قال تعالى في كتابه الكريم (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون) ــ النور أية 30 ــ ما هو موضوع الآية الكريمة هنا؟ باختصار، وكما يقول الكثيرون، أن موضوع الآية الكريمة يعالج نظر(الرجل المؤمن) إلى جسد (المؤمنة الأجنبية !)، وبالتالي يخرج من ذلك المحارم كما يعبرون، ولست الآن بصدد تعداد هؤلاء المحارم، سوف أتناول ذلك بالتفصيل في التعرض للآية الكريمة (31) من نفس السورة لاحقا. وفي تصوري أن الآية تعالج قضية أكبر من هذا الموضوع، تعالج عمق الذات المؤمنة، تعالج طهرها وعفويتها وشرفها ورشاقتها، وسوف يتضح ذلك أكثر في السطور التالية. ولكن هنا ملاحظتان
الأولى: لماذا خص المؤمنين هنا؟ وهل يعني ذلك أن التكليف غير متوجه إلى غير المؤمنين؟
العقاب على تركها...).
واعتقد الجواب على ذلك واضح، فأن خطاب القرآن في الأحكام الشرعية متوجه للمؤمن به، وأما غير المؤمن به كوحي رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فليس جهة خطاب هنا.
الثانية: هل الآية تعالج نظر الرجل المؤمن إلى جسد أي أمرآه، من مسلمة إلى كتابية إلى مشركة إلى ملحدة، أم المرآة المؤمنة (الأجنبية) فقط.
الذي عليه ظاهر المفسرين هو المؤمنة فقط، وقد ينتصرون لذلك بقوله تعالى في الآية التالية لها، أي آية رقم (31)، والتي يقول فيها الله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...).
ولكن هنا أكثر من سؤال فرعي...
فيما إذا كان تحريم النظر خاصا بالمؤمنة فقط، فهل يجوز النظر إلى كل جسد المشركة، بما في ذلك جهازها التناسلي الخاص؟ وقبل ذلك بعض المواضع ذات الإثارة، مثل النهدين والبطن؟ وإذا كان ذلك جائزا، فهل بشهوة أم بلا شهوة؟
نتكلم لاحقا عن ذلك إن شاء الله تعالى.

في بحر اللغة
قال في مقاييس اللغة (غض، الغين والضاد أصلان صحيحان، يدل أحدهما على كفِّ ونقص، والأخر على الطراوة.
الأول الغض: غض البصر. وكل شي كففته فد غضضته، ومنه قولهم: تلقحه في ذلك غضاضة، أي أمر يغض له بصره. والغضغضة النقصان... وغضضت السقاء نقصته، وكذلك الحق...).
قال في المفردات (غض: الغض النقصان من الطَّرف والصوت، وما في الإناء يقال غضَّ وأغضَّ... وغضضت السَّقاء، نقصت مما فيه...).
قال في الأساس [ (غ، ض، ض) أغضض صوتك: اخفض منه، وغُض طرفك، وطرف غضيض. وغض من لجام فرسك أي صوُّبه وطأ منه لتنقص من غرْبه، وأغضض لي ساعة أي أحبس عليّ مطيَّتك وقف عليَّ... لحقته من كذا غضاضة أي نقص وعيب... ومن المجاز: امرأة غضة: بضة ].
في مفردات الأصفهاني (غض: الغض النقصان من الطَّرف والصوت، وما في الإناء يقال: غضَّ وأغضَّ... وغضضت السِّقاء نقصت مما فيه، والغض الطري الذي لم يطل مكثه).
قال في مجمع البيان (أصل الغض النقصان، ويقال غض من صوته ومن بصره أي نقص...).
يقول السيد صاحب الميزان وهو يفسر الآية رقم (30) من سورة النور (الغض: إطباق الجفن على الجفن)،
وهذا بعيد في اللغة، فأن الإغماض يناسب العين وليس الإبصار، فالإغماض للعين والغض للبصر، وهذا ما أشار إليه تلميذه مرتضى مطهري، وينقل الأخير عن المجلسي في تفسير المادة قوله (أي ــ فيما يخص المادة التي نحن في خصوصها ــ كسره وأطرق ولم يفتح عينه، وإنما يفعل ذلك ليكون أبعد من الأشر والمرح...) ـ الحجاب لمطهري ص 96 ــ ولكن الشوكاني يذهب هذا المذهب، ومنه قول جرير:
فغض الطرف أنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وفي تفسير الطبري يصرف الغض هنا إلى الكف، أي كف النظر.
وفي تفسير الترمذي (... وقيل: الفض النقصان، يقال: غض فلان عن فلان أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكَّن من عمله موضوع منه ومنقوص...).
فالمادة تطلق وتستعمل للكف والنقص والخفض، فالكف مقابل الإصرار أو المداومة، والنقص مقابل التمام، والخفض مقابل الإغماض في ما نحن فيه.
وبالتالي، فإن غض البصر قد يعني الامتناع عن النظر إلى جسد المؤمنة (الأجنبية) تماما، وذلك قد يكون بإسدال الجفن على الجفن، ولكن بانَ فسادُ هذا الرأي لغةّ. وقد يعني غض البصر إنقاص مساحة العين، أي أن لا يملأ الناظر عينه بجسد المؤمنة (الأجنبية)، أي كسر النظر، فجسد المؤمنة (الأجنبية !) قد يكون مكشوفا، والمطلوب هو تقليص النظر إلى هذا الجسد، وليس إعدام رؤيته بالكامل، أي خلاف الإغماض، وخلاف التحديق في نفس الوقت، وقد يعني غض النظر انطلاقا من تبعيض الجسد، فيكون المعنى حرمة النظر إلى بعض الجسد ، وقد يكون الغض إهمال المنظور وإن امتلأت به العين، أعني عدم إعطاء شي من الاهتمام والانبهار والإعجاب، فغض الطرف أو غض البصر عن فلان قد يعني تقليلا من قدره، وكثيرا ما نقول (غض النظر عنه) أي أهمله، أو لا تشغل نفسك به، كما لو نقول أيضا (بغض النظر عن هذا الرأي، أو الخبر أو الحدث)، أي مع إهماله وعدم الالتفات إليه.
لقد جاء استعمال القرآن الكريم لهذه المادة في أربع مواقع، فقد قال تعالى (يغضوا من أبصارهم)، وقال تعالى (يغضضن من أبصارهن)، وقال تعالى (أن الذين يغضون من أصواتهم عند الله أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى)، وقال تعالى (واقصد في مشيك وأغضض من صوتك)، ويرى كثير من الباحثين أن الاستعمال في كل هذه المواقع لا يخرج عن معنى التخفيف والخفض، وذلك في مقابل التحديق والشدة،وفي ذلك جزم الشيخ شمس الدين رحمة الله عليه.
الآن ما معنى غض البصر في الآية الكريمة؟
هل يعني الإغماض الكامل عن جسد المؤمنة (الأجنبية) بحيث يختفي الجسد تماما في دائرة البصر؟
ربما يذهب هذا المذهب من يرى حرمة النظر إلى جسد المؤمنة (الأجنبية !) بكله،حتى الكفين والوجه، هناك بعض الفقهاء يصر على ذلك.
هل يعني الإغماض الكامل عن الأجزاء التي لا يجوز النظر إليها من جسد المؤمنة (الأجنبية)؟ ذلك مثل الش الصدر المكشوف، حيث يحرم النظر إليه كليا، فإن بعضهم يجوز النظر إلى الكفين والوجه (بلا شهوة !)، ويصرف الحرمة إلى بقية الجسد، فهل المنع هنا ينصرف إلى هذه الأجزاء المحرَّمة، وذلك على نحو كامل، أي يحرم رؤية أي جزء من صدر المؤمنة (الأجنبية)؟
أم المنع ينصرف إلى تقليص النظر إلى ما حرم الله من جسد هذه المؤمنة المسكينة؟ أي يحوز أن ينظر إلى الصدر العاري ولكن على نحو جزئي، يخفِّض النظر، يحجِّم العين فتقع على بعض هذا الجزء المحرّم رؤيته.
أم لا هذا ولا ذاك...
بل شي أخر...
أن هذا المنع البصري هو مجاز، يعبر عن منع النظر ذي النزعة المستهترة لجسد المؤمنة (الأجنبية)، نظرة تشهي، نظرة استحواذ، نظرة تمعن غير بري سواء كان الجزء المنظور محرم الرؤية أو جائز، سواء كان النظر إلى الوجه أم إلى الصدر العاري، وبالتالي هو تعبير مجازي، وليس تعبيرا حقيقيا، ففي الاستعمالات السابقة كان على نحو الاستعمال الحقيقي وهنا استعمال مجازي.
الجواب على هذه الأسئلة يأتي في السطور التالية، ولكن يجب أن نقدم لذلك أكثر من مقدمة.

اعراب الحرف (مِن) من الآية
ما هو موقع حرف الجر من الآية الكريمة، أي ما هي وظيفتها في جسم الآية الشريفة؟
هناك ثلاث أربع آراء في ذلك، وهي: ــ
الأول: إنها زائدة، وتقديره غضوا أبصاركم، ويخالف ذلك أ كثر النحويين، ومنهم سيبويه.
الثاني: الأشهر أنها للتبعيض، كما نقل الرازي في تفسيره، وتقديره غضوا بعض أبصاركم، أي أكسروا أبصاركم، بصرف النظر عن المُبصَر.
الثالث: أنها للصلة، أي لا زائدة ولا للتبعيض وإنما للصلة، أي من صلة الغض، يقال غضضت من فلان إذا غضضت من قدره.
ويقول صاحب الميزان [ (... يغضوا من أبصارهم...) الغض إطباق الجفن على الجفن، والأبصار جمع بصر وهو العضو الناظر، ومن هنا يطهر أن (من) في (من أبصارهم) لابتداء الغاية لا مزيدة، ولا للجنس، ولا للتبعيض... والمعنى يأتوا بالغض من أبصارهم) ــ 15 / 110 ــ
وقيل هي للجنس، وهو ضعيف، كما يقول الكثير منهم.
إن دلالة الحرف على التبعيض هو الظاهر، فلا دليل على الزيادة، بل هناك من ينفي زيادة في القرآن الكريم، ولا دلالة على الصلة، بل سبب نزول الآية ربما يدل على التبعيض كما سنرى.
وفي النسفي [ ولم يدخل (مِن) هنا في قوله (ويحفظوا فروجهم) لأن الزنا لا رخصة فيه ] ــ 3 / 143 ــ وهو ينطبق على القول بستر الفرج أيضا، لأن أمره مضيق.

حيِّز التبعيض في الآية
ولكن هنا ملاحظة دقيقة، ربما تشكل نقطة أساسية في توجيه البحث، ذلك أ ن بعضهم يرى أن التبعيض في الآية الكريمة ليس متوجها إلى النظر، إلى البصر، كلي أم جزئي، مشبَّع أم عاد، تحديق أم تخفيض، بل التبعيض متوجه أصلا إلى موضع النظر...
فالآية تحرم النظر إلى بعض الجسد دون غيره، ولا علاقة لها بخصائص النظر الهندسية، والخلاصة النهائية لهذا التوجه، أن الآية تحرِّم النظر إلى ما يحرُم، وتبيحه فيما لا يحرم ــ بشرط عدم الشهوة ــ،وعليه هناك جسد متعدد الأعضاء، بعضها لا يجوز رؤيته وبعضها يجوز، فهنا ضاعت خصائص البصر، وأنصبَّ المطلب على خصائص المنظور، وفيما بعد يمكن أن ينشأ نقاش أخر، وعلى نحو تطبيقي نقول، إن صدر المؤمنة (الأجنبية) المكشوف يُمنع النظر أليه، ولكن على نحو الإغماض أو على نحو الكسر؟
فهناك تصوران للتبعيض هنا، أما متوجه إلى موضع النظر، وتصور أخر متوجه إلى النظر، وقد تمت الإشارة إلى ذلك في ا لسطور السابقة كما هو واضح، ومن الطبيعي أن يختلف الفهم للآية الكريمة من تصور لأخر، فحسب التصور الأكثر شيوعا، أي أن التبعيض منصب على النظر، يكون المعنى هو وجوب ترك النظر المشبَّع، النظر الواسع لجسد المؤمنة (الأجنبية)، الصدر العاري مثلا، ولا بأس بالنظر الجزئي، النظر المكسور، النظر المنخفض، وليس المعنى ترك النظر إلى ما يحرم النظر إليه، حيث يفيد المفهوم جواز النظر إلى أعضاء أخرى، وهو فهم قائم على تبعيض موضع النظر، أي الجسد، وليس على النظر.
وفي الحقيقة من الصعب تصور تبعيض موضع النظر في ما نحن فيه، كيف لي أن أترك النظر إلى الجزء المحرَّم من الجسد الأجنبي، وأقتصر على الجزء الجائز؟ هل هي عملية طبيعية؟ ليس على صعيد الهاجس الجنسي والتطلع لمزيد من أسرار الجسد، بل حتى من ناحية هندسية، كيف لي أن أنظر للوجه فقط دون بقية الأعضاء وهي مكشوفة لي؟
أن تبعيض محل النظر، موضع النظر، في الجسد الأجنبي على حد تعبير الفقهاء عملية مصطنعة، فانا أمام كتلة لحم تتحرك، تشعر،تشير، تومئ، تتغنج، تبكي، تضحك، تشتري، تبيع، وليس أمام لعبة يمكني أن أحصر بصري في جزء من مكوناتها.
ولكن هل انتهى كل شي؟
لا... فهناك كلام طويل.

مع المفسرين الكبار (رضي الله عنهم)
جاء في التفسير عن قتادة (عمّا لا يحل لهم).
وفي القرطبي (... ولم يذكر الله تعالى ما يُغَض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة وان المراد منه المحرم دون المحلّل.) ــ التفسير 6 / 512 ــ
وفي مجمع البيان (عمّا لا يحل لهم وعن الفواحش) ــ التفسير 7 / 216 ــ
وفي الميزان (والمعنى أن يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم) ــ التفسير 15/ 110 ــ
وفي كنز الدقائق (أي ما يكون نحو محرّم) ــ التفسير 9 / 277 ــ
قال الرازي ما ملخصه [ قال الأكثرون (مِن) ها هنا للتبعيض، والمراد بغض البصر عما يحرم والاقتصار على ما يحل).
قال في الكشاف (والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل) ــ التفسير 3 / 70 ــ
هذه الآراء تعتمد على تبعيض الجسد، بين ما يحل النظر إليه وبين ما يحرم النظر إليه، وقد وزعوا نظر المؤمن وشطروه إلى قسمين، وذلك تبعا لتشطير الجسد إلى ما يحرم النظر إليه وما يحل ــ بدون شهوة ــ وبالتالي،يجب على المؤمن أن يحصر نظره في شطر من الجسد، وأكبر الظن ما اتفق عليه بين الكثير من الفقهاء، ألا وهو الوجه والكفين. فالمأخوذ هنا تبعيض الجسد، وقد قلت أن تبعيض الجسد بهذا الصورة تبدو خرافة في هذا الزمن الذي دخلت فيه المرآة الحياة العامة بكل ثقلها. ومن هنا نشأت آراء أخرى...
يقول مطهري (... إن معنى غض البصر هو: خفض النظر واجتناب التركيز به، ومتابعته، أي لا يقع النظر بشكل استقلالي) ـ الحجاب ص 96 ــ
يقول شمس الدين (والمستفاد من جميع هذه الموارد هو التخفيف والخفض، في مقابل التحديق والرفع) ـ الستر والنظر ص 229 ــ
وفي الحقيقة كان بعض القدماء يفسر الغض بالكسر والخفض، فالطبرسي يقول في تفسير آية 13 من الحجرات التي جاء فيها (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى)، حيث يرى الغض هنا عبارة عن غض البصر (غض بصره إذا ضعَّفه عن حدة البصر).
إن تفسير الغض بخفض البصر، أو بكسر شوكته، أو بتخفيف حدته، أو بتقليل تصويبه، أو بتحجيم تسلطه، إنما المرتكز هو تبعيض البصر، لا بمعنى تقسيمه إلى نشاطين، نشاط يكف، ونشاط يعمل، حيث يكف عما يحرم، وله الحق أن ينشط في ما يحل، بل بمعنى تخفيفه، تخفيضه، سواء كان المجال الكف والوجهين أو المجال هو الذراع الأجنبي المكشوف.
هذا التفسير لا يأخذ في نظر الاعتبار اللغة، فأن الغض متصل بالإبصار وليس بالمُبصَر، كما هو واضح، بل يأخذ في نظر الاعتبار حيوية الجسد، فأن هذا الجسد ليس هيكلا جامدا، ليس أبعاد جامدة، بل هو وجود متحرك، نشط، متلهف، متشوق، متعطش، محتاج، متهيج، فرح، حزن، قائم، قاعد... وبالتالي من الصعب أن نتعامل معه على نحو التبعيض في الرؤية.

فحص الموقفين
هنا وصلنا إلى نتيجة مهمة، حيث هناك تفسيران أو موقفان من غض البصر، الأول يقوم على فكرة تبعيض محل النظر، فالآية في مورد تحريم النظر إلى أجزاء من الجسد (الأجنبي !) الذي يحرم النظر إليها شرعا، مثل الذراعين والفخذين والصدر وما إلى ذلك مما هو مسطر في الفقه، والمعالجة الثانية تقوم على تبعيض البصر، أي خفضه، لا علاقة للآية بتبعيض الجسد، بل الآية تقول عليكم أن تكسروا أبصاركم وهي متجهة إلى جسد المؤمنة (الأجنبية !)، فهذا الجسد هو أمامك الآن، فما عليك سوى أن تخفض النظر، لا تركز، اكسره...
وكلا المعالجتين تحتاج إلى مراجعة، فأن كلاً منهما يثير شيئا من الإرباك... ولكن يجب أن نأخذ في نظر الاعتبار مسالة مهمة هنا، تلك هي أن الآية في كلا المعالجتين يخصان جسد المؤمنة (الأجنبية)، أي غضوا أبصاركم عن المؤمنات وليس غيرهن !
أن المعالجة الأولى، أي تلك التي تُبتني على تبعيض الجسد، تفترض الجسد قطعة خاملة، يمكن توزيع النظر على أجزائه بالتحصيص، وهذا صعب كما قلنا، من الصعب أن يحصر المؤمن هنا نظره بالتحديد، فالجسد الذي أمامه ليس قطعة خشب، ليس بمثابة لعبة بلاستيكية.
أما المعالجة الثانية، فلكي تكون أكثر وضوحا، نقول، أن الفرض المُساق لتعليل خفض البصر بالنسبة للمؤمن تجاه المؤمنة (الأجنبية !)، هو منع التشهي بهذا الجسد، جسد المؤمنة (الأجنبية !)، وبالتالي، يكون معنى الآية القائم على فكرة كسر البصر مع ضم العلة المذكورة، هو يجب على المؤمن أن يخفض بصره تجاه المؤمنة (الأجنبية) حتى لا يقع في محذور اشتهائها !

هل هذا فكر قرآني؟
أشك في ذلك...
هذا التفسير بضم العلة قد يوجب على المؤمن أن يتسلح مسبقا بخفض البصر وهو يمشي في الأسواق، وهو يعمل في الدائرة، وهو يتنزه على الشاطئ، وهو يجلس في غرفة الدرس... ففي كل لحظة يمكن أن يقع جسد مؤمنة (أجنبية !) في دائرة بصره، فلكي يحرص على عدم الوقوع بهذا المحذور الغريب، عليه أن يمشي مطرق الرأس، خافض البصر !
هل هذا ممكن؟
أو أن هذا التفسير مع ضم العلة لا يوجب ذلك، بل مؤداه أن على المؤمن أن يسارع إلى خفض بصره فيما وقع جسد مؤمنة (أجنبية) في دائرة بصره، كي لا يقع بالمحذور المذكور، أي يأتي الخفض فيما بعد، وليس فيما قبل.
ترى أي نفس زكية يحملها هذا المؤمن بين جنبيه؟
تلتهب في داخله الشهوة مجرد أن يقع جسد مؤمنة في حلقة بصره؟ شي غريب، أعتقد أنه يعكس حالة شخصية لا أكثر ولا أقل، فُسحبت على تفسير الآية الكريمة... أو هو تفسير فرزته أوضاع اجتماعية قائمة على الحرمان والكبت والشكوك والاحتمالات البعيدة.
أن هذا التفسير يلغي التصرف الطبيعي للبشر، هم يتحركون جيئة وذهابا، في الأسواق والمدارس والدوائر والشوارع والمساجد، وهناك عملية إبصار طبيعية تمصي في سبيلها، وتقع في دائرة إ بصار المؤمن في هذا السياق الهائل الكثير من أجساد المؤمنات الملتزمات، من دون أي إثارة، ومن دون أي تفكير شيطاني يلهب الغرائز، تلك هي حياة الناس العامة، فيما التفسير المذكور يوجب إلغاء هذه السلوك الطبيعي، يلغي النظر الموضوعي العفوي العادي، ويستبدله بالخفض المستمر !
أي محنة هذه يا رب !
ولنا ملاحظات أخرى على ذلك سوف تأتي في محلها المناسب إن شاء الله تعالى.

الرأي الثالث
من الصعب القول أن الآية ليست في معرض معالجة قضية الوقوع بالحذر المذكور، ألا وهو التوجه الغريزي الجنسي المحموم تجاه جسد محرم عليك التعامل معه بهذه اللغة، ولكن من الصعب القول أيضا أن هذه المعالجة تأخذ في نظر الاعتبار الحياة العامة، أي كأن الحكم (بغض البصر) سلوك دائم، ما دمت أنت في شارع أو في دائرة، حيث هناك مؤمنة (أجنبية) أو أكثر يحرم عليك التعامل معها بهذا الشعور المرفوض حتى أخلاقيا، وبالتالي، ينبغي عليك أن تغض البصر قبل أن تلتقي عيناك بها، أو بعد أن تلتقي عيناك بها، الأول للوقاية، والثاني للمعالجة الفورية من هذا المحذور...
من الصعب جدا هذا.
وبالاستناد على هذه المفارقة، يرى بعضهم، أن الآية تتعرض لغض البصر في حالات خاصة جدا، تتوفر فيها دواعي مثل هذا المحذور، وهي دواعي لا حصر لها، فالآية الكريمة جاءت لمعالجة حالة طارئة، توفرت على أسباب الإثارة القوية، وهي أسباب مختلفة من إنسان لأخر بطبيعة الحال، ليس بالضرورة ذراع مكشوفة، بل هذا غير معقول أبدا، لأن المؤمنة مستورة الذراع شرعا، ولكن ربما هناك عوامل خارجية، ربما كلام، ربما حركة جسدية مثيرة، ربما صوت محفز، ربما صورة جانبية تخلق أجواء تشجع أو تحفز الغريزة حتى تجاه شوهاء، ربما تذكُّر بيت شعري ماجن... وهكذا..
فالآية على هذا التوجه، تعالج حالة شاذة، نادرة، فليس من شأن الغريزة أنها تتحرك على كل حال، من تلاقي عيني مؤمن ومؤمنة في شارع عام، في غرفة درس، في دائرة، في سياق حوار عن قضية سياسية...
يلتقي مؤمن بمؤمنة ولكن في جو ساخن، جو مثير، فربما تتحرك في داخله نوازع غير نظيفة، فعندها ينبغي أن يغض البصر، لعل هذا يقيه شر ذلك التفكير غير السوي.
أن النظر العادي، النظر الطبيعي هو الأصل، يمضي في سبيله، هنا وهناك حشد من المؤمنين والمؤمنات في الدائرة، في الطريق العام، في المستشفى، وقد تلتقي العيون، وربما هناك ابتسامات متبادلة، وربما نكت بريئة متبادلة، سلام متبادل، هذا هو الوضع الطبيعي، من دون حاجة إلى غض بصر.
من الجريمة بمكان تصوير المؤمن بهذه الحالة من الشبق المحموم، بهذه الصورة في سرعة الانتقال من المقابلة العفوية واللقاء ا لطبيعي إلى تلك الحالة من السخونة الشيطانية المدمرة.
إن هذا التفسير يرى أن كل لقاء، كل تقابل بين مؤمن ومؤمنة يجلب البلاء، حتى لو كان في دائرة عمل مشتركة ومن هنا يفرض على المؤمن أن يغض البصر وهو في الدائرة حيث إلى جانبه مؤمنة تشتغل معه !

الرأي الرابع
أن الآية الكريمة تتعامل مع قضية هي في الواقع أكبر من النظر الحسي، وأنها لا تتعامل مع ذراع مكشوف مثلا، بل تتعامل مع الجسد كبنية متكاملة، والآية تريد أن ترسم لنا طريقة التعامل العفوي مع الجسد الآخر، أي جسد المؤمنة المحرّم عليك، تنظر إليه بعفوية، تتعامل معه بطريقة طبيعية، فهذا الاتجاه يرى أن (غض البصر)، تعبير مجازي عن إمضاء هذا النوع الطبيعي من التعامل تجاه هذا الجسد، سواء كان ذلك كلا أو بعضا، وبذلك، تكون الآية ليست بهدف تشريع خفض البصر بالمعنى الحرفي عن الأجزاء المحرمة من هذا الجسد، أو بهدف تشريع خفض البصر بالمعنى الحرفي، بل هي تقول بغض البصر المعنوي، التوجه الطبيعي، بناء علاقة طبيعية بين الناظر والمنظور، تقوم على العفوية، و على الاحترام والتقدير، أي بناء حياة علائقية عادية. وربما يترجم بعضهم ذلك بالقول، أن غض البصر الحسي هنا تعبير مجازي عن غض البصر المعنوي.

الراي الخامس
إن مجال غض البصر هو (الفروج) وليس شيئا آخر، ففي كتاب من لا يحضره الفقيه أن أمير المؤمنين عليا وهو يوصي أبنه محمد ابن الحنفية قال له (وفرض ـ الله تعالى ــ على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله عز وجل عليه ــ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ــ فحرَّم أن ينظر أحد إلى فرج غيره / كنز الدقائق 9 ص 277)، وفي مجمع البيان (... فلا يحل للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه، ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها / 7 ص 217). ويكون قوله تعالى (... ويحفظوا فروجهم) إنما يشير إلى الستر، أي يغطوا فروجهم.
جاء في الكافي [ علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح... (قال الله: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم...) فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم، وأن ينظر المؤمن إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن يُنظَر إليه...)، والرواية ضعيفة ببكر بن صالح الذي يُظن باتحاده ببكر بن صالح الرازي.
وسوف يأتي توجيه سادس.

نظرة في بعض الروايات
وردت مجموعة روايات تتحدث عن النظر الوارد الآية الكريمة، كثير من هذه الروايات ضعيفة السند، أو مجهولة المصدر، وقد استدل بعضهم بها على منع النظر مطلقا ! مما يعني الإغماض الكلي، أو ترك النظر بأي طريقة ممكنة، فلا يجوز النظر إلى (الأجنبية) إطلاقا، أي كل الجسم يجب أن يكون بعيدا عن دائرة الإبصار.
منها كما جمعها الشيخ شمس الدين رحمه الله (خير النساء ألا يرين الرجال، ولا يراهن الرجال)، والرواية مرسلة في كشف الغمة ومكارم الأخلاق، ومنها (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم)، وقد وردت في أكثر من مصدر حديثي، كلها عن عقبة بن خالد بن أبيه، والحديث حديث أحاد هنا، ومنها (ما من أحد إلا وهو يصيب خطأ من الزنا، فزنا العين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس...) والرواية ضعيفة الإسناد، ولا أتصور أن ذلك من ذوق الصادق عليه السلام.
لا نحتاج إلى قراءة عميقة كي نكتشف أن النظر هنا الذي تتحدث عنه الروايات ليس النظر الطبيعي، النظر الذي نمارسه في حياتنا العامة، حيث يلتقي المؤمن بالمؤمنة في غرفة الدرس، أو في الدائرة، ويتبادل الاثنان الكلام والحوار مثلا، بشكل عفوي طبيعي، أنه حديث عن النظرة الخاصة التي تضمر شهوة، النظرة التي تتضمن نزعة جنسية جائعة، هناك في داخل النظرة مقصد غير شريف، ومن هنا كونها سهماً من سهام إبليس مسموم، وإلا كيف كانت تمضي حياة المسلمين في أسواق المدينة زمن رسول ا لله صلى الله عليه وآله وسلم، أن تفسير النظر العادي بمثل هذا المنحى ينم عن عقد مخيفة، أو ينم عن ثقافة اجتماعية منغلقة، متوجسة، قائمة على قمع المرأة، وحبسها في بيتها.
ومن الروايات هنا (أول نظرة لك، والثانية عليك، والثالثة فيها الهلاك)، ومن الواضح أن المقصود النظرة غير البريئة، ومن الواضح لغة المبالغة فيها (فيها الهلاك !) !
ما معنى الهلاك هنا، ولماذا في النظرة الثالثة، ربما في الرابعة؟
ومن الروايات (لا تتبع النظرة النظرة، فليس لك يا علي إلاّ أول نظرة).
ليس صعبا أن نفهم أن المقصود من الحديث المنع عن النظرة المريبة، ومتابعة هذه النظرة المريبة.
ومن الروايات (لكم أول نظرة إلى المرأة، فلا تتبعوها نظرة أخرى، واحذروا من الفتنة).
ليس صعبا توجيه الحديث بما توجه به سابقه.
روايات بعيدة عن جوهر الموضوع، وهو النظر العادي، النظر الذي نتعامل به في حياتنا العادية، في الشارع، والسوق، والمدرسة، وا لدائرة، والمستشفى، والشركة، وسيارة الأجرة، والمطعم، و المقهى...
وفي الحقيقة من الصعوبة بمكان أن نبني فقها فيه مصائر الناس، أن لم يستند إلى أدلة قوية واضحة، ولا أعتقد أن رواية واحدة ولا روايتين يمكن أن تفيا بتحقيق الاطمئنان في مثل هذه المواضيع الحساسة.

تنويعات النظر !
في مطاوي بحثهم يتعرض العلماء والفقهاء إلى تسمية النظرة لكي يميزوا بين الحلال والحرام منها.
النظر الشهوي: أي أن ينظر المؤمن إلى جسد المؤمنة (الأجنبية) بتلذذ، وهو حرام، سواء في خلوة أو في فضاء. لا يجوز النظر بشهوة إلى جسد المؤمنة (الأجنبية)، وهو خلق رفيع، قبل أن يكون شرعا، تحتمه الطبائع السليمة والضمائر الحية.
النظر لغرض الزواج: يقولون يجوز النظر لغرض الاختيار للزواج، إلاّ أن بعضهم يشترط في ذلك عدم التلذذ (أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها، فينظر إلى شعرها ومحاسنها؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذا... / كنز الدقائق 9 / 280) و هنا تناقض كبير، فأن المنع من النظر إلى الأجزاء المحرمة من جسد المؤمنة إنما جاء أصلا لمنع الوقوع في هذا التلذذ، وما يجره من متاعب أخرى، فكيف يتحرر النظر هنا من فتتنه، هذا طلب مستحيل حسب التوجيه الذي نقرأه عن النظر إلى الأجزاء المحرمة، خاصة إن النظر هنا تفحصي، تأملي، لأنه ينتج عنه اختيار الزوجة، ومن هنا، ولحل هذا التناقض لا يشترط بعضهم عدم التلذذ في هذا النظر ! وفي الحقيقة هذا التردد ربما يعكس خلفيات ثقافية ونفسيه أكثر مما هو بيان مستل من أدلة شرعية.
النظر السياقي: ولكن لم نقرأ لهم عن النظر في سياق عام، أي من خلال الحياة العرفية، حيث هناك حشد من المؤمنين والمؤمنات وغيرهم في الدوائر، وغرف الدرس، والمستشفيات، وسيارات النقل وغيرها من المجالات الكثيرة، وليس من شك هناك تلتقي العيون بالعيون، شئنا أم أبينا، وربما غاب الحديث عن هذه النظرة لأن المرأة كانت حبيسة البيت، وكان نادرا ما يكون هناك جمع مختلط.
النظر الجمالي: كذلك هناك نظرة من نوع أخر، تلك هي النظرة الجمالية، أي نظرة استملاح للوحه الجميل، ليس بشهوة أو نزوة، ولكن استملاح الوجه لجماله، وهو نظر طبيعي وطالما يحدث في كتاب
الكافي، محمد بن يحي، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن سويد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام، إني مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة، يعجبني النظر إليها، فقال لي: يا علي ! لا بأس إذا عرف الله من نيتك الصِّدق، وإياك والزنا، فإنه يمحق البركة ويهلك الدين).
النظر لحاجة: ويمثلون له بنظر الطبيب إلى المريضة الأجنبية، وما هو على هذا المقاس، ولكنهم يشترطون عدم التلذذ ! وفي الحقيقة يمكن أن نلتقط هنا شيئا من التناقض، ذلك أن هذه المنظومة المتشددة في معنى غض البصر، ترى في النظر سهم من سهام الشيطان المسمومة، ويحذرون من النظر، ويعدونه باب الشيطان، والجالب الأول للشهوة واللذة الحرام، ولا أعتقد أنهم يفرقون بين نظر الطبيب إلى الذراع المكشوفة أو الإنسان العادي، فإن كلا منهما نظر، وبالتالي، إن اشتراط عدم التلذذ هنا شي غريب، لأن النظر في تصورهم وفكرهم وأدبياتهم وخطابهم منبت الشهوة، بداية اللذة الحرام !
أن الأدبيات الدينية التي ترى أن النظر مدعى للإثارة، وسبب لانبثاق اللذة وتحركها، هذه الأدبيات من الصعب عليها تجويز النظر لحاجة بشرط عدم الشهوة والتلذذ، لأنها هي ترى في أي نظر بداية شيطانية، ومدخل شيطاني للذة المحرمة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟
نعم، يمكن حل هذا التناقض إذا قالوا هناك نظر وهناك نظرة، و النظرة انعكاس لتوجه قلبي مضطرم بالشهوة واللذة، فيما النظر هو هذا النظر العادي، أي أن ترى، أن تبصر، أن تقع المؤمنة (الأجنبية) في دائرة عينك، وهو ممارسة عضوية عفوية، تمضي في سياق سلوك طبيعي.
وهي حقيقة ملفتة للقاري، فهؤلاء لم يفرقوا بين النظر كممارسة عضوية طبيعية وبين النظرة كتأمل في الجسد، وتفحص، ومقاربة، وبيان، ونفوذ إلى الداخل، ويتكلمون عن النظر كممارسة عضوية بايولوجية عادية ويضفون عليه كل هذه المواصفات التي من شأنها إخراجه من مهمته الأولى، مواصفات شيطانية، مخيفة، فالنظر هو الباب المؤدي إلى الهلاك، وهو بداية الوقوع في فخ الشيطان، ولكن للحقيقة، هناك روايات تقرن ذلك بالنظرة وليس بالنظر، وهي ملاحظة دقيقة يجب مراعاتها.

سبب النزول
تقول الرواية (استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جاوزت نظر إليها ودخل في زقاق، وقد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، وأعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه، فلما مضت المرأة، نظر، فإذا الدماء تسيل على ثوبه، وصدره، فقال: والله لآتين رسول الله، صلى الله عليه وأله وسلم، ولأخبرنه، قال: فأتاه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم...).
هذه الرواية هي الوحيدة التي تنقل في هذا المجال، ويلاحظ عليها أولا، أنها رواية أحاد، فهل يمكن الإطمئنان إلى رواية واحدة حتى لو كانت صحيحة في تفسير آيات الله الكريمة؟
في تصوري أن ذلك مجازفة، خاصة في المجالات التي تهم مصائر البشر على نحو حساس، ولكن الرواية في سندها (سعد بن طريف الحنظلي الكوفي)، وقد ورد حديث في مدحه على لسان الإمام الصادق، ولكن آفة الرواية أنها مروية على لسانه بالذات، فلا تكون دليلا على كونه ثقة، ثم أن النجاشي قال عنه (... كوفي، كان يُعرف منه ويُنكر... وكان قاصا)، وفي ذلك يقول الشيخ محمد باقر البهبودي [ بعدما كان الرجل قاصا (لا يكاد يكون حديثه صحيحا فإنَّ القاص إنما يعطف وجوه الناس إلى الناس إلى نفسه، ويستدر ما عندهم بالمناكير والغرائب، وما دام يأتي بالعجائب الخارجة عن حد العقول...)، وقد ذكره أ حمد بن الحسين الغضائري في الضعفاء، ولا ننسى أنه كان ناوسيا، أي أوقف على وقف على أبي عبد الله عليه السلام. فحياة الرجل مضطربة، معقدة كما يبدو، غير واضحة المعالم والسيرة.
إن الاعتماد على رواية أحاد في تفسير القرآن يعني تعليق الحقيقة القرآنية على مقترب خطر، لأن موضوعاته خطرة، خاصة فيما يتعلق في أمور تخص المجتمع بالصميم.
على أن سبب النزول قد يفيد أن الآية نزلت لمعالجة حالة خاصة، تلك هي لقاء رجل بامرأة في حال خلوة، في حال قد يثير محفزات الغريزة، ليس لنظرة، بل لواقع مشتبك الأسباب، ترى هل سوف يتابع هذا الشاب هذه المرآة لو التقى بها في طريق عام؟ هل سوف تثير انتباهه الغريزي غير النظيف لو التقى بها وهي في سبيلها إلى المسجد مثلا في حشد من الناس؟ هل سوف تثير انتباهه لو أن الاختلاط بين الجنسيين عادي؟ هل سوف تثير انتباهه لو كانت غير جميلة؟

مفارقة كبيرة، ورأي سادس

في صدد الرأي الذي يقول أن الآية تعني غضوا بصركم عما يحرم النظر إليه، أي غضوا بصركم ــ كلاً أو جزئا ــ عن ذراع جسد المؤمنة (الأجنبية)... هذا الرأي يثير مشكلة كبيرة، ذلك أن تحريم النظر هنا إنما يصح فيما إذا كان الذراع المذكور مكشوفا.
أليس كذلك؟
ترى أي معنى لأمر لم يتحقق موضوعه؟
أن ذراع المؤمنة مستور حسب الفرض، لا يوجد ذراع مؤمنة مكشوف للعيان الأجنبية، فإلى من يتوجه هذا الأمر الغريب؟
نعم، هناك احتمالات أخرى...
منها: أن المؤمنة لا تعرف الحكم الشرعي، فكانت مكشوفة الذراع للغير ممن يحرم عليه النظر إليها، ويحرم عليها التبدي أمامه !
ومنها: أن النظر وقع صدفة على هذا الذراع المكشوف، أي هناك سهو، من الناظر والمنظور.
ومنها: أن الأصل في الآية متوجه إلى المؤمنة، أن تستر ذراعها عن الرجل (الأجنبي !).
وهذه كلها احتمالات باردة.
بل حتى الرأي الذي يقول أن الأمر متوجه إلى خفض البصر، بصرف النظر أن يكون المنظور الجسد كله أو بعضه، إذا عن أي شي يأتي هذا لكسر، مادامت المؤمنة محجبة، مستورة، وهذا الستر متحقق فرضا وفعلا؟
نحتفظ بهذه الملاحظة إلى حين الاستفادة منها.
هنا يجيب بعضهم أن الستر وقاء أول، أو هو جزء من نظام وقائي، وغض البصر جزء آخر من هذا ا لنظام الوقائي.
هذا جمع خطابي في الواقع، ففي البداية هو مجرد رأي، ولا دليل عليه من لغة ولا من عقل، ولذا لا يزيد على بعض الآراء الأخرى التي تساق بهذه الطريقة، ثم أن البصر مكفوف في حال ستر المرآة المؤمنة، فأي معنى لهذه الوقاية الثانية؟ هل حقا أن الآية الكريمة تطالبنا عدم النظر العادي البسيط إلى ذراع المؤمنة المستور كي لا تثار شهوتنا؟
أي منطق هذا يا رب؟

وما هو أقرب للمعقولية
يبدو أن الاحتمال الأقوى هو أن هذه الآية لم تأت للحديث عن النظر في مجال الحياة العامة، أي في حياتنا الطبيعية التي نمارسها معا، في الأسواق والمدارس والدوائر والمجالس والمحاكم والمنتزهات والمساجد والمقاهي والقطارات والمحطات والشوارع... بل تتحدث عن حالة خاصة يتم فيها لقاء العيون بعضها ببعض في سياق من المثيرات الأخرى، حيث يخلق كل ذلك نوعا من التوجه الغريزي المشبوب بشهوة جسدية مجسدة تجاه جسد مُحدَّد، بصرف النظر أن هذا الجسد مستور أم غير مستور، بل القضية تتعلق بحسدٍ ما صار محلا للتلذذ المباشر، لسبب من الأسباب، وأن (غض البصر) هنا ليس صرفه بالمرة، وإنما بخفضه، يعني كسره، أو يعني مواجهته بإرادة صلبة، تحول دون استفحاله، ومن ثم تكبحه عن الاستمرار، مع ألأخذ بالاعتبار هنا، أن الجسد هنا يتمثل في جسد مؤمنة (أجنبية !)، متسترة أصلا، وفي ذلك يتهاوى القول الذي يصرف (غض البصر) هنا بكفِّه كلاً أو جزئا عما يحرم النظر إليه، لأنها مستورة أصلا... ولا يُستبعد مع هذا التصور أن يكون من مفردات (غض البصر) هنا الهروب من مواقف الفتنة.
أن (غض البصر) يأتي بعد حصول تلك الحالة، والغرض منه الهروب من الاستمرار عليها، أو النجاة من التمادي معها، وليس هو طلب سابق على نحو الوقاية المُسبقة.
أن إثارة تلك النزوة يمكن أن تحدث من جسد قبيح متستر بكل معنى الكلمة، لأن هناك ما يثير هذه النزوة لسبب من الأسباب، التي قد تكون خارج حريم الجسد أصلا، كما أن هذه النزوة قد لا تثار بسبب جسد جميل ولم يكن متستراً بما فيه الكفاية، حيث لم تكن هناك دواع إثارة من خارج هذا الجسد المكشوف، وهذا ما نراه في الغرب بشكل عام، حيث هناك أجساد عارية بشكل عادي، أجساد جميلة، مصقولة، ولكن لم تثر المقابل، حتى لو كان على قرب قريب منها، ولكن ربما جسد أنثوي مستور يثير الغير، ذلك أن ظروف خاصة ساعدت على ذلك، لا تمت إلى لبس الجسد، ولا إلى قوامه، بل ربما جو حالم، ربما موسيقى مثيرة في الأثناء. ومن هنا إن غض البصر هو خفضه في حالات خاصة، أو هو مقاومة ذاتية في حالات خاصة، والثاني أقرب للذوق، وهو مسار المؤمن التقي حقا، وإلا خفض البصر عملية ميكانيكية ميتة، فيما المقاومة من الداخل عملية إرادية سامية رائعة.
ولكن ماذا عن جسد المرآة غير المؤمنة؟
كثير منهم يجيز النظر إليه بشرط عدم الشهوة، ويبررونه بثلاث روايات، كلها ضعيفة، سوف نستعرضها في مكان أآخر أن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.

غالب حسن الشابندر