قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم (... وليضربن بخمُرهن على جيوبهن....).
ما معنى جيوبهن في الآية الكريمة؟
في البداية وهذا شي طبيعي وموضوعي نستعرض معنى المادة (ج،ي، ب) في المعاجم اللغوية العربية المعروفة.
في مقاييس اللغة لأبن فارس (جيب، أصل يجوز أن يكون من باب الإبدال، فالجيب جيب القميص، يقال جبت القميص: قوَّرت جيبه، وجبَّبته: جعلت له جيبا، وهذا يدل على أن أصله واو، وهو بمعنى خرقت).
في مصباح المنير (جيب القميص: ما ينفتح على النحر، والجمع أجياب، وجيوب، وجابه يجوبه، قوَّر جيبه، وجيَّبه: جعل له جيبا).
ونقرأ في بعض المعاجم (وجيب الأرض: مدخلها).
قال ذو الرمّة: ــ
طواها إلى حيزومها وانطوت جيوب الفيافي : حزنها ومالها.
وإذا راجعنا مادة (ج، و، ب)، لتبين لنا بعد التدقيق أن المادة تفيد الخرق، والنفاذ، ففي مقاييس اللغة (أصل واحد، وهو خرق الشيء، يقال: جبت الأرض جوبا: فأنا جائب وجوَّاب، والجوبة كالغائط، وهو من الباب لأنه كالخرق في الأرض...).
يقول في صحاح اللغة (... وجاب يجوب جوبا: خرق وقطع، وجببت البلاد أجوبها وأجيبها واجتبتها إذا قطعّتها...).
يقول صاحب أساس البلاغة (... وجاب الصخرة: خرقها...).
والجيب الصدر، نقي الجيب، يعني خالص القلب، وهو استعمال فيه توسع، ذلك أن الصدر في حد ذاته أوسع في دلالته من فتحته، أي بداية الشق بين النهدين من أعلى.
فهذه الألفاظ اقتربت أصولها، واتفقت معانيها... ولكن في الأصل تفيد الخرق، تفيد النفاذ، ومن هنا أُستعير مادة (ج، ي، ب) لفتحة الصدر، أي بملاحظة هذا الشق الذي يفصل بين النهدين أو الثديين، فهو كالجيب، أي كالشق، أو أستعير لذلك، لأن النساء كنَّ يلبسن قمصانا ذات جيوب، أي فتحات من فوق، فينكشف بداية الصدر.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة [ والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدّرع والقميص، وهو من الجوب وهو القطع.... (على جيوبهن) أي على صدورهن، يعني على مواضع جيوبهن ]. ويضيف معلقا (في هذه الآية دليل على أن الجيب يكون في الثوب موضع الصدر، وكذلك كانت جيوب في ثياب السلف رضي الله عنهم على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم...)، وزاد في ذلك بشاهد من البخاري الذي خصص بابا بعنوان (جيب القميص من عند الصدر وغيره...).
فالجيب هنا استعير للإشارة الصدر، صدر المرآة أو الرجل.
هذا الموقف فيه انحراف عن الاستعمال بشكل دقيق، ذلك أن الجيب هو فتحة القميص وليس القميص كله، الجيب يطوي معنى الخرق، يفيد معنى الخرق، لا يبعد عن الخرق، والقرطبي ذكره هو نفسه، حيث يقول ( وهو أي الجيب موضع القطع من الدِّرع والقميص)،وحديث البخاري يؤيد ذلك، فقد جاء فيه (... مثل البخيل والمتصدِّق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرَّت أيديَهما إلى ثُدِيهما وتِراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدَّق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قَلَصَت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة: فأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع ). إن استعمال الجيب وإرادة الصدر كله ليس من نظام المعجم بشكل دقيق ، بل يراد به الفتحة، فتحة الصدر من أعلى.
يقول الطبري في تفسيره [ (على جيوبهن) ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وقرطهن...)، وهذه طفرة كبيرة في الاستعمال، فيما لا يسمح المعجم أكثر من الإشارة إلى فتحة الصدر، فجيب الأرض مدخلها، حيث هناك مدخل، خرق، وبالتالي، جيب القميص يطلق ويراد به خرق موجود على الصدر، تلك هي الفتحة التي تلي النحر بمسافة قليلة، أي بعد عظام الصدر الأولى.
يقول صاحب كنز الدقائق [ (وليضربن بخمورهن على جيوبهن) سترا لأعناقهن...)!
يقول الكشاف (وكانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن، وما حواليها، وكن يسدلن الخُمُر ورائهن فتبقى مكشوفة، فأمرن أن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها، ويجوز أن يراد بالجيوب الصدر تسمية بما يليها ويلابسها، ومنه قولهم: ناصح الجيب).
أن التدقيق بنص الكشاف يكشف بوضوح أن الجيب كان يطلق على فتحة القميص من فوق، حيث كانت فتحة كبيرة بدرجة ما، فينكشف النحر، والصدر، والصدر هنا يلي النحر كما هو لحن النص، وهو لا يعني كل ما تحت النحر من الصدر، بل الفتحة كما يظهر، وما حول الصدر يعني ما حول هذه الفتحة، بدابة الخرق، بداية الشق بين الصدرين، أي النهدين أ و الثديين، أو الكاعبين ... ودلالة الجيب على الصدر كله ضعيف كما لمح هو في آخر الكلام.
يقول صاحب مجمع البيان في تفسيره الآية ا لكريمة (وكنّى عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها ...) وهو ضعيف، فأن هذه الكناية بعيدة، فإن التكنية بها عن فتحة الصدر هي الأولى، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصدر لم يكن كله مكشوفا، وإنما المكشوف هو هذه الفتحة المثيرة وما حولها، ثم، تلا قي كل من الجيب وفتحة الصدر بهذا الشق، الخرق...
يقول مفسر (والجيب هو شق الثوب طرف الصدر ...)...وهو كلام دقيق، احترم نظام المعجم، ولم يدخل فيه تصورات مسبقة.
يقول صاحب الميزان ( والجيوب جمع جيب... والمراد بالجيوب الصدور)! والكلام بلا دليل. ومن ثم يبين المعنى فيقول (والمعنى: ليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها)، ولم يذكر النحر والأعناق!
فالآية جاءت لتعالج عري الصدر من تحت هذا الشق، أي مما يظهر من الصدر خلال الشق، شق القميص، فتحة القميص، ولكن بعض المفسرين وسعوا من معنى الجيب هنا، ليشمل النحر، والرقبة، وعظام الصدر الأولى!
لنقرأ ما يقول المفكر الإيراني مطهري [ بعد الاستثناء تقول الآية (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ومن الواضح أن الخمار ليس له خصوصية هنا، بل المقصود هو ستر الرأس والرقبة والنحر، لقد كانت جيوب نساء العرب واسعة كما نقلنا ذلك عن الكشاف، ونقله غيره أيضا، لا تغطي نحورهن وصدورهن، وكن يسدلن خمورهن من الخلف فتبدو آذانهن وأقراطهن وصدورهن، فجاء حكم الآية يلزم أن يستخدم القسم الذي يسدل الخلف من ا لخمار لتغطية ما كان مكشوفا...) ص 105 من كتاب الحجاب.
والكاتب لم يشفع كلامه بديل من ا لمعجم، بل يطلقها هكذا، ثم يستشهد بكلام لأبن عباس، وبعض المفسرين، وسوف نناقش ما جاء في الأثر.
يقول الغرناطي (كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب، يظهر منهن صدورهن، وكن إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة يُسدلنها من وراء الظهر، فيبقى الصدر والعنق والأذان لا ستر عليها ...).
الجيوب ليست القمصان والثياب كما هو واضح، وإنما فتحة القميص، ويبدو أنها كانت عريضة، والصدور في النص لا تعني الصدر كله، بل ما تحت الشق، فعبر بالكل عن الجزء، والذي كان مكشوفا هو العنق والنحر وعظام الصدر الأولى ومن ثم فتحة الصدر، فضلا عن الأذنين، وبالتالي، أن ضرب الخمار على الجيوب وليس على العنق، ولا على النحر، ولا على العظام الأولى من الصدر، بل على هذا الجزء المكشوف من خلال الشق اللعين وحسب. ومن الطبيعي أن ستر ذلك قد لا يتطلب بإسدال الخمار من خلف إلى الأمام، بل يكفي بأي طريقة أخرى، كأن تكون القمصان بلا جيوب، أو يحشى الشق بقطعة قماش مثلا. ومن هنا لم يوجب بعض الفقهاء تغطية الصدر من عظامه الأولى ولا النحر، وربما الرقبة.
ولكن المفسرين وسعوا من استعمال الجيب ليتخطى الفتحة المعروفة، ليشمل عظام الصدر الأولى، والنحر والرقبة، فكيف جاء هذا التوسع في الاستعمال؟
الاحتمال الأول، أن يكون بسبب ثقافة كانت تفرض هذا الاستعمال، أي كان المجتمع يعد تغطية العنق والنحر وعظام الصدر نظاما أخلاقيا أو طقسيا، والاحتمال الثاني، هو ما ورد في الأثر، بأن كل ما يجوز إظهاره من جسد المرأة هو الكفين والوجه فقط، فسُحِب ذلك على تفسير الآية الكريمة ، أي توسيع الاستعمال جاء بسبب من خارج الاستعمال، الاحتمال الثالث، هو ما ورد في الأثر أن كل جسد المرأة عورة، ويجب تغطيته كله
الآية لا تسمح أبدا بهذا التوسع، وكل ما تفيده تغطية هذا الشق، هذه الفتحة، وما حولها، ومن هنا كان التوسع في الاستعمال من قبل بعض المفسرين تعسفا، وكان عليهم أن يقرروا وجوب تغطية تلكم الأجزاء بالاستناد إلى مصدر آخر غير القرآن، وبالفعل هذا ما فعله بعض المفسرين، ولكن هل جاء في الأثر ما يبرهن على ذلك، في حلقة مقبلة نتناول هذه النقطة. وكان من مستحقات هذا التعسف أن اختلفوا فيما بينهم في حدود هذا التوسع، فبعضهم صرف الجيب إلى العنق والقرطين والنحر والصدر، وبعضهم اقتصر ذلك على العنق، وآخرين حصروا ذلك في الصدر وحسب! الأمر الذي يشي عن موقف تحميلي في هذا الصرف غير المبرر من داخل اللغة.