ترد كلمة المحنة كثيرا حين يكون الحديث عن إعلام عربي حرّ، مهني متحرّر قادر على المواكبة ومتجاوز للكوابح والإعثارات، مثل هذا الإعلام غير موجود حتى هذه اللحظة، ليس عند العرب وحدهم بل في العالم كلّه(والتعبير هنا لإدوارد هيرمان، كشاهد من أهلها) حيث يجد في الكوابح الخمسة عائقا أمام الإعلام الحرّ، وهو حين يشخّصها ب(الملكية والعائدية، والتمويل الإعلاني، ومصدر الخبر الرسمي دائما، والخوف من الأقوى والمتنفذ، والايدولوجيا ووجود عدو مفترض). . فهو قد شخّص علّة عامة، ألفيت قبل أيام من يتحدّث عنها ويحرّف الكلمات عن موضعها بالقول عن مظلومية قناة عربية شهيرة وجدت في الكاتب نصيرا ايدولوجيا يمكن استخدام حصانه في سباق اللحظة، حيث لم يشخّص كاتب أو مفكرّ عربي هذه المحنة، أو يجد على الأقل أسبابا لإصطفافته الذاتية مع أي جهة في معسكرات باتت معلنة، فالإعلام العربي رسم بوضوح للشكل النهائي للانتماءات الجديدة وحدد مساراته بين الأحمر والأخضر. دون أن نجد الجرأة في أي كاتب أو مفكر عربي ممن يعوّل عليهم ليقول كلمته الفصل في جملة أخطاء إعلامية عربية يلوكها التاريخ طيلة عقود، وتعود في صور وإشكال مختلفة غير إن لها مضامين لا تتمايز في السياق التاريخي المروي عن إذاعة صوت العرب، وأي قناة فضائية عربية تفتعل الصمود والتصدي الآن.

أسوق هذه المقدمة العاجلة لتناول حدث إعلامي عراقي يبدو على جانب من الخطورة فقناة الفيحاء العراقية مهددة بالغلق، وكتب أحدهم عن دلالات غلق قناة الفيحاء التي تبث من دولة الإمارات العربية، وكان الحديث غير موضوعي والنقد فيه إلتباس وضبابية بشكل مخلوط، حتى لتكاد تميّز بين عسل الحقيقة وسم الدس، في وقت صعب وشائك الملامح لا يصلح إلا لقراءة الالتباس في الخطاب الإعلامي المضاد؛ مكتوبه ومسموعه، فالحقيقة التي قتلت سقراطها تقف اليوم حاسرة وحيدة في فضاء يمتليء بالزعيق والصراخ والكتابة. وذاتها الحقيقة لا تثبت إن الفيحاء تشكّل لوجود فضائي مخالف في زمن التضاد، فإذا كانت في وقت سابق متهمة بأحادية النظرة، فهي لم تقع في المطب الإعلامي أبدا لأنها سعت منذ اللحظة الأولى لتصحيح وإصلاح الجانب الأحادي عند المضاد الإعلامي العربي الذي سعى لتهميش الآخر وعزله بشكلّ موحش، وأجد إنها سعت للتعريف بالآخر العراقي المنسي والمهمل في معمعة الإعلام وفوضاه، وإذا كان الإعلام العربي قد طرح الإرهاب كطرف سياسي، فلا يمكن أن يكون ذنبا تتحمل جريرته هذه القناة اليوم لكونها لم تطرح معادلة سياسية يكون فيها الإرهاب بمسمى الشريك السياسي، فهذا لسان حال السواد الأعظم من الشعب العراقي الذي كان ضحية الإرهاب، وهي في الوقت ذاته قد استخدمت سياسة اليد المبسوطة والحوار مع جميع إطراف المعادلة السياسية العراقية المعلنة الأهداف والواضحة النوايا. ولا أدري أي علمية افتقدتها الفيحاء، وأي نهج مشوق كان عليها إتباعه، فالتشويق الدموي المنتهج من لدن بعض الفضائيات العربية يدل على سادية وعنف ويفتقر إلى أي قيمة فنية إنسانية مهما وضع له من محسنات وإمكانيات مدعومة بجهد فني ومادي تفتقر إليه الفيحاء و من معها في هذا المسعى، فالغلبة الآنية دائما للمتمكن/القوي القادر على تزييف الواقع وبث الممسوخ من الحقيقة، لذا فالرهان رهان مستقبل لن يُغفل هذه الوقائع وسيعطي لكلّ ذي حق حقه ولو بعد حين، فالرهان الإنساني لن يكون بالقطع على مشوقات الفضاء في جانبي التشويق العربي المعلن الآن؛فأما تشويق دموي، أو تشويق تراخص وإبتذال مثاله عشرات الفضائيات التي تجد ترحيباً وتيسيراً لبثها.

هذا التشويق أصبح من نمطيات الإعلام الجديدة، و ربما يلحظ المنصف التطور المضطرد في خطاب فضائية الفيحاء سعياً حثيثاً للخروج عنه، فكانت على العكس مما يحاول البعض تسميته من جهات تمويل ساعية لزج خطابها في خندق أو جهة، فخندقها المحسوس هو الأغلبية الصامتة والمنتبذة في المهمل الإعلامي العربي. وأعتقد أن مشكلتها هي مشكلة الإعلام العربي بأسره في وجه من أوجه الخروج عن السائدية والأعراف والتقاليد الإعلامية، فلا بد من جهة داعمة ومساندة تشفع أمام أي تهديد وتكون نصير شدائد ما أكثرها اليوم، وجهات الدعم الفيحاوية وهم سياسي وفوبيا منافسات إعلامية، فهذه القناة ما كان لها أن تُعلن لجهة سياسية أو دولة بعينها، لأنها بقيت على المحك الناقد لكل الأطراف وطالما أحسّ متابعها بثقل هذه التبعات من توارد أخبار عن غلق مكتبها هنا إثر تهديد أو مطاردة مراسلها أثر تقرير، وهو جواب شاف على سؤال ورد: لِمَ لمْ تبث الفيحاء من البصرة مثلا؟. . فالتخندق مع جهة قوية سيمنح الفيحاء حماية حيثما كانت ودليل هذا وجود قنوات عراقية تبث من العراق وتضاد قوى ومجاميع أخرى، ونجد أنها تتمتع بحماية وحصانة تجعلها تصرّ على خطابها دونما خوف وحيث تقيم في العراق. .
إن للنقد المشروع باب جواب متسع بين من يكتبه ومن يقرأ تفاصيله، غير أن هذا السؤال الناقد لا يمكن أن يتجاوز واقعا مأساويا يحيل مشكلة الفيحاء إلى التباس عام سببه افتقار العراق إلى قانون إعلامي مدروس وحضاري يحكم العملية الإعلامية، فهو تسويف لا ينفع مع وضع العراق الآن ولا يمكن بمكان انتظار هكذا قانون في الدولة العراقية الوليدة لتبنى على أساسه سياقات التعامل والحماية والدعم للفضائيات والإعلام بصورة عامة. نحن في وضع انتقالي طارئ وعلى أساس هذه الطارئية وفوق أرضها لابد أن نجد موطئ قدم مستضافة بشروط، فالكوابح الخمسة التي شخّصها هيرمان في بحثه عن جدوى الإعلام الأمريكي والغربي بصورة عامة، يضاف لها من فحوى حديثنا هنا فقرة سادسة وهامة ولعلّها هي الأصل في كلّ الحكاية فالمكان الذي توجد عليه أي فضائية هو ما سيحكم عملها بكلّ تأكيد. . أيضا لا أجد من الفروسية أن يتم الحديث المتشفي بزّج كلمات حقّ يراد باطلا منها في ذكر مساوئ الحكومة العراقية، أو نقد أشخاص في هرم الدولة العراقية، والمحنة في مثل هذا النقد كونه يخرج من أشخاص يكتبون باسم مستعار، يصلح تسميته بالملثم لمطابقة وضعه مع الملثم الإرهابي المنشغل بقذائف في الظلام، وهي حسنة تضاف إلى وطنية هذه القناة لكونها أحرزت عدوا ملثما مطابقا في الحال والمنوال من يعيثون فسادا ورعبا في العراق، وممن حاولت هي فضح مخططهم ونشر اعترافات إتباعهم على الملأ.

من حق الجميع توجيه النقد إلى الفيحاء وغيرها، وطالما كتبنا عن أخطاء حصلت لديهم، لم يكن مستغربا وقتها طرح المقال في حوار تلفزيوني، وأنا شاهد شخصي على مقال لي وآخر للأستاذ كاظم حبيب، هذا النقد مقبول من الطرفين إذن شرط الموضوعية والرحمة!، فالاستخفاف بصرخة العاملين في الفيحاء خشية قطع الأرزاق إستخاف مبثوث الضغينة بالأعناق المستباحة جراء فعل تعطيل نافذة وظيفية، ولن يلام أي شخص منهم بإعلان الصوت الذي أضم حزني وصراخي أليه مناشداً التضامن من العرب قبل العراقيين بهذا الخصوص، وستجد كلماتي صدى في قلوب من يُنتظر منهم مثل الموقف. . والأجدر أن لا تطال الكتابات مصائر هذه الناس وترك النافذة مفتوحة أمام شكواهم، وترك العسل للنائمين في بحبوحة مذاقه دون خلطه إلينا بالسم المكتوب، فمن حقنا الشكوى بعد أن تقطعت السبل بنا، أم يريد هؤلاء منعنا منها أيضا. . أقولها بحزن متذكرا معه صرخة الجلاد بوجه سقراط- الذي اتخذته شاهدا أوليا في هذا المقال- وهو يتجرع السم، ممتعضا من شدة الألم، فيأمره الجلاد أن لا يتحرك كثيراً حتى يأخذ السم مفعوله بصورة صحيحة!.