منذ أن تعلّمت‮ "‬فكّ‮ ‬الحرف‮" ‬كما‮ ‬يُقال في‮ ‬لغتنا الدّارجة علق حُبّ‮ ‬اللّغة العربيّة بقلبي‮. ‬كما أنّي‮ ‬عندما أعود في‮ ‬الزّمان إلى الوراء‮ ‬محاولاً‮ ‬أن أستجمع بعضًا من ذكريات الأيّام الخوالي‮ ‬في‮ ‬المدرسة أو البيت أتذكّر أنّه بالإضافة إلى الكتاب فقد كانَ‮ ‬للرّاديو دورٌ‮ ‬كبير في‮ ‬التّعرُّف على العالم من حولي‮. ‬وهكذا قادني‮ ‬مؤشّر الرّاديو إلى برنامج‮ "‬لغتنا الجميلة‮" ‬الّذي‮ ‬كان‮ ‬يُذاع من القاهرة‮. ‬لا أدري‮ ‬الآن إن كان البرنامج لا زال على قيد الحياة أم لا،‮ ‬غير أنّ‮ ‬صوت المرحوم طه حسين الّذي‮ ‬يشكّل افتتاحيّة للبرنامج لا زال‮ ‬يتصادى متهدّجًا ببطء في‮ ‬مسامعي‮: "‬لغتنا العربيّة‮ ‬يُسرٌ‮ ‬لا عُسْر ونحنُ‮ ‬نملكها كما كان القدماء‮ ‬ يملكونها‭...‬‮"‬‭.‬‮ ‬

‮***‬
واللّغة في‮ ‬هذا السّياق الّذي‮ ‬أنا بصدده الآن ليست سوى ذلك الوعاء الّذي‮ ‬حوى في‮ ‬داخله كلّ‮ ‬ما‮ ‬يتعلّق بالحضارة العربيّة‭.‬‮ ‬من هذا المنطلق،‮ ‬فإنّ‮ ‬حضارتنا العربيّة هي‮ ‬الأخرى ملك لنا،‮ "‬فنحنُ‮ ‬نملكها كما كان القدماء‮ ‬يملكونها‮". ‬بكلمات أخرى،‮ ‬إنّ‮ ‬من واجبنا في‮ ‬هذا الأوان‮ ‬ألاّ‮ ‬نركنُ‮ ‬إلى ما قدّمه لنا القدماء،‮ ‬وإلاّ‮ ‬ظللنا قابعين في‮ ‬عصور قديمة لا نخطو أبدًا قُدُمًا‭.‬‮ ‬أي‮ ‬أنّنا إذا ما سلّمنا بما قدّمه‮ ‬لنا السّلف على أنّه ذروة الكمال الحضاري،‮ ‬فلم‮ ‬يعد لدينا نحن دور للعمل في‮ ‬هذه الحضارة،‮ ‬أو رضافة أي‮ ‬لبنة عليها

***
نظرة من هذا النّوع لا‮ ‬يمكن إلاّ‮ ‬أن تدفع هذه الأمّة إلى الوراء دائمًا‭.‬‮ ‬ويبدو أنّ‮ ‬هذه النّظرة المتأصّلة لدى الكثيرين من أبنائها،‮ ‬هي‮ ‬ما‮ ‬يمكن أن نطلق عليه اسم‮ »‬سلفيّة حضاريّة‮"‬،‮ ‬وهذه النّظرة هي‮ ‬نتاجات وإفرازات سلفيّة أخرى وهي‮ "‬السّلفيّة الدّينيّة‮"‬‭.‬‮ ‬إذن،‮ ‬نحن أمام وضع لا‮ ‬يجد فيه الفرد العربيّ‮ ‬مجالاً‮ ‬للتّحرّك من أجل البناء،‮ ‬ومن أجل وضع لبنة من لبناته هو لتنضاف على لبنات البناء الّذي‮ ‬أسّسه القدماء‭.‬‮ ‬

***‬
فلو سار القدماء،‮ ‬الّذين‮ ‬ينظر إليهم البعض بهذه الهالة التّقديسيّة،‮ ‬على نهج من سبقهم،‮ ‬لما حصل ذلك التّثاقف الحضاري‮ ‬الّذي‮ ‬أفسح المجال لظهور الحركات الفكريّة في‮ ‬الإمبراطوريّة العربيّة‮. ‬ولو سار القدماء على النّهج السّلفي‮ ‬الّذي‮ ‬يروّج له كثيرون في‮ ‬هذه الأيّام،‮ ‬لما ظهرت إلى الوجود في‮ ‬تلك القرون الوسيطة تيّارات الفلسفة العربيّة والإسلاميّة،‮ ‬ولبقي‮ ‬العرب أدبًا وشعرًا وعقيدة وعلمًا في‮ ‬شراك تلك الأطلال المعرفيّة القادمة من جزيرة العرب‭.‬‮ ‬ولو قارنّا وضع العرب في‮ ‬هذا العصر المأزوم،‮ ‬بتلك العصور الوسيطة لوصلنا إلى قناعة بأنّ‮ ‬تلك العصور القديمة كانت أكثر تحرّرًا ممّا هي‮ ‬عليه اليوم في‮ ‬هذه الدّول والممالك والسّلطنات الّتي‮ ‬تُكرّس الجهل،‮ ‬وتقدّس النّقل،‮ ‬بينما تُصرّ‮ ‬في‮ ‬الوقت ذاته أن تضع الأغلال على فعل العقل‭.‬‮ ‬

***‬
إنّ‮ ‬الطّفرة العلميّة والفكريّة الّتي‮ ‬كانت من نصيب العرب في‮ ‬القرون الوسيطة مردّها إلى حريّة عمل العقل من جهة،‮ ‬وإلى شجاعة أولئك القدماء الّذين رفعوا راية البحث والاستقصاء عن كلّ‮ ‬ما هو خارج حدود هذه المعارف المتوارثة من حضارة الرّمال‭.‬‮ ‬لذلك،‮ ‬فكلّ‮ ‬من أصرّ‮ ‬على‮ ‬التّحرّر من تلك التّقاليد الفنّيّة الصّحراويّة،‮ ‬كالبكاء على الأطلال،‮ ‬كأبي‮ ‬نواس مثلاً،‮ ‬والّذي‮ ‬عبّر بسخريته اللاّذعة عن تبرّمه من‮ ‬هذه التّقاليد البليدة،‮ ‬فقال‮:"‬قُلْ‮ ‬لِمَنْ‮ ‬يَبْكِي‮ ‬عَلى رَسْمٍ‮ ‬دَرَسْ‮ ‬واقفًا ما ضَرَّ‮ ‬لَوْ‮ ‬كَانَ‮ ‬جَلَسْ‮"‬،‮ ‬فقد اتُّهم بالشّعوبيّة،‮ ‬مثلما اتّهم آخرون بالزّندقة إلى آخر هذه القائمة من المصطلحات الّتي‮ ‬تُذكّرنا اليوم بمصطلحات تُطلق على كلّ‮ ‬من‮ ‬يحاول تحرير العقل العربي‮ ‬من قيود السّلفيّة،‮ ‬مثل‮: ‬عميل أميركا،‮ ‬والإمبرياليّة والصّهيونيّة،‮ ‬إلى آخر هذه التّعابير الّتي‮ ‬إنّ‮ ‬عبّرت عن شيء فإنّما هي‮ ‬تعبّر عن مدى الدّرك الّذي‮ ‬وصلت إليه حال الثّقافة العربيّة في‮ ‬هذا العصر‭.‬‮

***‬
إنّ‮ ‬وظيفة أهل الكلمة في‮ ‬العالم العربي‮ ‬اليوم هي‮ ‬البحث عن القمح بين أكوام وأطنان الزّوان الّتي‮ ‬ورثناها طوال هذه القرون الماضية عن‮ ‬الأقدمين‭.‬‮ ‬ذلك الزّؤان الّذي‮ ‬أضحى موتًا زؤامًا‮ ‬يفتك بما تبقّى من عقول لدى أبناء هذه الأمّة‭.‬‮ ‬لذلك،‮ ‬يجب أن نقول بمثل ما قال به طه حسين‭.‬‮ ‬فإنّ‮ ‬حضارتنا نحن نملكها كما كان القدماء‮ ‬يملكونها،‮ ‬ومن مهمّتنا أن نفرز ما هو صالح منها وما هو طالح،‮ ‬فنُلقي‮ ‬الطّالح جانبًا‮ ‬ونأخذ بالصّالح‭.‬‮ ‬كما أنّ‮ ‬من حقّنا،‮ ‬بل من واجبنا،‮ ‬أن نضيف على هذه الحضارة من رؤى ومعارف وأخلاق عصريّة تتلاءم مع مستجدّات الحياة‮ ‬في‮ ‬هذا العالم الّذي‮ ‬يغذ الخطى قُدمًا‭.‬‮ ‬

***‬
‮ ‬ألم‮ ‬يئن الأوان لأن نقول‮ "‬دقّت ساعة العمل‭...‬‮"‬،‮ ‬ليس‮ ‬غناءً،‮ ‬بل عملاً‮ ‬دؤوبًا في‮ ‬كلّ‮ ‬مجالات الحياة؟‮ ‬إنّها مهمّة الجميع،‮ ‬دولاً‮ ‬وحكومات ومؤسّسات وأفرادًا،‮ ‬فلا‮ ‬يوجد متّسع من الوقت للفذلكات والشّعارات البليدة‭.‬‮ ‬فما لم‮ ‬يُسارع العرب إلى التقاط الأنفاس وإعداد البرامج‮ ‬المعاصرة للمدارس العربيّة والجامعات العربيّة،‮ ‬ووضع الخطط لدفع جميع مجالات الحياة العربيّة،‮ ‬فإنّ‮ ‬العرب وبمحض إرادتهم،‮ ‬وبغباء حكّامهم المستبدّين،‮ ‬سيضعون أنفسهم في‮ ‬سلّة مهملات التّاريخ البشري‭.‬‮ ‬

[email protected]