يعد تخلف العرب فى الوقت الحاضر من الحقائق القليلة التي أجمع عليها العرب المعاصرون. وأقدم إليكم فى هذا المقام مجموعة مقالات لا أتطرق فيها إلى تشخيص أسباب التخلف، كما أننى أرفع عن كاهلى عبء البحث عن سبل التقدم.

وقد يوحى العنوان بأن المقالات سوف تعكف على رصد مظاهر التخلف فى ثقافتنا المعاصرة. والأمر بالفعل قريب من ذلك. ولكننى أود التنويه فقط إلى أن هناك معنىً شائعاً لما يسمى مظاهر التخلف، وهو المعنى الذى عكف على ابرازه باحثو علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من خلال كشفهم لمجموعة من المعتقدات التى ما تزال فاعلة فى توجيه السلوك مثل الاعتقاد فى الحسد والسحر وتسخير الجان والركون إلى التواكل تحت ستار الإيمان بالقضاء والقدر. وغيرها من المعتقدات السحرية التى كان برتراند رسل يطلق عليها quot;نفايات فكريةquot; intellectual Rubish وكان يقصد بها مجموعة من الإيماءات والتعبيرات المحفوظة التى يؤديها أو ينطق بها الإنجليز المعاصرون دون أن يكونوا على معرفة بالاعتقاد السحرى القديم الذى تنبع منه. هذه المعتقدات فى ثقافتنا العربية ليست مجرد نفايات فكرية أو حتى رواسب من الماضى بل هى الخبز اليومى للثقافة العربية فى زمنها الحاضر وربما أيضا فى مستقبلها القريب.

كل هذه المظاهر درسها علماء الاجتماع فى بلادنا العربية، واهتموا بقياس آثارها فى الريف وفى المدينة، وحددوا من خلال البحث الاحصائى درجة شيوعها بين قطاعات معينة من السكان مثل الفلاحين أو التجار أو اساتذة الجامعات.وبالاضافة إلى علم الاجتماع يُعد الأدب العربى الحديث مصدراً هاماً يلقى أضواء تكشف عما يعتمل فى أعماق النفس من جراء تجاور القديم والحديث أو من جراء تصادمهما الذى لا مفر منه.

كان يجدر بى أن أشير هذه الإشارة لأبين أن هذا المعنى الشائع يحظى بمن يهتمون به ويقدمون فيه دراسات هامة ومعروفة. ولكن المعنى الذى أقصده ربما تحدده كلمة قاموس الموجودة فى العنوان. والقاموس كما هو معروف شرح لكلمات متداولة ربما لأنها صعبة أو لأنها متعددة الدلالات ولن أتحدث هنا عن الكلمات الجارية التى اقترنت بالتخلف مثل : الأخلاق والشرف والطاعة والولاء للمعلمين أو للآباء واحترام الأعراف. وليست المشكلة فى الكلمات ذاتها ولكن فى السياق الذى تستخدم فيه والذى يضعها كوابح فى وجه كل محاولات التجديد والتغيير.

هذه المصطلحات التقليدية هى من المفردات الخاصة بكل خطاب محافظ فى جميع الثقافات وليس فى ثقافتنا العربية وحدها. وبالتالى لا حاجة بنا إلى أن نؤكد من جديد على دورها فى تكريس التخلف. والآن بعد أن استبعدنا ما لا نهتم به لم يبق إلا أن نوضح ماذا نعنى بقاموس التخلف. تحاول المقالات التى ستقرؤنها تعقب خطاب ثقافى سائد يهيمن على ثقافتنا المعاصرة فى ظروفها الحالية. وهذا الخطاب يقدم نفسه باعتباره خطاباً ينتجه مثقفون واعون بمشكلات العصر، مدركون لاتجاهاته الفكرية، خبيرون فى كشف طرق الهيمنة ومنتجون حصيفون لوصفات التقدم. فى هذا الخطاب العصرى يتم تداول مجموعة من المصطلحات التى تتكرر بصورة متواترة ويضفى عليها منتجو الخطاب قيمة تسمو بها إلى مستوى الحقائق العليا. وهذه المصطلحات ليست وقفا على قطاع بعينه، بل نستمع إليها فى التليفزيون ونقرؤها فى الصحف. ويؤلف المفكرون quot; المستنيرون quot; فيها مجلدات ضخمة. كل هذا الجهد جعلها تنتشر فى ثقافتنا انتشار البداهات التى يسلم بها الجميع.

الأمر إذن لا يتعلق بإيديولوجيا ولا بمجموعة من الأفكار والحجج نقوم بنقدها وتفنيدها ولكنه يتعلق بألفاظ نسعى إلى رصدها ثم ابراز الدلالة الخاصة التى تعطى لها فيه فى ثقافتنا المعاصرة وبعد ذلك نوضح الصلة بينها وبين التخلف الفكرى الرابض على عقولنا. ويمكن لنا فى النهاية أن نحدد بعض الملامح الخاصة بالمصطلحات التى سنتعرض لها:
1 ـ أنها ليست ألفاظ مستخدمة فى لغة الحياة اليومية ولكنها مفردات الخطاب الثقافى السائد والذى يقدم نفسه بوصفه الطريق السليم لحداثتنا المأمولة.

2 ـ أنها ألفاظ لا تأتى عفو الخاطر أو تتسلل إلى الخطاب دون وعى من أصحابها بل هى مصطلحات أختيرت بوعى لتكوين منظومة لغوية هى فى حقيقة الأمر ترسانة أسلحة لمقاومة التقدم.


3 ـ أنها، بوصفها الفاظاً، لا مشكلة فيها فى حد ذاتها ولكنها، بسبب التوظيف الشائع لها فى خطابنا الثقافى المعاصر، تعد إمارات أو علامات على إيديولوجيا كامنة معادية للحداثة.

وأخيراً سوف تبدأ المقالات بتعريف قاموس مقتضب للمصطلح ثم تشرع بعد ذلك فى تقديم تحليل نقدى لاستخدام المصطلح فى الخطاب العربى المعاصر بصورة تدعم التعريف الذى قدمناه.

يتبع

ممنوع إية إعادة نشر دون ذكر المصدر إيلاف