تتوالى الأخبارالسيئة تباعاً في هذا الزمن الوغد، لتزرع المزيد من الإحباط واليأس في نفوسنا. فبعد كم الموت والخراب المنبعث من بين أساطير وخرائب "شرق المتوسط"، يأتي خبر إعتزال المفكر المصري الكبيرالدكتور سيد محمود القمني الكتابة والإبداع رضوخاً لتهديدات الإرهابيين أعداء الفكر والحوار.ورغمّ أن القمني، في منظورنا الشخصي، شارفّ على الإنتهاء من مشروعه الفكري/التنقيبي في التراث والفكر الإسلامي، وإرتباطاته الكثيرة والبينّة بعقائد المنطقة وفلسفاتها(سواء منها المنبعثة عن {ثقافة النهر} أو {ثقافة الصحراء} كما قال هو ذات مرة) وذلك بطرحه لكتبه المتعددة: الإسطورة والتراث، رب الزمان، حروب دولة الرسول، الحزب الهاشمي، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، شكراً إبن لادن، النبي موسى وتل العمارنة.رغمّ هذا فالخروج من الحلبة بهذه الطريقة"رضوخاً لتهديد جماعة سلفيّة" حاربّ القمني الفكرالذي تستند عليه مثيلاتها طويلاً، يٌحبط الهمم ويثير زوابعاً من الأسئلة، يتعلق بعضها بقرار القمني الشخصي هذا، وهو الثابت الشجاع في مقارعة الفكرالإرهابي الظلامي كما عهدناه، ويتعلق قسمها الأكبر المتبقي بحالة اليأس وظاهرة الشلليّة الحضارية التي وصلت إليها بلداننا الشرق أوسطية: إنتشار الإرهاب وتغلغل رموزه ومٌنظريّه في الأجهزة التعليمية والإدارية وسهولة صنع ـ وربما تنفيذ ـ أوامرقطع اللسان والرقبة بحق هذا القلم أو ذاك.
من يلوم القمني هنا من الإخوة الكتاب، عليه أن يتذكر الصحافي المصري رضا هلال(مثالاً مايزال طازجاً) والكوكبة المعروفة من ضحايا الفكر السلفي التخويني. فليس باليسير العيش خلف "بحرالظلمات" حيث يٌحيط بك بيوت الصفيح من كل جهة، وأناس غوغاء تربوا على الكره ورفض الآخر، وتغذوا على أفكار التفوق والنرجسية الدينية التخوينية (رغم حالتهم البائسة تلك) وتستمر بنفس قوة وإندفاع ذاك اللاجئ المترف في كنف الغرب "الكافر" والعامل تحت حماية قوانينه الوضعيّة( ذات المنشئ البشري)!. شيء صعب وخارق أن يحدث هذا.
سيد القمني ليس بكاتب جبان، ومن يده في الماء ليس كمن يده في النار. سيد القمني أبدع وأنجز وأسس مدرسة فكرية/بحثيّة عملاقة، سلطّ في مشغله المتواضع، الضوء الساطع على نصوص التراث الصدئة، ففككها وأعادها إلى زمانها ومكانها الأولين، مستعيناً لإنجاز كل ذلك، بإخباريات وسيّرهذا التراث نفسه.
سيد القمني، العالم الحاذق، الذي كتبّ في الأول من يناير عام 1997 عن " منهج الهبوط العربي" في مجلة (العربي) الكويتية، وشدّ كاتب هذه السطور لجرئته وإسلوبه الرصين الآخاذ، وضع إصبعه على الجرح العربي النازف. حذرّ وقتها، وقبل كل سلسلة الكوارث الإرهابية هذه، من نمو الظاهرة الإرهابية في كنف التعليم التحريضي للصغار، وتخبط مناهج التعليم العربية في تقديم المادة التربوية المناسبة للجيل العربي الناشئ، وحذر كذلك من إستمرارالنوم في عسل التراث الأسود وتوسد مقولة"خير أمة أخرجت للناس" تلك. سيد حذرالقوم حينئذ، لكن أي قوم؟ فلاحياة لمن تنادي...!
وبعد أن أتمّ سيد القمني مشروعه الفكري، أو كاد، وقدم ما أردّ أن يقدمه. ليس من ضير في التفرغ لتربية أبنائه فلهم عليه حق، كما قال في بيانه البارحة...

صحافي كردي ـ ألمانيا
[email protected]