في اعتقادي أن أهم أربعة كتب صدرت في مصرفى السنوات العشر الأخيرة بالنسبة للبحث في المشاكل الحقيقية ووضع تصور مستقبلي لها هي كتاب سعد الدين ابراهيم "الملل والنحل والأعراق"، وكتاب سعيد النجار "تجديد النظام الاقتصادي والسياسي في مصر"، وكتاب "وصيتي لبلادي" لإبراهيم شحاته وكتاب طارق حجي "نظرات في الواقع المصرى". هذه الكتب يمكن اعتبارها أجندة حقيقية لوضع مصر على خريطة المستقبل بالنسبة للعالم، وما يسعدني أن الشخصيات الأربعة هم أصدقاء مقربون لي وقد تشرفت بالاقتراب والصداقة والتفاعل الإنساني معهم جميعا. وقد رحل عن عالمنا كل من الدكتور سعيد النجار والدكتور ابراهيم شحاته وتركا فراغا كبيرا وأتمنى الصحة وطول العمر للدكتور سعد الدين ابراهيم والأستاذ طارق حجي، غني عن البيان أن القاسم المشترك لهذه الشخصيات هي تصالحها التام مع العالم المعاصر والحضارة القائمة عليه، وهي الحضارة الغربية، فجميعهم تعلموا من هذه الحضارة ومثل رواد النهضة في مصر يحاولون نقل تجربة التقدم وأبعاده ومسبباته من المجتمعات الغربية إلى مصر.
كل كتاب من هذه الكتب يحتاج إلى عدة مقالات لعرضها لأن كل كلمة كتبت بدقة وتهدف إلى معنى عميق من ورائها.
في مقدمة كتابه القيم "وصيتى لبلادى" طرح الدكتور ابراهيم شحاته، النائب الاول السابق لرئيس البنك الدولى والحاصل على الدكتوراة من جامعة هارفارد، الخيارات المتاحة لمصر في خيارات ثلاثة أمام الشعب المصري : أن يسير إلى الخلف، أو يسير في محله (محلك سر)، أو يسير إلى الأمام.
في تصوري أن المنافسة في مصر هي بين نظام يسير في محله منذ أكثر من ربع قرن، وجماعات دينية معارضة تسير إلى الخلف وجذبت قطاع من الشارع وراء أفكارها السلفية وتريد أن تقفز إلى الحكم لكي تجر المجتمع كله الى نفق مظلم لربع قرن آخر. الذي يتحرك مكانه والذي يتحرك إلى الوراء كلاهما يؤدي إلى تخلف المجتمع ولكن بدرجات مختلفة طبعا في الحالتين وخيارات مصر المستقبلية يجب أن تكون هي السير إلى الأمام ولهذا فكل من الخيارين المطروحين على الساحة حاليا لا يمثلان طموح شعب ينظر للمستقبل.
بالطبع فإن خيار السير إلى الوراء هو الخيار الأكثر ظلامية وتدميرا وأتمنى أن لا ينتصر هذا الخيار، ومنذ أيام نقلت صحيفة الواشنطن تايمز صورة لمظاهرة الأخوان المسلمين في القاهرة، وحتى في المظاهرات هناك فصل بين النساء والرجال وكانت الصورة لمجموعة كبيرة من السيدات لا يوجد بينهم ولا سيدة واحدة غير محجبة، حتى أن صديقة أمريكية انزعجت من المنظر وقالت لى هل هذه هي الديمقراطية القادمة إلى مصر إنها طالبان أخرى.
يقول د. ابراهيم شحاته عن السائرين للخلف : بانه الارتداد الفكري والتطلع إلى العيش في القرن الحادي والعشرين وفق الممارسات والتفاصيل بل والطقوس والخرافات التي سادت في عصور غابرة. ويستطرد هذه الحركات التي تسمي نفسها (إسلامية) تجاهر بأن لديها الحل لكل مشاكل المجتمع كشعار عام لا تقدم بعده للناس تحليلا وافيا للتفاصيل التي يقتضيها الحل، أو تقدم حلولا سطحية لا تخفي العبارات التي تغلفها ما في حقيقتها من سذاجة. التي تطالب بأن يفرض الرجال حجابا على عقولهم يجعلهم يفسرون كل الظواهر على أسس غيبية، رافضة بذلك مبدأ السببية، وأي تفسير علمي للظواهر الطبيعية والسلوكية.
أصحاب هذا الاتجاه الارتدادي يشغلون أنفسهم ويريدون أن يشغلوا مصر كلها بصغائر الأمور وخاصة ما تعلق منها بالمسألة الجنسية، فالجنس عندهم يكاد يكون المعيار الوحيد للفضيلة. وهم يرتبون على نظرتهم نحو الجنس نظرة أخرى نحو المرأة من شأنها تحقير دورها في الحياة العامة والعمل.
أصحاب هذا الاتجاه يعادون العالم من حولهم وينظرون دائما نظرة الشك والكراهية، بل ويعادون بني دينهم ووطنهم الذين يخالفوهم الرأي. وقد دأب بعضهم من الشباب المتحمس إلى القتل والنهب ظنا منهم أنهم بذلك يشترون الجنة.
أصحاب هذا الاتجاه الارتدادي يعملون على نشر البغضاء وجر الدولة إلى الحروب والمواجهات مع الدول الأخرى في دائرة لا تنتهي من الخراب والدمار.
أصحاب هذا الاتجاه يسعدون بالهجرة إلى الماضي والانغلاق عليه واحتباس المستقبل فيه.
الدستور الذي يريده أصحاب هذا الاتجاه دستور دولة دينية ظلامي يردد شعارات جوفاء لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالتحديات الجديدة للإنسان المعاصر.
مما يؤسف له أن أصحاب الاتجاه الارتدادي قد صبغوا عقل مصر ووجدان شبابهم برؤية دينية تقف حائلا دون التغيير الجذري في مجالات كثيرة في مصر.
المحزن حقاً أن الصراع الحقيقي على الأرض كما قلت هو بين هؤلاء الجامدين في مكانهم والذين يرفضون في عناد وإصرار الاعتراف بفشلهم بل بالعكس يرجون لمقولات وأرقام عن نجاحاتهم المذهلة، وبين هؤلاء الذين يريدون جر مصر ليس إلى فشل فحسب وإنما إلى كارثة ويشتركون معا في المزايدة بالشعارات والهوس بنظرية المؤامرة ورفض التأثيرات الأجنبية الإيجابية ومحاولة كل منهم الاستفراد بالشعب المصري وسحقه ومحاربة كل جديد يؤدي إلى تغيير حقيقي.
إن أصحاب السير إلى الأمام هم قلة ضعيفة متفرقة ليس لها منابر ومستهدفة ومضطهدة من كلا الاتجاهين السابقين. المشكلة الحقيقية أن الديمقراتس محصورين بين الثيوقراتس والأوتوقراتس، أي أصحاب التغيير والدعوة للديمقراطية والحريات والانفتاح والتقدم هم بين شقي الرحي من دعاة الدولة الدينية الفاشية من ناحية وبين المستبدين السياسيين من الناحية الاخرى، ولا يوجد أمل لتغيير حقيقي في مصر نحو التقدم إلا بتقوية هذه الفئة المحاصرة المضطهدة والتي تملك في الواقع أدوات حقيقية للتغيير.
خذ مثلا الموقف من الدستور يين أصحاب الاتجاهات الثلاثة فالدولة جعلت من الدستور بقرة مقدسة لا يجوز الاقتراب منها أو مساسها، وعندما يحدث تغيير تحت ضغوط هائلة داخلية وخارجية، يأتي التغيير أيضًا ليكرس حالة الاستبداد والجمود، أصحاب الاتجاه الارتدادي إذا أنيط لهم تغيير الدستور فسيأتون بدستور دولة دينية ظلامية كما هو حادث في كل من السعودية وإيران. ورغم أن الدستور المصري بالفعل مصبوغ بصبغة دينية كريهة إلا أنهم يريدون المزيد من تديين وظلامية هذا الدستور.
أصحاب تيار المستقبل يريدون دستور مدني يليق بدولة حديثة تسعى للتقدم.
السؤال الصعب الذي يتردد في الغرب والشرق على السواء من سينتصر في مصر في النهاية؟ أصحاب الاتجاه الارتدادي، أم الجامدين الذين يدورون في دائرة مغلقة، أم ستحدث المعجزة وينتصر تيار المستقبل؟

[email protected]