسمع؟" قالت نعم، أضاف "روح تعلم كيف تسأل!!!"، قلت : بس عفوا معااااااالي ،، ولم يدعني اكمل ،، فنظر إلى الرفاعي وشرف مكملا حديثه معهم عني وعن إعلام العرب "غريب وضعنا الإعلامي العربي ،،، من هيك نحن دايما مهزومين!!"، لم أكمل سؤالي لخدام، ولكنني رددت عليه "يا معالي الوزير، لا اعتقد أن في سؤالي ما يحمل الغلط،، هذا انتم تجتمعون في الرياض،، وتستنون عمان الت تزروها،، فهل من سبب،، على أية حال أنا اسحب سؤالي،، أما إنك تقول أن سبب الهزائم هو الإعلام،، اعتقد أنك تعني إعلام سورية،، لا غير""،، طبعا جوابي هذا لم يمر من دون عتاب قاس في اليوم التالي من رئيس الوزراء الرفاعي أو من الراحل عبد الحميد شرف الذي كان ابتلاني بتوجيه السؤال".
ما علينا، تمر السنوات،، وها نحن في العام 1980 ، وقتها كنت في أبوظبي مديرا لمكتب جريدة الخليج الشارقية بعد أن بدأت حياة المنافي والغربة،، وظهر ذات يوم اتصل بي السفير السوري في العاصمة الإماراتية داعيا إياي على كأس من الشاي في منزله، وقال هناك شخصية مرموقة ستلتقي بها وصلت اليوم على عجل،، وفعلا لملمت أوراقي وفي ذهني ألف سؤال، ترى من هي تلك الشخصية،، وقتها كانت أجهزة الإمارات الأمنية أحبطت عملية إرهابية لاختطاف طائرة، واعتقل رجلان قيل إنهما من المخابرات السورية،،
مرة ثالثة أجد نفسي في مواجهة خدام،، نعم إنه كان تلك الشخصية الخفية،، كنا خمسة من الصحافيين نتحلق حوله،، مع السفير وبعض من رجال السفارة،، ومن سؤال إلى آخر جاء دوري،، فسألت خدام سؤالا ثأريا،، بالطبع لم أكن أنسى جوابه على سؤالي العام 1976 ، لهذا يقال إن البدوي ـ وأنا كذلك ـ نال أخذ بثأر أبيه بعد أربعين عما، وقال "فعلتها ولكنني استعجلت""، اليوم هو يوم ثأري بعد أربع سنوات،،
لقد جاءني شعور غريب بأن الوزير خدام،، ليس هو ذلك الرجل الذي تعودنا شراسة إجاباته،، إنه في مهمة لإخلاء سبيل السوريين المعتقلين، جاء دوري في السؤال، قلت له: يا سيدي بعد هذا الشرح الطويل عن العمل الدبلوماسي العربي الشاق،، ألا تعتقد أن هذا العمل هو سبب هزائمنا وليس الإعلام؟؟ ثم يا سيدي أنت حكيت عن كل شيء ما عدا زيارتكم السرية الخاطفة للإمارات؟؟ نظر أبو جمال هذه المرة بهدوء تما وبابتسامة خفيفة، قال "ممكن تيجي تجلس بجنبي"، قلت : حاضر، وفعلا انزاح السفير عن المقعد المجاور،، وجلست إلى جانب عميد الدبلوماسية السورية ونشيطها وعراب لبنان، يا لفرحتي ويا لسعادتي،، حظوة ما بعدها حظوة،، أمام الجميع: سألني خدام بلهجته السورية: ممكن تزكرني باسمك؟؟ قلت : أنا اسمي نصر المجالي،، قال: أنا شايفك،،أجبت: كثير يا سيدي،، قال: يعني مجالي من عندنا من جنوب سورية،، قلت نعم بالعرف الأردني وليس بالعرف البعثي،، هنا ضحك، وقال "أنا بحب جاوبك على سؤالك،، لكن فيه شق أنا ما بقدر حكيه،، لكن الدبلوماسية العربية فعلا مهزومة"".
يتخلى عبد الحليم خدام اليوم عن سرج العمل الدبلوماسي والحزبي،، لقد كان خدام نجما حقيقيا،، وكان خدام مرنا وشرسا،، وكان خدام معتدلا وواقعيا،، رجالات كثيرة سقطت على الطريق،، وحرقت أوراقها مع أول هزيمة،، لم يهزم خدام أبدا،، ولم يعادي أبو جمال أحد أبدا اللهم "إلا نرفزاته مع الصحافة" ، سواء على هامش اجتماعات القمم العربية أو اللقاءات الشبيهة على مستويات أدنى،، والذي قيل كما أورده الأستاذ ألكبير عميد صحيفة (النهار) غسان تويني اليوم، هو أن أبي جمال كان يتحداه أن ينشر مذكراته.
أنا أدرك سلفا أن عمنا أبو جمال لن يذكرني كما ذكرته اليوم، في مواقع ثلاثة، ربما يتذكر كل شيء ما عدا هذه، أليس هو "النرفوز" الدائم مع الصحافة؟، فكيف يذكرها؟ ولكن بالتأكيد، فإن ما سيخطه قلمه وما سينشره، وكلنا يأمل ذلك وينتظره سيكون سفرا تاريخيا لمرحلة مثيرة في تاريخنا العربي،، هناك مراحل وأحداث وتطورات حافلة لم تكن تصل إلى الصحافة منها إلا القليل من المعلومات،، هل نأمل بمذكرات حافلة بالكثير،، ومع الأمل المصاحب،، نقول لأبي جمال: هنيئا قرار الاستقالة ;التنحي وإفساح المجال أمام الأجيال الصاعدة،، قرار جريء في مرحلة مهمة من تاريخ سورية،، ليت طارق عزيز كان نصح بها صدام حسين وجنب العراق مآسيه جميعا.
ابو جمال هنيئا إليك، وتقاعدا سعيدا.

[email protected]