دعوة لـ: تأجيل العملية الدستورية في العراق
نداء مدني مضاد لأجندة الابواب الخلفية!!
د. سيّار الجميل

وصلتنا الاخبار، كما كتبت "إيلاف"، قبل قليل بصادقة اعضاء الجمعية الوطنية العراقية على تغيير تاريخ الانتهاء من كتابة الدستور العراقي من 15 الى 22 آب مستفيدة من الحق الممنوح لها في قانون ادارة الدولة الذي يعتبر بمثابة دستور مؤقت حيث أصدرت قرارا جاء كالاتي: يقرأ نص الفقرة أ من المادة 61 من قانون ادراة الدولة للمرحلة الانتقالية كما يلي: على الجمعية الوطنية كتابة مسودة الدستور الدائم في موعد أقصاه 22 آب 2005. ثانيا اينما وردت عبارة 15 آب تسيتبدل بـ 22 آب. ..
وتوصل اعضاء الكتل السياسية لهذا الاتفاق بعد مفاوضات ماراثونية تخللتها اختلافات حادة كادت تؤدي الى انهيار كل الاتفاقات السابقة قبل ساعات من انعقاد الجمعية الوطنية هذا اليوم االذي تم تأجيله مرتين.
ولم يحضر اعضاء من الكتل السياسية السنية اجتماع الجمعية الوطنية هذه الليلة الذي حضره سفير الولايات المتحدة الاميركية في العراق زلماي خليل زادة وضيوف اخرون من خارج الجمعية الوطنية. .وتعتبر هذه الصيغة التي نجح قادة الكتل السياسية في التوصل اليها طوق النجاة من الازمة السياسية التي كادت ان تقع بها الحكومة العراقية والجمعية الوطنية حيث كان سيتحتم عليهما حل نفسيهما والعودة لانتخابات برلمانية جديدة فيما لو لم يتم انجاز مسودة الدستور او تأجيل المصادقة عليها من قبل الجمعية الوطنية اذ جاءت مصادقة الجمعية الوطنية قبل نصف ساعة من منتصف ليلة الخامس عشر من آب الجاري.
وفي مقالي اليوم الذي اضمنه وجهة نظري الشخصية التي لا تعبر أبدا عن تأييد اي طرف ضد طرف آخر ولا تتخذ اي موقف مؤيد من اي كتلة من الكتل السياسية المتناحرة والتي ربما اختلف مع توجهاتها السياسية بشكل كامل .. وانما اطرح آرائي السياسية ومعالجاتي الفكرية بمعزل عن كل ما يدور في داخل أروقة الجمعية العامة او ما يدور بين الاطراف والكتل السياسية على الساحة العراقية .. وبصراحة تامة اقول بأنني ونخبة واسعة من المثقفين والسياسيين والمتابعين والمواطنين العراقيين انما نغرد خارج السرب السياسي الذي سيصنع مستقبلا لا نريده للعراق الحبيب .. انني لا اكتب ندائي هذا للساسة العراقيين والقادة الجدد بقدر ما اكتبه للعراقيين كلهم وللتاريخ .. ان مبدأ التأجيل ما دام قد حصل لمدة اسبوع فهذا سوف لا يحل اي تعقيدات ، ان مبدأ التأجيل ما دام قد حصل فان المناداة بتأجيل المسألة الدستورية لاربع او خمس سنوات يمكنها ان تكون تحصيل حاصل ومن خلال ارادة عراقية وطنية موحدة بعيدا عن اي تدخلات .. ناهيكم عن ان العراق سيشفى من كل جروحه وقروحه ان استمرت العملية السياسية جارية والانتخابات تمضي في موعدها .. وليكن معلوما ان العملية السياسية شيئ والعملية الدستورية شيئ اخر ان بونا شاسعا وكبيرا بين صنع سياسية وسن قانون .. دعوني افاتحكم بهذا النداء/

نداء الى كل العراقيين
ربما تقولون: لماذا يأتي مثل هذا "النداء" في مثل هذا الوقت بالذات؟ ربما تتساءلون عن اسباب مثل هذه الدعوة التي تأتي اليوم بالذات؟ وحتما سوف يلتفت اليها كل المخلصين وسيفكر بها كل العقلاء.. وحتما سيهملها كل المستعجلين الآخذين بزمام العراق الى حيث يلقوا به رحلهم.. اكتب لكم هذا "النداء" (من دون ان يشاركني او اشارك بها اي طرف ما خلا اصوات بعض الاصدقاء الاوفياء للعراق والعراقيين).. انني اكتب هذا النداء الى كل العراقيين وفي مقدمتهم قادتنا من الساسة الجدد الذين يبدو انهم ماضون الى حيث حتف العراق من دون ان يلتفتوا ولو لمرة واحدة الى ما ينادي به اغلب العراقيين، وخصوصا اولئك الذين لهم باعهم ومعرفتهم لا شعاراتهم وتهريجههم! ولا ادري ان كان هناك اي تطور سياسي فعّال قد حصل والبلاد غريقة الفوضى والارهاب.. وهي لم تزل جريحة تعاني من شراسة التحديات من كل حدب وصوب.
لقد كانت هناك فرصة ثمينة على قناة الحرة الفضائية كي اتحدث والاخ الصديق الدكتور عبد الخالق حسين حول هذا الموضوع قبل ايام.. ولما كنت لم اقل كل ما عندي بهذا الصدد، فانني اقترح على العراقيين: تأجيل العملية الدستورية خمس سنوات على الاقل من اجل ترميم البيت العراقي الذي اصابه على مدى زمن طويل ما لم يصب اي بلد في المنطقة من حروب وقتل واعدامات وبشاعات وحصارات وافلاس وانحطاطات وانسحاقات وانتفاء خدمات وفقدان أمن وكوارث فقر ودمار بنية تحتية وسحق الوعي والتفكير وتخلف حياة وافتقاد مشاعر وطنية وانعدام اي تفكير بالمستقبل.. ان الشعب العراقي لا تهمه اليوم فذلكات خطابية وتصريحات انشائية ونصوص ايديولوجية وتفقهات دينية وشعارات والاعيب سياسية يقدّمها ساسة متحذلقون او رجال دين معممون.. بقدر ما يهمّه استعادة حياته وترتيب شؤونه وتصافي تعايشاته وبناء مدنه واعمار خدماته وتربية ابنائه واحياء اقتصاداته.. وانسحاب القوات الاجنبية من مدنه ومراكز تجمعاته..

تجربتنا في ضوء الآخر
ان العراق ليس ملكا لمجموعة من الناس يريدون فرض دستور معّين على الناس مستخدمين في ذلك كل اساليبهم السياسية واعلاناتهم الشعاراتية ومناوراتهم الدينية على حساب انقسام المجتمع واهتراء بنيته التاريخية.. ان العراق بحاجة الى بداية حقيقية لتطبيق برنامج وطني حقيقي ضمن قانون اداري قوي يؤمن مصالحه الانية ويبني له قاعدة سياسية من خلال ايادي نظيفة وعقليات راجحة، باستطاعته بعد سنوات ان ينطلق من فوقها نحو المستقبل. ان على صنّاع القرار العراقيين من القادة الجدد ان يستمعوا ولو لمرة واحدة الى نداء العقل والمصلحة الوطنية لا ان يركنوا الى عواطفهم وبكائياتهم.. عليهم ان يستمعوا لآراء العراقيين، لا ان يستمعوا لآراء الاخرين من هذا الطرف الخارجي او ذاك.. عليهم ان يتعلموا كثيرا من خضم هذا المخاض الفكري والسياسي الذي يطرحه المثقفون والمختصون والساسة العراقيون سواء في داخل البلاد ام في خارجها.. عليهم ان لا يهملوا ما يكتب وينشر حول مسألة الدستور.. وان يردّوا على كل الاعتراضات بطريقة علمية ومقنعة لا باساليب التجاهل والتغافل والاقصاء والتهميش..
عليهم ان يقّدروا الرأي العام حق قدره.. عليهم ان لا يتصلبوا برأيهم كي لا يرسلوا برسائل الى الناس يقولون فيها: بأن لنا غايات خفية من وراء اصرارنا على ما نقوم به.. عليهم بالمكاشفة والشفافية التي يقولون عنها ولا يعملون بها.. واذا كان الفيدراليون العراقيون الجدد يتحدثون بالديمقراطية والتطور ونقل تجارب الدول الفيدرالية المتحضّرة، فالاولى بهم ان ينزعوا عنهم اثواب الماضي العقيم، بل وعليهم ان يدركوا كم هو حجم الهوة واسعا بين بلاد متخلفة ومتأخرة في كل الميادين وبين بلدان متطورة وخصوصا في جوانب الوعي والعملية السياسية والممارسات الديمقراطية يريدون سرقة بنود دساتيرها كي ينفذوا من ابوابها الخلفية الى تمزيق العراق اربا اربا.. وعليه، فالمزايدة في هذا الباب مرفوضة على اشد ما يكون الرفض.. وسوف نضحك في تجربتنا العراقية على انفسنا قبل ان يتضاحك العالم على مرآنا المهلهل، بل وسوف نسجل فصلا آخر من مآسي العراق في التاريخ الحديث ونحن ازاء بناء العراق الجديد.

التأجيل: من مستلزمات البناء التاريخي
اعتقد ان العراق بحاجة الى ترميم سياسي واجتماعي وعمراني قبل اي امر آخر. ان الانشغال بتأسيس دولة ضعيفة تتألف من كيانات فيدرالية هزيلة قابلة للتبعثر بحكم ضعف الانتماء الوطني سوف ينتج عنه تفكيك للمجتمع العراقي واهمال متطلباته الاساسية وضرب قيمه الاجتماعية في الصميم.. ان التاريخ لا يصنع بعجالة ايها الساسة الجدد، وان الدول لا تبنى بهشاشة، ولابد للمجتمع ان يكون متماسكا يمتلك ارادته.. وان الادوار لا يمكن ان تحتكرها فئة سياسية حاكمة، او طاغية جلاد او دكتاتور جائر او مجموعة دينية لا تفقه الحياة المدنية بمعزل عن الشعب كله. ان اي عملية سياسية او دستورية لا يمكنها ان تنجز على اعقاب اخفاقات تصيب البلاد، ولقد علمنتا تجارب التاريخ بأن اي تطور سياسي سوف لن يحدث في اي كيان سياسي ان كان يعيش فوضى داخلية وازمات لا حصر لها.. فكيف يريد القادة العراقيون الجدد الاسراع باصدار دستور دائم للبلاد والبلاد تمر باقسى الظروف؟ هل يفكّر المرء قليلا بأن في العجلة الندامة وان في التأني السلامة ان كان الاخوة في البناء السياسي الجديد للعراق مخلصين في رؤاهم وأوفياء في تطلعاتهم نحو المستقبل.
ان من ابرز ما يحتاجه العراق اليوم، هو: التقليل من غليانه والكف عن صب الزيت على النيران المتأججة في دواخله، اما ان كانت للقادة العراقيين الجدد اجندة خاصة بهم في ان يفرضوا دستورا يلائم متطلبات فئة او مجموعة معينة من الناس، فانني اعتقد بأنهم يسعون حتما الى ارسال العراق تابوتا الى حتفه من خلال تقسيمه وبعثرة كيانه الموحّد الى اجزاء متناثرة.. وسواء علموا ام لم يعلموا بأن اي انقسام للعراق تحت اي شعارات او اعلانات، فان تناثره سيلغيه اصلا من الوجود المعاصر، لأنه سيصبح لقما سائغة لكل الطامعين باجزائه ومفاصله وتوابعه ضمن محيطه الجغرافي الصعب، الا اذا رضي العراقيون بحماية امريكية طويلة جدا، وسيكلفنا ذلك ثمنا غاليا جدا. وعليه، فان العراق سيفتقد اصلا جيو استراتيجيته التي عاش عليها زمنا طويلا كبلاد لها قوتها وتأثيرها في المنطقة. وانني اعتقد - وربما كنت مخطئا -، بان اي تقسيم للعراق وتحت ظل اية شعارات سيزيد من احتراقاته الداخلية وسيدخله ضمن مشكلات ومعضلات لا يستطيع الخروج منها ابدا. ان ما ادعو اليه اليوم من تأجيل للعملية الدستورية انما ينطلق من قدر بالوعي بالمستقبل، وان هكذا عملية تاريخية لا يمكن مقارنة تأجيلها بتأجيل انتخابات سياسية كما يريد الاعلان عن ذلك غلاة التقسيم المعاصرين.

تقسيم العراق من الابواب الخلفية
هل يمكننا ان نتخيّل عراقيا اصيلا واحدا يتمنى تقسيم العراق الى اجزاء متناثرة؟ الا ان كان عضوا في طابور خامس ، او كان فاقدا لمعاني الوطنية الحقيقية او كان من البلادة والتقصير والاثم والعدوان؟ عندما اختلف الاخوة الاعزاء في مؤتمر لندن قبل سقوط النظام الجائر، وكنت اتابع مجرياته تماما من خلال ما يخبرني به العديد من اعضائه.. حسم الخلاف الواسع حول مبدأ الفيدرالية لاقليم كردستان السفير الامريكي زلماي خليل زادة.. واليوم ينادى بأن يغدو العراق كلّه: مجموعة فيدراليات حتى وصل الامر بأحد الاخوة في الجمعية الوطنية ان يوزع العراق الى جملة فيدراليات (= اقاليم ومحافظات )، من دون ان نجد اي ارادة جماعية للعراقيين نحو ذلك.. وقد قلت له مجيبا بأن العراق لم يكن مجزءا ومقسما حتى يتوّحد في فيدراليات، بل كان ولم يزل موّحدا، فلماذا يريد البعض تقسيمه وتجزيئه وتقطيعه الى فيدراليات؟؟ فالمعروف ان الاجزاء هي التي تتحدّ فيدراليا او كونفيدراليا، ولكن الكل لا يمكن تجزئته الى اجزاء، الا في حالة التصميم على اماتة الكل، وليس العراق مثل يوغسلافيا او جيكوسلوفاكيا. ويسألني: ورأيك بفيدرالية الاكراد؟ قلت: للاكراد قضية تاريخية عمرها يزيد على ثمانين سنة.. ولابد لنا ان نسعى جميعا لحّلها، ولكن ليس على حساب العراق. أجاب: والشيعة في جنوب العراق الا تعد المقابر الجماعية قضّية؟

العراق: مقبرة جماعية واحدة
هذه المقارنة غير صالحة ابدا، فالعراق كله كان مقبرة جماعية، اذ لا يمكن احتكار التاريخ لجماعة دون اخرى ولا يمكن احتكار حتى الاضطهاد الذي كان يمارسه صدام حسين ضد ناس معينيين وتنسى اضطهاداته للاخرين! واذا كانت المقابر الجماعية قضية مؤلمة، فهل هي قضية ضد طاغية جائر ام ضد مجتمع بأسره؟ فمن ذا الذي صنع المقابر الجماعية؟ هل صنعها الطاغية صدام ضد شعبه ام صنعها الشعب ضد الشعب؟ هل انقسم الشعب انقساما مريعا وعاش حربا اهلية لسنوات طوال ولم يبق من حل الا الفيدراليات لحفظ ماء الوجه؟ هل انفصل المارونيون في لبنان عن المسلمين السنة في الشمال وعن المسلمين الشيعة في الجنوب؟ لقد كانت اشرس حرب اهلية عاشها اللبنانيون لخمس عشرة سنة ولم اجد لبنانيا واحدا الا ويعشق لبنان كل لبنان. فما الذي حدث للعراقيين؟ هل كانت لدي انا العراقي حتى العظم اي مشكلة مع اي عراقي آخر حتى العظم ومنذ سنوات حتى يريد الانفصال عني بفيدرالية؟ هل كان المجتمع العراقي جانيا على نفسه ام كان كل المجتمع العراقي مجني عليه؟؟
هل فكّر اولئك الذين يريدون سن مبادئ وافكار سيئة غير قابلة للتطبيق فيها ان يعيدوا التفكير في الذي يريدون ارتكابه؟ هل بامكان الارهاب ان ينتصر على الواقع ليفرض اجندة الانقسام والتجزئة هروبا من واقع مأساوي او عملا بالمحاصصات غير الوطنية وضمن اجندة خفية مسكوت عنها وفجأة يتم الاعلان عنها والاخذ بها؟ لقد وجدت في طرفين عراقيين قطبين مختلفين على اشرس ما يكون الاختلاف نتيجة تعصب كل طرف ضد الطرف الاخر.. بل ويبدو المشهد السياسي العراقي مؤلما للغاية بفعل حالات الانقسام التي يعيشها كل المجتمع بطوله وعرضه.. بل وان المحاصصة الطائفية انتقلت الى ان تغدو محاصصة بترولية، وكأن البترول اغلى من الدم؟!! وكأن الاصغر والاحقر بات هو الاعظم في الوجود. وعليه أقول: بأن من لا يريد العراق كله، فسوف لن يحظى بأي جزء منه أبدا.

لماذا تأجيل الدستور؟
على ضوء ما طرحناه ضمن الندوة التلفزيونية التي ذكرتها، اقول ان العراق بحاجة الى ترميم نفسه من الداخل واستعادة روحه من الداخل، ولا يمكن الشروع بوضع العربة من دون الحصان.. لا يمكن ان تمضي العملية الدستورية كما هي عليه اليوم والعراق يعيش هذا الهيجان من الفوضى والمتاعب والخوف والارهاب والتغافل عما يقوله الحكماء.. لا يمكن اطلاق اي عملية سياسية ودستورية في ظل انعدام الامن وتزعزع الثقة والتمردات وفقدان القانون.. لا يمكن بناء العملية الدستورية بحالة من الاستعجال والارتباك وصراع الارادات في الداخل على مصالح شخصية او اطماع مادية او استحواذات بترولية.. لا يمكن الاطمئنان على اصدار اي قانون دستوري للعراق، والعراق منطقة نفوذ لقوات متعددة الجنسيات دولية، فضلا عن معاناته من ازمات اقليمية مع الجيران ومشكلات في الحدود ومن دون اي دور لحكومة تجدها رهينة الخوف والضعف والتخّبط.. كيف يمكن للعراق الذي تنخره اليوم مشكلات لا حصر او عدّ لها ان يمضي قدما بأي عملية دستورية تخص مستقبله ان كان يعاني من حراجة جروحه وآلامه التي تزداد يوما بعد آخر؟
لابد ان نستفيد من تجارب العراق التاريخية السابقة في القرن العشرين، ولابد لنا ايضا ان نستفيد من تجارب بقية الشعوب والمجتمعات في بنائها انظمتها السياسية الجديدة.. ان حدوث ازمة بسيطة معينة في اي بلد يراعى فيه القانون، فان وزارته تسقط ليأتي اناس آخرون لهم القدرة على حلّها.. وان دخلت البلاد – أي بلاد – في مشكلة امنية او معضلة سيادية، فان الاحكام العرفية تعلن ويطبق قانون الطوارئ.. وان بقيت اي بلاد مهددة سياسيا وعسكريا وامنيا من الخارج، فان قوات الاحتياطي تستدعى ويكون الجيش في حالة انذار مؤقت.. هذا كله يحدث في بلاد تريد الحفاظ على استقرارها وامنها وارادتها الموحدة، فكيف الحال في العراق ونحن نراه كيف يعيش حالته المؤلمة التي افتقد فيها لكل مقومات النقاهة بانحراف اوضاعه من سيئ الى أسوأ؟؟ كيف لنا ان نجازف باصدار دستور دائم والعراق يعاني من كل هذا الذي ذكرناه؟
ان تأجيل المسألة الدستورية الان اعدها ضرورة تاريخية للعراق ولكل العراقيين، وانني انطلق بهذا التقدير عن تفكير بالمستقبل وعن نزعة وطنية ولا ابغي اي مصلحة او منفعة ابدا.. انني ادعو هذه الدعوة من خلال تخّوف على مستقبل شعب لا اريد له ان يتبعثر بعد ان عاش موحدّا دهورا طوال. انني اخشى على اي جزء من العراق كيلا يذهب ضحية جغرافية كلقمة سائغة لكل المتربصين بالعراق من مفترسين اقوياء يحيطون بنا.. انني اخشى على اي مدينة او قرية او جبل او هور او منطقة او اي نهر.. كيلا يبتلعها الجيران الاقوياء من كل حدب وصوب! كان البعض يتخوف من المحتلين ان يقسّموا العراق، واليوم نفاجئ بأن هناك من العراقيين من يصمم على تجزئة العراق نهارا جهارا، وهذا هو الفناء التاريخي للعراق ان كان العراقيون لا يعلمون. من يريد حق تقرير المصير، فليمارسه ولكنه سيجني على نفسه اولا وسيجني على العراق ثانيا.. فالعراق منذ الازل حضن تاريخي لكل من يسكنه او يقطن فيه. ان المشكلة ليست في تقسيم البلاد الى فيدراليات، بل في كيفية ضمان منح كل العراقيين حقوقهم الوطنية وكيفية تأدية العراقيين لكل واجباتهم المدنية.

تشرذم وطن اسمه العراق!
من يريد ان يستعجل اصدار دستور تقسيمي للعراق، فليقرأ تاريخ العراق المعاصر في القرن العشرين. ان كلا من الدستور العراقي الدائم ابان العهد الملكي والدستور المؤقت للعراق ابان العهد الجمهوري الاول كانا قد صدرا في ظل اوضاع هادئة ومن خلال ارادة وطنية موحّدة.. بالرغم من كل ما تضمناه من مواد خالفها البعض او ما زلنا نخالفها حتى يومنا هذا.. وسواء انبثق هذا او ذاك من دون جمعية وطنية عراقية كما هو وضع جمعيتنا الوطنية الحالية، فان حجم الاعتراضات عليهما كان قليلا.. اما اليوم، فلا يمكن ابدا تسويق اي عملية دستورية في العراق والبلاد تعيش اسوأ احوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ولا يمكن اصدار دستور عراقي دائم ليس له الا ان يقول بالمحاصصة والتقسيم ويبشّر بنظام اسلامي ديني لا يعرف كيف يمكن تطبيقه ليس على مستقبل العراق، بل حتى على مجتمعه الذي له تعددياته وتنوعاته.. فضلا عن ان المحاصصة قد غدت حتى في الثروات، وكأنهم يمزقون ورقة الوطن الواحد الى مزق وهم لا يقولونها.. واعتقد ان الثروات زائلة مع الزمن ولكن الدماء ستبقى موحدة.
ولا يمكن ابدا للقاصرين وعيا ان كان هناك عراقيون يوّدون ان يقسموا العراق اقساما واجزاء فليعلنوا ذلك صراحة من دون لف ولا دوران.. ان كان هناك من يرغب ان يمزّق العراق دولا كانتونية بهلوانية قزمية.. فليعلنها جهارا على الناس بكل شجاعة.. ان حجم الكراهية والاحقاد الاجتماعية في مجتمع وجد نفسه على غير انسجام، فان الحل لا يكمن بتأسيس فيدراليات، ولكن الارادة ان اجتمعت يوما على اسس وقيم وطنية ومدنية حضارية، فان كل الاحقاد السياسية والكراهية الاجتماعية والمحاصصات الطائفية ستذوب شيئا فشيئا وسيحتفظ العراقيون بكل العراق.. ولكن ان كان طريقكم غير هذا، فسوف لن تجدوا العراق ابدا! ان الوصول الى اي هدف لا يمكن ان يمر بطرق ملتوية ومتعرجة فالمناورات لا تستخدم في بناء التاريخ.. وان تقسيم العراق لا يمر من خلال مناورات بهلوانية، بل انه تطبيق من نوع ما لاستراتيجيات اكبر قد يريدها طرف دولي او قد يعد لها طرف اقليمي! ان الاساليب التي تستخدم اليوم ستودي بالعراق وشعبه الى حيث تأسيس كيانات بائسة وهزيلة ليس لأنها لا تمتلك مقومات النجاح الآنية، بل لأنها معقّدة من الناحية الاجتماعية وهزيلة من الناحية الجغرافية ومنعزلة من الناحية الادارية، وستحف بها المخاطر من الناحية الامنية.. ان تقسيم العراق على هذا النحو سيودي به الى بئس المصير.

وأخيرا: ما مدى التجاوب مع هذه الدعوة الى التأجيل؟
انني اخاطب كل ابناء الشعب العراقي بأن يبحث عن مصالحه العليا والمستقبلية وليفكر كل الناس بما صنعه الاخرون من ابناء الشعوب الاخرى كيف بنوا تجاربهم السياسية والدستورية.. ولنفكر معا في مدى قدرتنا على استيعاب التحديات ونحن نقدم تجربة تاريخية جديدة، ولنفكر ايضا ونسأل أنفسنا: هل ان الاستعجال باصدار دستور دائم للبلاد سيحّد من الارهاب وسيأخذ البلاد الى مصاف الرقي؟ لقد راهن القادة الجدد على ان الانتخابات ستقضي على الارهاب في العراق.. ولكن انعكاسات التجربة تبدو على غير ما يأمله الساسة العراقيون الجدد.. انهم يريدون تثبيت ما يرونه مناسبا نسبة لرؤيتهم الى العراق ومستقبله من دون تقدير حجم المخاطر التي ستنجم بعد ذلك.. ان الدستور لا يمكن ان يكون مجرد ورقة مبادئ وافكار من دون جدولة تنفيذ وتطبيق وممارسات.. وان الدستور بحاجة الى مناخ ملائم والى ظروف طبيعية تتفق عليه ارادة وطنية واحدة.. وان الدستور لا يمكن ان يكون حكرا على مجموعة تسّمي نفسها بقيادة منتخبة! صحيح انها منتخبة، ولكنها ليس لاصدار دستور من اجل عراق المستقبل. ان الدستور لابد ان ينبثق بعد ان يهدأ العراق..
ولقد اقترحت من اربع الى خمس سنوات.. وخلال مرحلة تهدأ فيها الاوضاع وتتوضّح خلالها اجندة الاخرين منّا نحن العراقيين.. مرحلة تاريخية فعّالة تتصافى فيها النفوس وتتلاقى خلالها كل الاطياف على مبادئ وطنية عراقية تّسمي دستورا مدنيا للعراق والعراقيين بعيدا عن اي اوراق عرقية او مصالح طائفية او شعارات دينية.. ان دستورا مدنيا تكفل بنوده اسس العراق الحقيقية وقيمه الاجتماعية وركائزه التاريخية لا يمكن ان يولد خلال ايام كي يسلق سلقا ويقّدم الى العالم والعراق مهلهل في الداخل وهو يتآكل.. انني اذ انبّه كل الاخوة العراقيين الى هذه الاعتراضات.. فان الامل يحدوني كثيرا بأن يلتف الشعب العراقي على مبدأ التأجيل وان يقول: لا ولو لمرة واحدة بوجه من يريد أخذ العراق الى حيث يريد.. ولكن؟ هيهات، فالعراق لا يمكنه الا ان يعيش، والعراقيون لا يمكنهم قبول ما لا يؤمنون به.. فهل يسمع من بيده أمر العراق اليوم الى ما نقول؟ دعهم من هنا يمرّون ويحتفلون، ولكنهم سوف لن ينتصرون.. لن يفلحون فطالما انقسم العراق، ولكنه عاد والتئمت عظامه مع جذوعه واضلاعه على شريانييه الازليين، ولكن بعد ان يقدم العراقيون الملايين من القرابين.. فهل يسمعني أحد.. أتمنى ذك من صميم القلب.

***

لماذا لا يمكن تأجيل وضع الدستور لفترة طويلة؟
الجواب في قانون ادارة الدولة!
د. محمد سعيد الشكرجي

مع اقترابموعد منتصف آب (أغسطس) وعجز أعضاء لجنة الدستور وممثلي الكتل عن الاتفاق على مسودته، وفي جو التخوف من ان يغرق سياسيو العراق في حساباتهم وصراعاتهم ويرهقوا الوطن معهم، ظهرت بعض المقالات التي تدعوا الى تأجيل كتابة الدستور وتمديد العمل بقانون ادارة الدولة (الدستور المؤقت الحالي) لمدة أربع او خمس سنوات، بينما لا يسمح نفس هذا القانون بذلك، كما سنرى. ثم ان هذا القانون لا يصلح تقنياً، في نظري، لتنظيم علاقة المؤسسات السياسية لفترة طويلة أخرى بسبب المطبّـات الخطيرة التي يتضمنها. اضافة الى النتائج السياسية الخطيرة لمثل هذا التأجيل. وتهدف هذه المقالة الى تعميق الحوار الموضوعي حول هذا الموضوع ومخاطره بعيداُ عن مواقف الأطراف المختلفة وعن ممارساتهم السياسوية، ان صح التعبير.
من الناحية القانونية: فيما يتعلق بالفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية حدد قانون ادارة الدولة(وهو بمثابة الدستور المؤقت) في الباب التاسع (وأسماها مرحلة ما بعد الانتقالية!) موعد 15 آب (أغسطس) لكتابة الدستور. واذا لم تستكمل الجمعية الوطنية ذلك (وبدون طلب تمديد مسبق) فيجب عندئذ حل الجمعية الوطنية وانتخاب جمعية جديدة في مدة اقصاها 15 كانون الاول 2005 وستتسلم مهامها مع الحكومة الجديدة في موعد أقصاه 31 كانون الأول 2005 وسيكون عليها انجاز "وضع الدستور الدائم لمدة لا تتجاوز سنة واحدة"، أي مع نهاية 2006 (انظر المادة 61 بفقراتها أ- ز). لذلك لا يمكن الطلب بتأجيل الدستور وتمديد العمل بهذا القانون لسنوات اخرى، فقد حدد الجدول الزمني للوصول الى دستور دائم، ولا يمكن الاقدام على خرقه بهذا الشكل، ولا سيما وان ذلك سيدخلنا في الفراغ الدستوري، وهو طريق مسدود او مجهول النهايات على الأقل...
ونـذكّرأخيرا، فيما يخص الناحية القانونية، بان هذه التواريخ مرتبطة بالأمم المتحدة التي أضفت الشرعية الدولية بقرار مجلس امنها رقم 1546 على هذه المواعيد الانتخابية. وكذلك نذكر بأن (المادة 3، فقرة أ) من قانون ادارة الدولة تؤكد على اعتباره "القانون الأعلى للبلاد... ولايجوز تعديل هذا القانون إلا بأكثرية ثلاثة أرباع الجمعية الوطنية، وإجماع مجلس الرئاسة، كما لا يجوز ... أن يمدد أمد المرحلة الانتقالية الى ما بعد المدد المذكورة في هذا القانون أو أن يؤخر إجراء الانتخابات لجمعية جديدة ...". اذن من الواضح ان هذا القانون قبل التعديل بشروط معينة، لكنه رفض أي تمديد لجدوله الزمني ولا يمكن أيضاً تصور مخالفته والحفاظ عليه في نفس الوقت، اذ أكدت (نفس المادة، الفقرة ب) على "ان اي نص قانوني يخالف هذا القانون يعد باطلاً".
من الناحية التقنية: ان قانون ادارة الدولة يتضمن نقاط ضعف بل وتناقضات أشار اليها العديد من الكتاب، وقد انتجت هذه النواقص صعوبات تم تجاوزها بشكل او بآخر في الفترة الماضية، ولكن اعتماده لسنوات اخرى سيفتح الباب بما لا يقبل الشك لتطورات سلبية قد تكتسب خطورة كبيرة. وسأهتم اليوم بتشخيص التناقضات التي تمنع في رأيي من الدعوة لتبنيه اربع او خمس سنوات جديدة.
1- يحدد قانون ادارة الدولة الحكومة الانتقالية بأنها تتألف "من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة ومجلس الوزراء والسلطة القضائية" (المادة 24، فقرة أ)، أي انها مجمل السلطات العليا في الدولة. ولا أعرف كيف سمح كتاب هذا القانون لأنفسهم بتصور مثل هذه الحكومة(وبضمنها الجمعية الوطنية!!) وكيف يمكنها ان تنجز أعمالها. ورغم ان الحكومة تعني في الديمقراطيات المختلفة مجلس الوزراء الذي يدير امور البلاد، يقف نفس مجلس الوزراء في العراق وحسب قانون ادارة الدولة، ضمن طابور المؤسسات التي تمارس الحكم معه، ولا سيما مجلس الرئاسة الذي يشاطره كما سنرى بعض صلاحياته.. فرئيس الوزراء اذن محكوم بالشلل الجزئي بسبب الزامه بالتوافق مع مؤسسات أخرى. وفي نفس الوقت، فهو المسؤول الذي يتلقى اكبر حصة من اللعنات لأنه رئيس الحكومة، بداهةً، ولكن واقع المؤسسات في العراق مخالف لهذا المبدأ البديهي.
2- وضع مجلس الرئاسة: لا ينسجم وضع مجلس الرئاسة في هذا القانون مع كون النظام السياسي برلمانياً، بل يقترب من النظام الرئاسي للأسباب الآتية :
أ- منح قانون ادارة الدولة مجلس الرئاسة "حق نقض أي تشريع تصدره الجمعية الوطنية .. (عندها) يعاد التشريع الى الجمعية الوطنية التي لها ان تقر التشريع مجدداً بأغلبية الثلثين غير قابلة النقض خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوماً" (المادة 37)، وذلك رغم علوية الجمعية الوطنية على مجلس الرئاسة كونها منتخبة مباشرة من قبل الشعب.
ب - من جهة اخري يمنح هذا القانون (المادة 39، الفقرة ج ثم المادة 44، فقرة هـ) مجلس الرئاسة سلطة تعيين اعضاء المحكمة الاتحادية العليا ورئيسها من بين مرشحين من قبل مجلس القضاء الاعلى ومن دون تدخل الحكومة ولا الجمعية الوطنية المنتخبة!!
ج- منح قانون ادارة الدولة مجلس الرئاسة، دون غيره، صلاحية "تسمية رئيس الوزراء بالاجماع" ولم يلزم هذا القانون مجلس الرئاسة حتى باختيار رئيس الوزراء من الأغلبية البرلمانية (المادة 38 فقرة أ) وما يعنيه ذلك من تسليط السيف على دور الاغلبية البرلمانية التي يمنحها النظام البرلماني حق تشكيل الحكومة. صحيح ان الدساتير لا تذكر هذا الأمر بالضرورة لأنها تذكر بالمقابل ضرورة حصول رئيس الوزاء المعين مصادقة البرلمان فاذن يجب ان يكون من الاغلبية الفائزة، وذلك في بلدان ذات تقاليد برلمانية عريقة. أما في الحالة الانتقالية فعدم ذكر كون رئيس الوزراء من الأغلبية الفائزة ثم اضافة ان الجمعية الوطنية تستطيع رفض رئيس الوزراء المعين من قبل مجلس الرئاسة، وعليها حينذاك انتخاب رئيساً للحكومة بأغلبية الثلثين (نفس المادة 38) كل ذلك يجعل رئيس الوزراء بدون لون ويفتح الباب لاحتمالات الأزمة السياسية التي تم تداركها بعد الانتخابات الماضية، عقب عمليات الكر والفر والنقاشات المضنية للشعب قبل الطبقة السياسية. ورغم ان هذه التداولات تحصل في البرلمانيات المختلفة، لكن المقصود انها أخذت بعدأ خطيرا بسبب احكام هذا القانون الانتقالية التي ارادت فرض التوافق بأي ثمن. وحتى لا يحصل سوء فهم فأقول ان هذا كان جيداً لفترة انتقالية قصيرة، انما لا يصلح بالمرة للتطبيق سنوات اخرى عديدة، كما يطالب البعض.
النظام الفرنسي: ومن المفيد التذكير هنا بأن النظام الفرنسي ليس برلمانياً تماماً لوجود مسحة رئاسية تستند الى انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب وبغير ذلك لا يمكن تبرير وضع الرئيس الفرنسي. ومع أنه يقف كرئيس منتخب على رأس السلطة التنفيذية فان منافسة رئيس الحكومة له قوية جداً. فقد حدد دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية صلاحيات الحكومة (ورئيس الوزراء) كما يلي :
- ان الحكومة هي التي تقرر سياسة الأمة وتقود الادارة والقوات المسلحة (المادة 20)
- "يقود رئيس الوزراء العمل الحكومي وهو المسؤول عن الدفاع الوطني ويشرف على تنفيذ القوانين ويمارس صلاحيات اصدار الأنظمة ويُصدر التعيينـات للوظائف المدنية والعسكرية.." (المادة 21)
- دون الكلام عن ضرورة توقيعه على الكثير من القرارات الرئاسية (المادة 19).
مجمل هذه الصلاحيات هي التي سمحت لما سمي في فرنسا، منذ نهاية الثمانينات، بالتعايش بين رئيس وزراء من أغلبية برلمانية معارضة لسياسة رئيس الجمهورية، وكان اساس السلطة فيها بيد رئيس الوزراء مع بقاء السياسة الخارجية والجيش من اختصاص رئيس الدولة المنتخب ولكن بالتنسيق مع رئيس الوزراء.
هذا هو موقف الدستور الفرنسي من موقع رئيس الوزراء رغم المسحة الرئاسية المعروفة لهذا الدستور (اتنخاب رئيس الجمهورية على رأس السلطة التنفيذية). أما في البرلمانيات فلنتذكر وضع توني بلير الذي هو الحاكم الحقيقي لبريطانيا كما هو شرودر لألمانيا، فاين من كل هذا رئيس الوزراء في قانون ادارة الدولة وكيف يستطيع ادارة كفة البلاد، لا سيما في مواجهة تحديات الارهاب وضغوط القوات المتعددة الجنسيات، وهو محكوم بالموازنات ويخضع للابتزاز من مختلف الجهات، حتى المشاركة معه في الوزارة.
التوازن لا يعني التضارب: وليس صحيحاً ما ذكره بعض المحللين السياسيين –وما أكثرهم في هذه الأيام في العراق!- من ان نظرية التصادم والتوازن (بفضل الفصل بين السلطات واستقلاليتها عن بعضها)، والتي هي اساس عمل النظام الديمقراطي تجد ترجمة قوية لها في قانون ادارة الدولة. لأن هذه الآلية (التصادم والتوازن) موجودة، حسب رأيه، حتى في داخل السلطة الواحدة. ان هذا التشخيص يعبر عن فهم خاطئ لهذه النظرية، لأن التوازن في النظام الديمقراطي يتم بين سلطات مستقلة وذات بنى وآليات عمل خاصة بها تجعلها قوية في مواجهة السلطات الاخرى ومنسجمة معها، اما ان تكون مكونات السلطة الواحدة تصطدم ببعضها فهذا لايعطينا التوازن بقدر ما ينتج ضعف السلطات ويسبب اضطراب عموم النظام السياسي، لا سيما عندما يتعلق الأمر باضعاف السلطة التنفيذية التي اتفقت التجارب البرلمانية العريقة (في بريطانيا وفرنسا مثلاً) على تقويتها حتى على حساب السلطة التشريعية، لضمان استقرار العمل الحكومي (اي الوزارة). المهم ان الديمقراطية لا تعني تضارب المؤسسات بل التوازن بين سلطات قوية ومنسجمة لأنها تعمل في اطار الشرعية الانتخابية ودولة القانون.
3- أعطى قانون ادارة الدولة " للجمعية الوطنية وحدها سلطة ابرام المعاهدات والاتفاقات الدولية" (المادة 33، فقرة و) وليس مجرد حق المصادقة عليها. وهذا رغم ما ورد في (المادة 39، فقرة أ) من تنسيق مجلس الوزراء مع مجلس الرئاسة "لغرض التفاوض على عقد معاهدات واتفاقات دولية" وهنا يعطي للبرلمان دور المصادقة عليها ! والصحيح هو الموقف الثاني فالحكومة هي التي تبرم المعاهدات وتقوم الجمعية الوطنية بدور المصادقة، والا كيف يمكن تصور جمعية وطنية تقوم بابرام المعاهدات مع الدول الأجنبية...
4- رئيس وزراء مُحاصر: من جهة اخرى، يعتبر هذا القانون رئيس الوزراء والوزراء مسؤولين امام الجمعية الوطنية ويعطيها حق سحب الثقة بدون ذكر للأسباب والآليات. بينما لا ينص هذا القانون، في المقابل، على حل الجمعية الوطنية من قبل رئيس الوزراء للاحتكام الى الشعب وهنا يصبح النظام السياسي قريباً من نظام الجمعية بينما هو قريب الى الرئاسي فيما يخص صلاحيات مجلس الرئاسة. فهذا النظام برلماني بتفاصيله المختلفة الأخرى، عندما يذكر مثلاً أن على الجمعية الوطنية النظر في "مشاريع القوانين المقترحة من قبل مجلس الوزراء بما في ذلك مشاريع قوانين الميزانية" (المادة 33 فقرة ب)، قبل ذكر اقتراحات القوانين المقدمة من قبل اعضاء الجمعية الوطنية ( نفس المادة فقرة د)، بل ان مجلس الوزراء يحتكر تقديم مشروع الميزانية (فقرة ج من نفس المادة).. وبالنتيجة فهناك ثلاث أنظمة في نظام سياسي واحد!! او نظام برلماني برئيس وزراء ضعيف ومحاصر من الجهتين، الرئاسة والجمعية الوطنية !!!
لكل هذه الأسباب فان استمرار هذه الوضعية الانتقالية لسنوات أخرى يعني الكثير من المصاعب لأي حكومة قادمة.

من الناحية السياسية:
أن تقديم مسودة الدستور من قبل لجنة الصياغة الى الجمعية الوطنية ليست نهاية المطاف بل هناك محطات اخرى مهمة تجعل من عملية التأجيل والعودة الى المربع الاول مصدر احباط وخسارة كبيرة، بالاضافة الى انها قد تساهم في تجميد الاوضاع السيئة مثل الفساد والاضطراب السياسي. اما الارهاب الصدامي والتكفيري، وما يسببه من خسائر فادحة في العراق، وبالمدنيين خصوصاً، فحدث ولا حرج عن بالونة الاوكسجين التي سيتزود بها هذا الارهاب، بعد ان بدأ يحاصر في العديد من مواقعه. ومعروف ان الارهابيين المجرمين لم يوفروا اسلوبا الا وجربوه لمنع العملية الديمقراطية من التقدم في العراق. ولا داعي للتفصيل فهذه الحقائق ما عادت خافية على أحد.
من جهة اخرى، حرصاً على الالتزام بالمناقشة الموضوعية ينبغي الابتعاد عن خلط قضايا حساسة وتقنية، مثل الدستور، بمتطلبات الصراع السياسي. فهذا لا يساهم قطعاً في توعية الناس بأهمية الدستور وان مصالحهم المشروعة في تحسين الخدمات الضرورية لا ينبغي ان تلهيهم عن مصلحتهم الكبرى في بناء العراق الديمقراطي لهم ولأبنائهم. وفي نفس الوقت، لا ينبغي اضفاء صفة الصنمية على الدستور فهو سيعرض على النقاش وربما سيتم تعديله. وليس هناك دستور كامل في اي بلد، انما يكتسب هيبته واحترامه، شيئاً فشيئاً وبعد كل خطوة الى ان يرسخ في الضمائر والممارسات.. لذلك لا ينبغي اعتبار جرائم الفساد الاداري (التي يجب محاربتها واستئصالها) كافية لنسف العملية الجارية برمتها. لأننا عندما نعالج مسالة البناء السياسي، فنحن بصدد عملية تاريخية ليست ملكاً لأحد، بل لكل العراقيين، حاضراً ومستقبلاً، وسيتحسن أداؤها مع الوقت طالما توجد حرية رأي وانتخابات، وسيتم تكريسها وتنقيتها مع تعميق الممارسة الديمقراطية. فالسياسيون الذين قادوا بلدانهم الى الديمقراطيات الغربية العريقة، التي نعرفها اليوم، لم يكونوا من صنف الملائكة بل استفاد الكثيرون منهم من مواقعهم السياسية، ومنهم من اقترف اعتداءات كبرى سواء في بلدانهم ام في بلدان العالم الثالث، وهناك مئات الكتب والدراسات في هذا المجال. فهم أناس لهم حسناتهم وأخطاؤهم، لكنهم ساهموا كل من موقعه في ترسيخ العملية الديمقراطية وايصالها، جيلاً بعد جيل، الى ما هي عليه اليوم.
وأخيرأ فالدستور ما هو الا وثيقة انسانية سياسية/اجتماعية تكتسب صفة الشرعية بتبنيها من قبل الاطراف السياسية النافذة في البلد المعني، في اللحظة التاريخية المعينة، وكما يقول الغربيون: الآن وهنا. اي في سياق واقعي، وليس مثالياً. هكذا تطورت التجارب السابقة علينا، حيث أضفى كل بلد سماته الحقيقية على دستوره الديمقراطي. الا الدساتير المزيفة بالشعارات البراقة التي عرفناها في عالمنا العربي وكثير من دول العالم الثالث، فهي مثالية المظهر ولكنها ورغم مظهرها لم تجلب لنا غير الدمار، لأنها لم تعبر عن واقع بلدانها. أضافة لهذا التفاهم الاجتماعي، يحتاج الدستور الى عنصر الاستمرار لترسيخ قواعده وقيمه، كذلك لتحسينه وتطويره على يد الاجيال القادمة. كما هي سنة الحياة في كل مكان! لذلك رغم الواقع الصعب، نرجو ان يوفق جميع القادة السياسيين العراقيين في عملهم لتقديم مشروع الدستور الذي ننتظره جميعاً.
باريس
[email protected]

***

القواسم المشتركة للدستور القادم

زهير كاظم عبود


عملية بناء النصوص لمسودة الدستور العراقي عملية غاية في الأهمية لاشك في ذلك، وتأتي تلك الأهمية كون هذه الوثيقة المقدسة قانوناً سترسم العمل الدستوري والقانوني والسياسي وكل مفاصل الحياة العراقية للمستقبل العراقي، بالأضافة الى تحديدها وبشكل واضح الحقوق والواجبات للعراقيين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم وأجناسهم، وترسم الحماية الدستورية من خرق القوانين والتعسف الذي يتعرض له المواطن.
وتتحمل الجمعية الوطنية العراقية بأعتبارها الممثل الشرعي والحقيقي عن الشعب العراقي، والتي انتخبها ابناء العراق بالرغم من كل تحمله معها من سلبيات، تتحمل مسؤولية بناء هذه المسودة، حيث أختزلت جهدها بتكليف لجنة لأعداد مسودة الدستور.
والمتابع لهذه العملية يجد ان الجمعية الوطنية تماهلت كثيراً في الأعداد لهذا المشروع العراقي المهم، بالرغم من معرفتها بأهمية هذه المسودة، وكون المشروع سيتم طرحه للمناقشة الشعبية قبل الأستفتاء عليه، وأخيراً تم تسمية عدد من أعضاء الجمعية وتكليفهم بأعداد مسودة للدستور العراقي، على ان تشكل نصوص المسودة التوافق العراقي، وتثبت القواسم المشتركة، فالدستور لايتم رسمه من قبل جهة سياسية منفردة، ولايمكن ان يعبر عن افكار حزب سياسي معين، كما لايمكن ان يتم تحديدة لوجهة نظر كتلة معينه واحدة، على أساس ان المشروع هو ليس فقط لكل العراقيين، بغض النظر عن اديانهم، والعراق بلد متعدد الأديان، اذ يضم بالأضافة الى المسلمين المسيحيين واليهود والمندائيين والأيزيدية، والعراق بلد متعدد القوميات أذ بالأضافة الى العرب يضم الكرد والتركمان والكلدان والاشوريين، كما يتوجب على القائمين بالأعداد أن يستوعبوا الحقوق التي تم تهميشها من قبل الدساتير المؤقتة السابقة والتي تخص شرائح عراقية مهمة منها شريحة الكرد الفيلية والشبك.
ولهذا فأن المشروع ليس فقط لحياة العراقيين آنيا، وانما الضمانة الأكيدة لحياة عراقية مشتركة مبنية على اسس الأستفادة من تجارب العراق المريرة الماضية، ويرسم ايضاً الحلول الجذرية للأشكاليات والمشاكل التي عانى منها الانسان العراقي.
وأذا كانت جميع الأطراف ممثلة في هذه اللجنة، وأمام زخم الكتابات والأهتمامات التي سطرها وأشار اليها المهتميمن سياسياً وقانونيا وثقافياً في الملامح العامة لمسودة الدستور، كان يستوجب على اللجنة المكلفة أن تضع القواسم المشتركة في صدارة الأتفاق على نصوص تعبر عن هذا الأتجاه، ثم تناقش بقية الأشكاليات وفقاً لمصلحة العراق وليس وفقاً لوجهة نظر الجهة السياسية التي يتبعها عضو لجنة أعداد مسودة الدستور.
وأذا كانت المفاصل الأراس في المسودة وهي علاقة الدين بالدولة والتشريع والفيدرالية وتقاسم الثروات، لم يتم الاتفاق عليها لغاية انتهاء الفترة التي حددها قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الأنتقالية في نص الفقرة ( أ ) من المادة 61 منها، والتي اوجبت على الجمعية الوطنية كتابة مسودة الدستور في موعد اقصاه 15 آب 2005، ليصار الى عرض المسودة على الشعب العراقي للموافقة عليها بأستفتاء عام، وفي الفترة التي تسبق أجراء الأستفتاء، تنشر مسودة الدستور وتوزع بصورة واسعة لتشجيع النقاش العام بين ابناء الشعب العراقي بشأنها.
وحيث لم يتم الاتفاق على القواسم المشتركة، مما يعني ان اللجنة التي تشكلت لأعداد المسودة، لم تزل تختلف في التفكير والوصول الى قواسم مشتركة، وان تضع اللجنة مصلحة العراق امامها قبل المصلحة الحزبية، فلم يتم الاتفاق على المسائل الأساسية والمهمة للحياة العراقية القادمة، وصار الأمر باللجوء الى نص الفقرة ( و ) من نفس المادة 61، وهو نص يتم اللجوء اليه (( عند الضرورة )) لأكمال كتابة المسودة، بشرط ان يوافق الأغلبية في الجمعية الوطنية ليتم التأكيد لمجلس الرئاسة أن هناك حاجة ضرورية لوقت أضافي لأكمال كتابة المسودة، ومنح القانون مدة ستة اشهر، على أن يقوم مجلس الرئاسة بتمديد المدة لكتابة مسودة الدستور.
وأخيراً وبعد مخاض عسيرلم تتم ولادة المسودة، وتم الأتفاق على تمديد الفترة المقررة ليصار الى تعديل التاريخ الى 22 آب 2005، وبقيت الأختلافات في وجهات النظر قائمة، مما يدل على أن هذه الأختلافات ليست وجهات نظر أنية وأنما ثابتة وعميقة ، والسؤال الذي يحير الشارع العراقي، يكمن في مدى أمكانية أتفاق هذه الأطراف خلال هذا الأسبوع على المفاصل الأساسية المختلف عليها، وهي كما ذكرنا من بين أهم نصوص المسودة خلال أسبوع واحد، بعد مرت عشرات الأسابيع دون ان نجد تلك الهمة وذاك الأهتمام بالمستقبل العراقي، وسط تصريحات ومشاريع تطرح تشعر المواطن العراقي بالخشية على مستقبلة من هذه الأفكار التي يتم طرحها بين الفترة والأخرى.
ثمة مسألة مهمة ينبغي الألتفات اليها، ولعلها تكون سابقة لأوانها، وهي أن نص الفرة ( ب ) من المادة ( 61 ) أوجبت طرح المسودة على الشعب العراقي، وجائت الكلمة مطلقة، ويعرف اهلالقانون ان المطلق يجري على أطلاقه، ولهذا فأن حرمان الملايين من العراقيين خارج العراق من المشاركة بهذا الأستفتاء، يبطل مشروعية الأستفتاء الذي يجريه قسم من الشعب العراقي حيث لاتوجد اية مشروعية لهذا الحرمان، واللافت للنظر في هذا الأمر التصريحات المبكرة للمفوضية العليا في التوجه لحرمان ملايين العراقيين خارج العراق من المشاركة.
ومن جانب آخر كنا نتوقع أن الكتل الأساسية المتشكلة في الجمعية الوطنية ستعي حقائق العراق وتستوعب أشكالياته وتجد وفق فهمها الواسع للمستقبل العراق، الحلول والقواسم المشتركة لمسودة الدستور، فالأمر ليس ما تستطيع ان تربحه جهة ما، وليس كسب مغانم وتوزيع مصالح، ثمة مستقبل للأنسان العراق يقع على عاتق الكتل السياسية المتشكلة في البرلمان مهمة ضميرية وتاريخية سيسجلها التاريخ العراقي لهم، فأن خابوا ولم يستطيعوا أن يتوصلوا الى رسم مسودة للمستقبل العراقي، فكيف يمكن التفكير حل هذه الأشكاليات خلال فترة الأسبوع ؟ مع وجود مهمات وطنية ليست بالسهلة واليسيرة ينبغي ان يتم الأرتقاء في أداء الجمعية والحكومة الى مستوى خطورتها، وهي التصدي بحزم للأرهاب والتطرف المنتشر في العراق، وحل مشاكل المواطن العراقي اليومية والتي صارت مزمنة تحت سيل جارف من الوعود والأحلام التي ترسمها الحكومات المؤقتة، بالأضافة الى وضع مزري يكمن في رشاوى وأختلاسات وصفقات لمسؤولين لم يسمع أي عراقي أن القانون والعدالة قد طالت منهم، بالرغم مما نسمعه بين الحين والاخر من قصص وأتهامات تختفي ملفاتها ويرحل اشخاصها دون ان نعرف الحق من الباطل، والصحيح من الملفق.
لم نزل نقول ان القواسم المشتركة تكمن في أن تضع اللجان المختصة أمام انظارها شعب العراق اولاً، ومستقبل العراق ثانياً، ومايشترك به اهل العراق ثالثاً.
حينها ستكون كل المحاور التي شكلت مثار جدل او اختلاف في وجهات النظر قريبة من بعض، وان يتم طرحها للمناقشة حيث تم التعدي على حق الشعب في فترة المناقشة التي ستكون مثمرة وجدية وجديرة بالأهتمام، بالنظر لتنوع وجهات النظر العميقة التي أظهرها المختصين والمثقفين والسياسيين العراقيين في هذا الجانب.

***

تأجيل البت بمسودة الدستور العراقي الدائم
أسبوع من الحكمة خير من خمسين عاما من التخلف

علي عبد العال

تأجيل موعد إعلان "وثيقة الدستور الدائم ـ ميثاق الشعب والدولة" لطرحه للتصويت في الجمعية الوطنية للتصديق عليه فترة أسبوع آخر ل