العام الواحد في مسيرة البشرية والتاريخ بمثابة اللحظة والعقدان من السنين هما بالطبع أطول قليلا. ولكن من الأعوام ما يبدو طويلا في حياة شعب ما لو كان عام أهوال جسام وأحزان. العقدان من الطغيان النازي والفاشي مضيا كذكرى أليمة، ولكن كم كانا طويلين للشعوب التي عانت من أهواله وفظائعه ومذابحه، وحيث راح أكثر من خمسين مليون من البشر ضحايا له!
بالطبع لم يصح غير الصحيح واندحرت النازية والفاشية الإيطالية واليابانية، وأصبحت تلك الأهوال والحروب مجرد صفحات في التاريخ تدرسها أجيال لم تكن قد ولدت عهد ذاك.
إن من الأعوام ما يقال عنه quot;عام ولا كالأعوامquot;، لكثرة آلامه ومآسيه وقلة أفراحه. وهذا وصف ينطبق في رأينا على عام 2005، الذي شهد كوارث تسونامي التي أبادت أكثر من 230 ألف شخص كان آمنا عندما حلت عليه لعنة الطبيعة. تلت كارثة كاترينا وخسائرها البشرية والمادية. أما الاتحاد الأوروبي فكان عام فشل الدستور الأوروبي، ثم تفجيرات لندن، وبعدها أحداث الشغب الغوغائية في فرنسا. كما شهد الاتحاد عجزه عن وقف البرنامج العسكري النووي الإيراني وعن ثني كل من روسيا والصين عن مواصلة دعم ومساعدة ذلك البرنامج جراء المصالح والحسابات الاقتصادية والسياسية للاتحاد.

في منطقتنا كان هناك اغتيال الحريري الذي أدى، لحسن الحظ، لنتائج بالعكس من حسابات النظام السوري؛ ثم جاءته قنبلة خدام مع نهاية العام لتزعزع ذلك النظام، وفي هذا ما هو لصالح شعوب المنطقة. ومع نهاية العام انهارت الهدنة الفلسطينية الإسرائيلية بفعل عمليات الإسلاميين المربوطين بالنظامين الإيراني والسوري، بينما استأنفت إيران برنامجها النووي رغم كل التنازلات الأوروبية، وواصلت تدخلها في شؤون العراق، ما لا يحتاج لبرهان وإن أقسم حلفاء إيران العراقيون ألف مرة مكذبين!
أجل إن عاما واحدا قصير في حياة شعب ما ولكنه حين يكون حافلا بالأحداث السلبية فهو طويل.
هكذا، في رأيي، كان عام 2005 بالنسبة للعراق. لقد بدا العام في شهره الأول بمهرجان الانتخابات الحرة الاولى في تاريخنا المعاصر برغم التدخل السافر للدين ورموزه. كانت أهميته الكبيرة لكونها كانت التدريب الأول للمواطنات والمواطنين، ولأنها وجهت ضربة قوية لتهديدات قوى الإرهاب الصدامي والزرقاوي، ولأنها كان المفترض أن تكون خطوة كبيرة في الطريق الطويل والمتدرج والمتعرج نحو البناء الديمقراطي. كان المفترض والمطلوب أن تكون منطلقا لقيام تحالفات مدنية ديمقراطية، وأن تحد من تفاقم الطاعون الطائفي ومن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وأن ينجم عنها دستور ديمقراطي مدني يطور مبادئ الدستور المؤقت. فماذا وقع؟ بعد أزمة أسابيع تلت الانتخابات تشكلت حكومة فشلت في جميع المناحي، أمنيا وفي الخدمات وفي الممارسة، وهيمنت المعايير الحزبية والعرقية والمذهبية على أداء الوزارات وتشكيلة موظفيها، حتى في تعيين الفراشين، كما ورد في مقال الدكتور رياض الأمير، وصار وجود الموظفة السافرة مستحيلا في الوزارات التي تسيطر عليها الأحزاب الإسلامية الحاكمة. وقد اعترف سكرتير مجلس الوزراء في معرض الرد على الاتهام بملاحقة مؤيدي القائمة العراقية، بأنه لم يحدث غير الاستغناء عن موظفة واحدة فقط لأنها كانت تلبس ملابس quot;غير محتشمةquot;، ويقصد السفور.
لست أجد في وصف الحالة أدق من رسالة الدكتور حميد الخاقاني الموجهة لسماحة المرجع الشيعي الأعلى، والتي نشرت في أكثر من مكان وأكثر من مرة. إنني أرجو من الكاتب أن يسمح لي بالرجوع للرسالة وأن أقتطف منها.
يقول الدكتور في معرض أداء أحزاب الائتلاف التي دعمت المرجعية قائمتها الانتخابية:
quot; نراها أصبحت في سياساتها وممارساتها وخطابها السياسي والديني جزء من المعضلة التي تطبق مخالبها وأنيابها على العراق وناسه. كما أن الوعود الكبيرة التي أطلقها أصحاب القائمة التي حظيت برضاك ولم يألوا جهدا في كيل النقد، حقا وباطلا، للحكومة التي سبقت حكومتهم بشأنها، تبدو الآن أبعد منالا مما كانquot; ـ أي المزيد من انهيار الأمن والخدمات، وتواصل الموت اليومي والقتل والقتل المضاد، واستمرار البطالة. أما الفساد الموروث، فما زال quot; ينخر في جسد الدولة والمجتمع، وسرقة المال العام بأشكال مختلفة تتخذ الآن صيغا علنية وحتى قانونية، وبعضها لا يجري بعيدا عن ضريح الإمام علي [ ع ].quot; ويرى الكاتب أنهم قد فرضوا الوصاية على الدين والمذهب، وعلى الناس، اتبعوا quot;ثقافة السطوة السياسية الأحاديةquot;.
إن هذه الحالة المأساوية من الأداء لا تخفف أبدا مسؤولية النظام الفاشي المهزوم
وما ترك من خراب شامل وجروح عميقة، كما لا تقلل من الخطر الرئيسي الذي لا يزال يواجه العراق، وهو خطر الإرهاب بشقيه الصدامي والزرقاوي، وهما طرفان حليفان.
نعم، الظروف كانت صعبة ومعقدة، والتركة ثقيلة جدا، ولكن هل ساروا بنهج يساعد على تقليص الأضرار وعلى التصحيح التدريجي للأوضاع؟؟ أم على العكس قد ساروا بنهج المزيد من تأجيج المشاعر الطائفية، مَثَلهم في ذلك مثل هيئة علماء الدين والإسلام السياسي السني، كما واصلوا السماح بالتدخل الإيراني، واستمروا في إطلاق المليشيات لنشر الإرهاب الديني والحزبي، ووسعوا من الاعتداء على حريات الفرد وحقوق المرأة؟؟ لقد ساروا بعقلية الهيمنة والاستحواذ، وفرضوا دستورا هجينا متناقض البنود، ويخضع حقوق الإنسان لأحكام الشريعة، ويعيد القرار 137 المشؤوم الذي سبق هزمه عام 200.4.
انتهى العام بالانتخابات الجديدة التي شهدت عمليات إرهابية ضد المنافسين من قتل ومحاولات اغتيال وحرق مقرات، ومن الهيمنة على حوالي نصف موظفي المفوضية الانتخابية، ومن محاولة البعض استيراد البطاقات المزورة بالشحنات الإيرانية.
لو قصدنا أن النتائج تعكس حالة المجتمع وعقده وسلبياته، فهذا صحيح؛ أما لو اعتبرناها انتخابات تتقدم بالعراق نحو الأفق الديمقراطي، فنقول لا. ولو كانت كل انتخابات حرة تعكس العيوب والأمراض الاجتماعية والسياسية عملية نحو الديمقراطية، لكان الأولى اعتبار الانتخابات التي جاءت بهتلر للسلطة خطوة نحو الديمقراطية. أما تزكية الإدارة الأمريكية للانتخابات العراقية التي غاب فيها مبدأ المواطنة، فلا تدل على مؤداها الديمقراطي من حيث السير أماما، لاسيما والدستور تراجع عن عدد من أهم مبادئ قانون الإدارة.
فوق كل هذا وذاك، يراد تقسيم العراق إلى إمارات وولايات باسم الفيدرالية وكأننا عدنا لعهود الولايات العراقية زمن العثمانيين. إن الدستور يعطي حتى للمحافظات صلاحيات تنتهك دور الحكومة المركزية، ويسمح للفيدراليات بتأسيس مكاتبها الدبلوماسية الخاصة بجوار مؤسسات الحكومة الاتحادية. هذا ما كررناه وكرره غيرنا عشرات المرات وسنكرره برغم ترسانة الاتهامات الجاهزة المقرونة بشتائم البعض من العاجزين عن مناقشة الحجج والوقائع.
إن كل انتخابات تجري على الهويات المذهبية والعرقية لا يمكن أن تكون خطوة للأمام في المسيرة الطويلة المعقدة نحو هدف النظام الديمقراطي ونحو قيام الفيدرالية المدنية وليس الفيدراليات المذهبية والعرقية الخالصة.قد يرى الكثيرون نظرتي قاتمة جدا وغير واقعية وإنني طبعا أحترم كل الآراء المخالفة.
ربمايسأل البعض: إذن فما الحلول؟ هل نكتفي بالشكوى والنقد؟؟ هل نريد قفز المراحل؟؟ هل نريد تحدي مشاعر المواطنين ونتجاهل هذا الاستقطاب الطائفي الحادث فعلا؟؟
أسئلة مشروعة، وقد حاولت في مقالات سابقة أن أعبر عن وجهة نطري في بعضها، والمجال مفتوح للتعبير عن الآراء برغم أن جميع ما كتبه كتابنا الوطنيون العراقيون من الطامحين لقيام الحكم المدني لم يجد أي تفهم أية استجابة صغيرة
من جانب القيادات الحاكمة، الغارقة في حساباتها ومساوماتها وصفقاتها لتقاسم النفوذ والمناصب. على كل لا يهم. فلكل مواطنة ومواطن حق إبداء الرأي بل وواجب التعبير عنه.
هكذا أرى العام العراقي المنصرم، وقد افتتحنا العام الجديد بمفخفخات الإرهابيين القتلة الملخة أيديهم بالدم العراقي؛ وخلال يومين فقط . راحت عشرات الضحايا.
نعم لا يصح في نهاية المطاف غير الصحيح، ولكن هذا لا يتم تلقائيا وبجهد فردي، أو في وقت قصير. المشكلة هي أن الجدول الزمني الصارم أراد بناء الديمقراطية في العراق وبعد كل الخراب الصدامي الشامل في أقل من ثلاث سنوات، والمشكلة أيضا أن معظم القيادات السياسية والدينية والثقافية لم تنهج السبيل المؤدي حقا نحو تحقيق الهدف، وإذ انحسر الشعور بالمواطنة المشتركة، وكاد يتوارى الولاء الوطني ومعاييره في السياسة والسلطة وفي الانتخابات . وقد شهدنا مع نهاية العام جدلا من فضائية عراقية بين مثقفين في لندن أحدهما من الائتلاف والثاني يمثل الحزب الإسلامي العراقي. كان من أبرز نقاط الجدل الحار هو كم عدد الجوامع والحسينيات وما نصيب كل طائفة من المساجد!!!
أخيرا، فلنأمل خيرا على كل حال! فقد quot;يأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ.quot;!! آمين.