قد يبدو من المنطقي أن تكون البداية بحكاية (جاليليو) الذي قمع أكثر من اللازم في عصور محاكم التفتيش، ورضخ لتهديد الكنيسة، وأنا أبدأ الكتابة عن المقموع (سيد القمني). تقول الحكاية: حين خرج (جاليليو) باكتشافه العظيم والذي حطم حكاية الكنيسة القديمة بأن الشمس تدور حول الأرض، فقد أثبت أن العكس صحيح وأن الأرض هي من يدور حول الشمس بل ورغم أنفها وأنف كل القساوسة (الدجالين)، غضبت الكنيسة وأعلنت أنها ستحرقه تقربا إلى الله إن لم يعد عن كفره، فأعلن (جاليليو) في المحكمة، تفاهة وتهافت فكرته واكتشافه، فعاد إلى حظيرة الكنيسة مع القطيع ليرعى مع بقية الرعية.
رغم اعترافه، لم تقتنع الشمس بأنه يجب عليها أن تلف هي حول الأرض، ولا هي الأرض كفت عن الدوران من أجل سمعتها وسمعة القساوسة حول الشمس.
في ذاك اليوم وبعد أن نجى من الحرق، التقى به أحد تلاميذه غاضبا على ضعف معلمه، وقال له بصريح العبارة : ويل أمة لا تملك أبطالا.
قال جاليليو باختصار : ويل أمة تحتاج لأبطال.
هكذا كان يرى جاليليو الأمور، وأظنه كان يريد أن يقول إن أمة لا تصنع إنسانا قويا، وتجلس على قارعة التاريخ تنتظر (بطلا خارجا من شقوق الزمان)، ليخلصها ويحل مشاكلها، أو تنتظر كما يقول أحد الدكاترة السعوديين حين سئل عن كيف ستخرج هذه الأمة من أزمتها : (إن السماء دائما ما تتدخل حين يطغى قوم على قومِ).
فيما تلميذه كان يريد من جاليليو أن يحترق، ليقدسه ويعبده بعد مماته، ويروي ويحاج الآخرين عن عظمة معلمه الذي مات من أجل المعرفة، وأنه لا يحق لأحد نقد فكر جاليليو المخلص، وبعد وقت يصبح مقدسا لا يحق للجيل الجديد نقد أفكاره متعللا (ألا يكفي أنه احترق ليكون على صواب؟).
بعد هذه الحكاية/المقدمة، علي أن أنوه بأني لا أريد إيصال فكرة مفادها أني أقارن بين (جاليليو) و (القمني)، فما أتى به (جاليليو) حقيقة مازالت قائمة ولا يمكن نفيها أو الجدل بها أو الاختلاف حول من يدور حول الآخر الشمس أم الأرض؟، فيما (القمني) وما يطرحه قابل للصواب والخطأ، وللجدل وللرفض، بقدر ما أريد إيصال أن تلاميذ (جاليليو) هؤلاء الثوريون المراهقون المخربون والطيبون أيضا، والمتواجدون بكثرة في كل حقبة زمنية (ولأنهم كثيرون لا يذكرهم التاريخ بل يذكر أصنامهم فيما هم يذكرون بالتلاميذ دون معرفة أسمائهم لأن التاريخ لا يمكن له كتابة أسماء كل التلاميذ).
هم اليوم غاضبون على (القمني) ويصرخون بوجهه (يا جبان)، وهناك من وصفه بالميت الحي، لأنه رضخ ولم يقبل بأن يكون ميتا فقط.
هؤلاء ومع احترامي الشديد لإنسانيتهم، هم يريدون أصناما ليعبدوها، هم كذلك يريدون الآخر أن يضحي من أجلهم وليمت، وسيكتبون عنه معلقات بعد مماته، ثم يتركون أبناءه إلى السماء وحين لا تمطر السماء مالا، سينطلق الأبناء للطرقات.
لنبتعد عن التلاميذ ولنتحدث بشيء من المنطق، أعني منطقي أنا حول ما حدث وما يحدث، وهل من المنطقي أن يتخذ (القمني) هذا الموقف القريب من موقف (جاليليو) ويكفر بكل ما قاله؟
عني باستطاعتي أن أنظر وأقول لو كنت مكانه سأكتب ولن أكترث، ولكن عند المحك لا يعرف الإنسان ما التصرف الذي سيتخذه لأن الأمر يتعلق بالخوف، فالطبيعي أن يهرب الإنسان حين يواجه وحشا وهو أعزل، يتعلق بحب الحياة، يتعلق بحبك لأطفالك وهل أنت تفكر كالبقية بأن السماء ستمطر، أم أنك تعرف أن الأوطان العربية لم توجد ولا هي أسست منظومة تحمي أبناءك من التسكع والتسول في الطرقات، وأن عليك واجبا أمام هؤلاء الأطفال الذين تسببت في وجودهم بهذا العالم، وأنه لا يحق لك أن تفكر بعيدا عنهم وعن احتياجاتهم، لأنهم لم يجبروك على إحضارهم لهذا العالم المليء بالرعب، ثم تتركهم للطرقات.
لهذا لن أجيب على سؤال ما الذي يجب على (القمني) فعله بقدر ما أريد طرح سؤال أهم مفاده : هل ما فعله (القمني) يدخل ضمن الأمر الطبيعي، أم هو شاذ ومخالف لما هو سائد في العالم العربي؟
الأرض لا تنبت إلا ما تزرع، والمجتمع لا يمكن له إنتاج إنسان قوي طالما هو يقمع الفرد ويرعبه ويخيفه ولا يحقق له حياة كريمة ويطالبه بأن ينافقه وإلا سينفيه أو يرميه للطرقات، والكاتب المفكر هو في النهاية إنسان/ نبتة زرعت في أرض مليئة بالقبح والناجون قلة، وهؤلاء القلة إما منفيون في الأرض أو تحت الأرض.
يتحدث الكثير عن جبن (القمني) وأنه خضع لهذا التهديد، ولم يتحدثوا عن كل هذا الرعب الموجود في عالمنا العربي والأسطوري أيضا.
فالرعب ليس موجودا في هذه الفئة، فثمة إرهاب آخر وهو إرهاب الدولة وتهديد الكاتب أو ترغيبه ليتحول من مفكر إلى مبرر لسياسات الدولة، أو يصبح عاطلا عن العمل، هناك إرهاب جماعي أيضا، وأعني إرهاب المجتمع للفرد حين يقرر ألا يعيش هذا النفاق الاجتماعي وأن يعيش كما يريد هو بعيدا عن هذا الزيف المسمى عادات وتقاليد لا كما يريد له المجتمع، هناك إرهاب أكثر قسوة وهو إرهاب الكتاب الذين يجردون الإنسان من حقه أن يكون إنسانا يخاف على حياته في أوطان مرعبة.
إن من هددوا (القمني) بقطع رأسه ليسوا نبتا شيطانيا، إنهم أشخاص ينفون ويرفضون الرأي الآخر، وهؤلاء كثيرون ولكل منهم سلاحه، هناك من ينفيك باسم الله، وهناك من ينفيك عن الأخلاق والشرف حين تختلف معه، وكلتا الفئتان مرعبة ، وكلتا الفئتان ينتجهما المجتمع العربي بكثرة.
إن أزمتنا ليست لأن (القمني) والكثيرين يغيرون أفكارهم، بل لأن الأرض التي يزرع بها الإنسان أرض قاحلة، أرض/ مجتمع إلى الآن لم يؤسس لاحترام الفرد، فالفرد لا قيمة له وهو تافه ويمكن له أن يموت غير مأسوف عليه، فما بالك حين نتكلم عن أفكاره.
حتى على مستوى الكثير من المثقفين لا قيمة للفرد ، فهم يريدون (القمني) أن يموت ولا يرضخ لهذا الرعب، ولم يسألوا أين وزارة الداخلية ولماذا لا يتحقق للفرد العادي الأمن؟
لِمَ كل هذا الإرهاب وذاك العنف الجسدي واللفظي يسكن في الأوطان العربية؟
إن ما فعله (القمني) أمر طبيعي، أو هو متوقع لأن الأرض لا تنبت إلا ما تزرع، والمجتمع ينتج الفرد بهذه المواصفات إلا من رحمه ربي.
لهذا كفوا عن إرهاب الرجل، فليس من العدل أن تهدد حياته بسبب أفكاره، وتهدد إنسانيته وكرامته بسبب تركه هذه الأفكار القاتلة.. وتساءلوا لماذا المجتمعات العربية تصنع كل هذا الرعب للإنسان؟
إن (القمني) يعلن وإن لم يقل هذا بصريح العبارة، إنه إنسان خائف ومرعوب، لهذا لا تطلبوا منه أن يكون نصف إله يعبد هو وأفكاره بعد مماته.
لا أدعو هنا لأن يكون الإنسان خائفا، بل أود أن أقول أصلحوا الأرض لتكون النبتة قوية وقادرة على الإيمان بأفكارها والدفاع عنها، لأن الإنسان حين يشعر أنه وحيدا في هذا الوجود، وأنه لو حدث له مكروه من مجنون إرهابي، سيترك أطفاله للطرقات ولن تؤمن لهم حياة كريمة، لا يكفر بأفكاره بل وبهذه الأرض التي لا تنبت إلا العهر.
الله عز وجل خالق الإنسان، حين توضع حياة الإنسان على المحك وتهدد، يغفر لعبده أن يذبح قربانا لغيره، فيما أنتم تريدون منه تقديم حياته برهانا على أن المتطرفين سيئون.
بقي أن أقول: حين تكون التربة فاسدة لا يحق لكم أن تسألوا لماذا النبتة ضعيفة؟

[email protected]