... ومصر التى تنفق عشرة مليار جنيه على الخرافة!

من المؤكد أن المصريين من القراء قد إستمعوا إلى حكاية الفتاة التى تحولت إلى سحلية كما سمعت عنها، والمدهش أن الذين قصوا على القصة وكانوا مصدقين لتفاصيلها هم من فئة الأطباء والمهندسين والصيادلة أى أنهم بحكم عملهم ولاأقول ثقافتهم مؤمنون بالعلم ومحاربون للخرافة، والحكاية بإختصار أن فتاة كانت تشاهد فيديو كليب أمام التليفزيون وطلبت أمها منها أن تترك الكليب لتقرأ القرآن، وعندما تكاسلت الفتاة ضربتها أمها بالمصحف فتحولت إلى سحلية وفى قول آخر برص وصرصار !!، وهذه الشائعة التى سرت فى مصر كالنار فى الهشيم يؤكد مروجوها أنهم شاهدوا الفتاة السحلية بأنفسهم.

[ الخرافة فى مصر هى بنت شرعية للعجز وقلة الحيلة، وعندما يفشل مجتمع فى تفسير ظواهر التغير وعوامل الخلل و"اللخبطة" و"اللخفنة" فيه فإن أبناءه يدقون بشدة على أبواب الخرافة والدجل لعلهم يجدون السبيل والحل والضوء فى نهاية النفق المعتم، ولأننا بلد يزدرى العلم ويحتقر الإحصائيات ويمقت التحليل ويبالغ فى التواكل والفهلوة وقول ياباسط، فقد أعطينا العقل أجازة مفتوحة وأقمنا له سرادقاً بإتساع حدود هذا الوطن لنستقبل العزاء فيه، وعندما تسللت الخرافة وخرجت من رحم الطبقات الشعبية لتفض بكارة أهم مؤسساتنا الإجتماعية لم نحرك ساكناً وإكتفينا بالفرجة، لم نندهش عندما صدر حكم محكمة الجيزة الإبتدائية للأحوال الشخصية بالطلاق لزوجه إدعت ان زوجها متزوج من "جنية " أو عفريتة دأبت على إزعاجها هى وأولادها وخاصة بعد أن حملت الجنية وخلفت من الزوج !، كده بسهولة برغم أن زوجات معدمات تحفى أقدامهن للحصول على حكم طلاق مماثل بدون وجود منافسة من الجنيات ولكن بلافائدة، ولم نندهش أيضاً حين عرفنا أن زيارة أضرحة الأولياء أصبحت واجباً مقدساً لكبار القوم من الوزراء والسياسيين بل ورؤساء الجامعات !، ولم نفاجأ حين قرأنا أن أحد وزراء الداخلية كان يستعين بشخص " أهطل" من الرجال البركة لكى يساعده فى إتخاذ قراراته المصيرية التى يتعلق بها مستقبل ومصير البلد، وأن هناك مسئولين كباراً كانوا يحضرون روح زعيم سياسى لإستشارته وأخذ رأيه 000الخ، أى أننا ببساطة تبلدنا فى إستقبال مثل هذه الأمور لأنها صارت عادية بل ومحتفى بها لأنها دخلت فى النسيج الإجتماعى لمصر ملتصقة بكرات دمها الحمراء.
[ كشفت الدراسة التى أجراها المركز القومى للبحوث الإجتماعية والجنائية منذ فترة ومن خلال الأرقام أن ظواهر الدجل والخرافة والشعوذة قد إستقرت فى النخاع الإجتماعى كماذكرنا، والأرقام حقيقة فى غاية الرعب والفزع، ولو نشر مثل ماذكره الباحث محمد عبد العظيم فى هذه الدراسة فى أى بلد فى العالم لقامت الدنيا ولم تقعد، ولكننا فى مصر نسينا القيام والقعود وأدمننا النوم، فالدراسة تقول أن نصف السيدات المصريات يعتقدن بالسحر والشعوذة ويترددن على الدجالين، وأن عدد الدجالين فى مصر قد تزايد بصورة سرطانية لدرجة أنه يوجد فى مصر دجال لكل مائة وعشرين مصرى، وهناك ثلاثمائة ألف شخص فى مصر يدعون علاج المرضى بتحضير الأرواح، وعدداً مثلهم يزعمون العلاج بالقرآن والكتاب المقدس، إضافة لوجود أكثر من ربع مليون دجال يمارسون أنشطة الشعوذة فى مصر، أما الرقم المذهل فهو أن المصريين ينفقون نحو عشرة مليارات جنيه سنوياً على السحر والدجل
، ورصدت الدراسة نحو مائتين وأربعة وسبعين خرافة تتحكم فى سلوك المصريين، وإحتلت العاصمة القاهرة المركز الأول فى عدد الدجالين، وإستأثر حى الشرابية بنسبة ثلث دجالى القاهرة، يليه حى السيدة زينب، ثم حى المطرية، ثم حدائق القبة فشبرا ومصر القديمة والجمالية، وفى النهاية تأتى ضاحية مصر الجديدة بنسبة 4%، بينما تكاد تنعدم النسبة فى الزمالك وجاردن سيتى، ولكن مالم تذكره الدراسة أن عدم وجودهم فى الأحياء الأرستقراطية لايعنى أن الإنصياع للدجل والخرافة سلوك يخضع للتقسيم الطبقى، فالأرستقراطية مثلها مثل أبناء الهامش فى قبولها للخرافة، ولكن أسلوب التعامل هو الذى يختلف، وهذا يدل على أن الخرافة مرض مصرى متأصل وليس مرضاً مرتبطاً بالطبقات الشعبية فقط، فكما تؤكد د.سامية خضر أستاذ الإجتماع أن 38% من المثقفين والمشاهير فى الفن والرياضة والسياسة من زبائن السحرة والدجالين، أى أن الزمالك هى التى تنتقل إلى الدجال وليس العكس.
[ ومن المدينة إلى الريف حيث الخرافة كالماء والهواء، يتنفسها الفلاحون ويشربونها ويتناسلونها، وقد رشحت الدراسة قرية "طناح " التى تبعد عن شمال القاهرة 150 كم، لكى تحصل على أوسكار قرية الخرافات، وذلك لإزدهارها بصورة رهيبة هناك حيث تنتشر بكافة الصور من قراءة فنجان وعمل أحجبة وطرد أرواح شريرة وتداوى بالقرآن وفتح مندل 00الخ، وبها أغلى دجال فى مصر وهو الشيخ إبراهيم والذى تبلغ إستشارته ألف دولار!!، والذى يقول عنه الصحفى نبيل شرف الدين أنه لايستقبل سوى النجوم اللامعة وأثرياء الخليج، وأحياناً تحط طائرات مروحية على سطح منزله وكأنه البيت الأبيض!، وبذلك تحول الدجل من مجرد عقيدة إلى بيزنس، ومن أوهام تدور فى تلافيف العقول إلى سطور فى ملفات قضايا ومحاضر شرطة، فكما ذكرنا من قبل فى قضية الزواج من العفريتة، فإن الشرطة فى مطروح ماتزال هى أيضاً تبحث فى سر تعطل العربات عند قرية " حسميك"، وتؤكد أن التعطل والحوادث هى نتيجة طبيعية لأشباح البدو الذين إحترقوا فى حريق ضخم منذ أكثر من مائة عام، وغالباً ماتلجأ للدجالين هناك لحل هذه المعضلات المرورية!.
[ إمتد سور الخرافة العظيم ليحيط بكل زوايا مجتمعنا، ولم يعد يفرق بين مستوى إجتماعى وآخر، وبين مدينة وريف، وأيضاً بين نميمة وإعلام !، فالإعلام الذى يخصص برنامجاً للعلاج بالأشكال الهندسية ويروج لصاحبه المهندس فى برنامج شهير لدرجة أن الأمن المركزى يحيط بعد إذاعة البرنامج بمنزل هذا المهندسفى المعادى حتى يحميه من شدة الزحام، هذا الإعلام ماذا نقول عنه هل نسميه إعلاماً مستنيراً أم إعلاماً مغيباً ومزيفاً للعقول ومروجاً للخرافة؟!، هو للأسف الشديد إعلام يشمت فى العلم ويصفق عندما يفشل عالم فى إكتشاف شئ أكثر من إحتفائه بنفس العالم حين يصل إلى سر مستغلق ويحقق نصراً علمياً، وحتى فى برامجه التى تدعى الربط بين العلم والإيمان يظل مقدم البرنامج يسخر من العلم ويؤكد على أن المخترع الحقير المغرور لن يصل إلى عظمة الله فى إفتعال لمشاجرة لاتوجد إلا فى ذهن مقدم البرنامج، إنها خرافة توزع مجاناً عبر الهوائيات والساتلايت، يستضاف فيها حامل دكتوراه يتحدث عن تأثير العجوة والتمر على مقاومة السحر بإنتشار اللون الأزرق فى الجسم، ويشكو مطرب محبوب محسوب على المثقفين من أنه مطارد من إمرأة جنية ويعلنها فى برنامج فضائى على الملأ بدون أى إحساس بالخجل !، أما المصيبة والمأساة فهى البرنامج الفضائى الذى يناقش الطالع والأبراج والآخر الذى يفسر الأحلام، وتصوروا إنها برامج على الهواء مباشرة، إنها حقاً مأساة بالصوت والصورة أن يزيف التليفزيون الوعى ويغيب العقل ويسطح التفكير ويجند نفسه فى كتيبة الخرافة المقدسة.
وقد يقول قائل ويعنى إيه الضرر فى إنتشار شوية خرافات، إيه اللى مضايقك، مش الأمور ماشية وخلاص ؟!، والمصيبة إن الأمور مش ماشية وخلاص ولكنها ساكنة إلى درجة التعفن، وأن إنتشار الخرافة يكرس الكسل العقلى فلايجهد الإنسان نفسه فى فهم الظواهر ويعود إلى سيرة إنسان الكهف الأولى حين كان يفسر العواصف على أنها صوت الإله، والنهر على أنه دموع الحبيبة 000الخ، فيستسهل إرجاع الظواهر الإجتماعية إلى أسباب غيبية علشان يريح دماغه كماحدث من الشيخ الشعراوى عندما فسر هزيمتنا فى 1967 بأنها عقاب من الله بسبب إبتعادنا عن طاعته، لدرجة أنه صلى لله شكراً بعد هذه الهزيمة لأننا لن نصبح شيوعيين والحمد لله، وبالطبع إبتعد عن التفسير العقلى السليم لأسباب الهزيمة من نقص تخطيط وعدم إستعداد ودكتاتورية وفساد فى قيادات الجيش 000الخ، ومن السهل أن تقول عن أى شئ عقاب من الله حتى تستريح وتركن إلى كسلك العقلى، كما يقول الأطباء المسلمون مثلاً عن سبب الإيدز، وذلك برغم أن البلهارسيا تنخر فى أكباد الفلاحين المصريين المسلمين اللى مايعرفوش الحرام ومافيش زيهم فى الإيمان والطيبة، وبمثل هذه التفسيرات نختبئ وراء حصن أماننا الزائف وجهلنا المقيم، ونستريح عندما نقول أن الغرب كافر ومن المؤكد إن ربنا حيورينا فيهم يوم !.
[ لكن ماهو تعريف الخرافة ؟، ورد فى لسان العرب أن الخرف هو فساد العقل من الكبر، والخرافة هى الحديث المستملح من الكذب، وقالوا حديث خرافة، إن خرافة من بنى عذرة أو من جهينة إختطفته الجن ثم رجع إلى قومه، فكان يحدث بأحاديث ممارأى يعجب الناس منها، فكذبوه، فجرى على ألسنة الناس، وفى معجم أكسفورد معنى أكثر تحديداً وهو أنها المعتقد غير العقلانى أو الذى لاأساس له، ويعرفها د.أحمد مرسى أستاذ الأدب الشعبى بأنها خوف أو خشية غير عقلانية من أو إعتقاد غير عقلانى فى
شئ غير معروف، غامض أو متخيل أو إعتقاد غير يقينى أو محير أو عادة مريبة، وكل هذه التعبيرات تشير إلى الموقف العاطفى الذى يحكم الخرافة، ودائماً مانمنح الخرافة غطاء مبهراً فنسميها تارة حكمة القدماء، وتارة أخرى علم التنجيم أو ننسبها إلى التراث الدينى كالحسد مثلاً، الذى تأثر به حتى أصحاب النظرة العقلانية مثل إبن خلدون الذى كتب أنه شاهد بعض الناس إذا نظر إلى نعجة نظرة خاصة أماتها !!، ويعتقد المصريون أن الحسد يكون مؤثراً إذا كان مصحوباً بالشهيق، ويزعمون أن الحجاب يقى من العين، ولهم فى ذلك طرق كثيرة منها وضع قليل من الملح فى كيس يعلق فى رقبة الأطفال، وكذلك ناب الذئب أو ناب الضبع أو رأس الهدهد 00الخ، ومن أشهر الرقيات المكتوبة للحسد " بسم الله عظيم الشان، شديد البرهان، ماشاء كان حابس حابس، من حجر يابس، وشهاب قابس، اللهم إنى رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، وفى كبده وكليتيه، ولحمه ودمه، فأرجع البصر، 000الخ، وطرق الوقاية التى إخترعها المصريون للتغلب على الحسد غير الرقية كثيرة ومتعددة، منها خرم العروسة الورق بالدبابيس والبخور وخمسةوخميسة وغيرها من الخرافات.
[ بجانب الحسد توجد معتقدات مصرية كثيرة حاول تجميعها أساتذة الأدب الشعبى وأساتذة الإجتماع، منها الإعتقاد فى أن الجن يسكنون المقابر والبيوت المهجورة ويتشكلون بأشكال مختلفة أغلبها صورة قطط وكلاب، ولذلك يتحاشى الناس ضرب هذه الحيوانات ليلاً، أما إعتقاد زواج الجن والإنس فهو متفشى بشكل سرطانى فى مصر لدرجة أن البعض أنشأ موقعاً للإنترنت وخصصه لعرض ومتابعة تلك الظاهرة، ويوجد بهذا الموقع فتاوى لكبار المشايخ بجواز هذا الزواج !!، ويعتقد الكثيرون أن الحذاء القديم الذى لابد أن يوجد فى الطريق بلاصاحب هو الدواء الناجع الناجح للوقاية من خطر الجنى !، وبمجرد مشوار قريب لزيارة بائعى البخور والروايح والكتب الدينية ستقرأ عناوين هذه الكتب الشهيرة والمكتسحة مثل "السر الربانى فى العلم الرحانى "، و"شموس الأنوار وكنوز الأسفار"، و " البهجة اللماعة فى تسخير ملوك الجن فى الوقت والساعة"000الخ، وهناك غير كتب الجن كودية الزار التى تغلبت فى مصر على صالات الديسكو، فهى أيضاً الدواء الناجح للأسياد واللى راكبه عفريت واللى جتته مش خالصة، وكلمة السر دستور ياأسيادى، وهناك الأحجبة التى تستخدم فى أغراض كثيرة مثل الحماية من المرض، وإبطال تأثير العفاريت، وإستمالة قلب المحب، والنجاح فى العمل 000الخ، وهناك الأعمال والربط الذى يسبب العجز الجنسى وهو بالمناسبة أكثر الوسائل إنتشاراً فى مصر للإنتقام من العريس السابق والخطيب الهربان والطليق المفترى والطاووس المتباهى بفحولته!.
ومن الزواج والجنس إلى الولادة وتربية الأطفال وهى من الأمور الحيوية فى حياتنا، وهى أيضاً تكتنفها الخرافات مثل :لبس إبنك خلاخيل فى رجله تحفظه من العين، ووضع الكف على صدر العيل، وتخريم الودن وتسميته شحات أو خيشةعلشان يعيش، ودق المية فى الهون علشان يتكلم، والواد يطلع لخاله 0000الخ، أما التوسل بالأولياء فيكفى قراءة كتاب الباحث الكبير الراحل سيد عويس عن الرسائل التى يرسلها المصريون للتوسل بالإمام الشافعى لمعرفة كيف يحل الشعب المصرى مشكلاته ؟، وأتساءل هل شعبنا معذور حقاً فى ذلك السلوك الذى يعوض به طناش الأحزاب وغياب السياسيين وقهر رجال الدين وهبر رجال الأعمال ؟، ومن الممكن أن يرد البعض علينا بأنهم فى الغرب أيضاً يمارسون الدجل والخرافة، ولكن إذا كان البعض يفعل ذلك هناك فهو من باب الترف الذى لانتحمله نحن بظروفنا القاسية، والمأساة أن الخرافة عندنا لم تعد خرافة أفراد مثلهم وإنما أصبحت تياراً عاماً كاسحاً وعاصفاً يزلزل المجتمع من اساسه، فهل نفيق من الغيبوبة أم أن العقل عندنا كالزائدة الدودية تكون مفيدة فقط عند إزالتها بالجراحة !.

[email protected]