ربّما كان من الأجدى أن نصوغ عنوان هذا المحور على النّحو التّالي : quot;الإرهاب وخطره على التّعايش بين الشّعوبquot;. فنحن عندما نتحدّث عن الحضارات بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد، نفترض وجود حضارتين أو حضارات عدّة تسود العالم اليوم، وهذا افتراض يجانب الصّواب، فقد يعيدنا إلى فكرة quot;صراع الحضاراتquot; التي برزت في التّسعينات من القرن المنصرم، ولهج بها الجميع شرقا وغربا، بل قد يؤكّد هذا الافتراض بعض الأوهام التي يتغذّى منها الإرهاب نفسه، باعتبار أنّ الإيديولوجيا الإرهابيّة تصوّر نفسها مع صراع ضدّ الحضارة الغربيّة التي تعتبرها مغرفة في الفساد والمادّيّة، وتظنّ أنّها في مواجهة عسكريّة مع الغرب، تمثّل تكرارا للحروب الصّليبيّة التي دارت رحاها في العصر الوسيط. فاليوم لا توجد سوى حضارة واحدة هي الحضارة الغربيّة السّائدة في مشارق الأرض ومغاربها. ويمكن أن نكون أكثر دقّة فنقول إنّه لا توجد الآن غير حضارة إنسانيّة واحدة هي تلك الحضارة التي أنجزها الغرب، لأنّ هذه الحضارة تقدّم النّموذج الوحيد الممكن في التّطوّر العلميّ والتّقنيّ والمدنيّ، وهذا النّموذج يمثّل أفقا وأرضيّة لكلّ مظاهر النّشاط البشريّ في كلّ أصقاع العالم. لقد استطاعت المجتمعات الغربيّة أن تحقّق القطيعة المعرفيّة مع الأبنية التّيولوجيّة، بتطوير معارف تجريبيّة عن الطّبيعة، وبإعادة النّّظر في تراثها ونقده، وإنتاج تراكم معرفيّ حوله، واستطاعت أن تخضع حياتها السّياسيّة إلى الكثير من العقلانيّة، والمهمّ من كلّ ذلك أنّها رغم استعمارها الشّعوب الأخرى، أو بسب هذا الاستعمار نفسه، أبدعت الفكرة الكونيّة السّياسيّة (الكوسموبوليتيّة)، ومن ثمّ صنعت كونيّة حداثتها، وفرضت على الجميع مؤسّسات المجتمع الدّوليّ وقوانينه.

أمّا الحضارات القديمة مثل الحضارة الفرعونيّة والآشوريّة والبابليّة والرّومانيّة والعربيّة الإسلاميّة وغيرها، فإنّها إمّا اندثرت ولم تترك سوى آثار وتراث يكون موضوعا للدّراسة والاستلهام، أو تحوّلت إلى مجرّد ثقافات غير قادرة على إنتاج نموذج آخر مغاير للنّموذج الحضاريّ الغربيّ. نعم توجد اليوم ثقافات عدّة، إذا منحنا للثّقافة مفهوما أضيق من الحضارة، بحيث تشمل اللّغة والأعراف والتّقاليد والأديان والفنون ونظرة المجتمع إلى نفسه وإلى الإنسان وإلى الكون. فالقول بحوار الثّقافات من هذا المنطلق ممكن، والبحث في تعامل الثّقافات المختلفة مع النّموذج الحضاريّ الغربيّ ممكن أيضا. ولعلّنا إذا ألقينا نظرة سريعة وإجماليّة على هذا التّعامل، وجدنا نوعين من المجتمعات: مجتمعات راحت تتلمّس طريقها إلى المستقبل بإنجازات متفاوتة، ولكنّها تقبّلت فكرة الحداثة ومنجزاتها، ولم تستنكف من الأخذ عن الأوروبّيّين، ولم تدخل في صدام مستمرّ وعنيد معهم، ومجتمعات استوردت بشيء من التّردّد الكثير من مظاهر التّحديث الغربيّ في المعرفة والسّياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع، ولكن ظلّت قطاعات عريضة منها ترفض هذا النّموذج، وتتحوصل في قدامتها على مرحلة ذهبيّة صاغتها من خلال تاريخها المؤدلج، واعتبرت نفسها مالكة لحضارة عابرة للزّمن، وأنّها في غنى عن تقليد الآخر أو الأخذ منه، وهذا حال الشّعوب العربيّة على وجه التّحديد. مجتمعاتنا وهي تأخذ كغيرها بنموذج الحضاريّة الغربيّة تنتج ألوانا من رفض هذه الحضارة، يتمثّل خاصّة في تيّارات الإسلام السّلفيّ والسّياسيّ المتعاقبة، من تيّار الإخوان المسلمين الذي ظهر في العشرينات، إلى الوهّابيّة التي ظهرت كحركة صفويّة تطهيريّة منذ أواسط القرن الثّامن عشر، ولكنّها أصبحت فاعلة ومؤثّرة في العالم العربيّ، إلى ما سمّي بالصّحوة الإسلاميّة وأنتج التّيّارات التّكفيريّة الحاليّة، وليس الإرهاب سوى اللّحظة القصوى المتأجّجة من هذا الرّفض والصّدام.
لكنّ الإرهاب وإن كان يمثّل العرض المرضيّ الأكثر خطورة عن علاقة المجتمعات العربيّة الإسلاميّة بالحداثة، فإنّه يقوم دليلا ساطعا على وجود حضارة واحدة وعلى هيمنة النّموذج الغربيّ على خصومه أنفسهم. إنّه خليط كاريكاتوريّ من الرّفض المتشنّج للحداثة الغربيّة ومن الإقبال عليها في الوقت نفسه، إنّه رفض لفكرة الحرّية التي أتت بها الحداثة ورفض لتكريس شرعة حقوق الإنسان وكلّ المنجزات المدنيّة التي تراكمت من خلال مسيرة الإنسانيّة، وإقبال فريد على الحداثة في منجزاتها التّكنولوجيّة والرّقميّة واستفادة تامّة من الأوضاع الجغراسياسيّة الجديدة التي فرضتها العولمة. فالإرهابيّون يستعملون أحدث وسائل الاتّصال لتنسيق عمليّاتهم، ويستعملون الفضائيّات لنشر خطبهم التّحريضيّة ووصاياهم، ويستعملون الأنترنيت والأقراص المدمجة وأشرطة الفيديو وأقراص الفيديو الرقمية للتّعريف بغزواتهم وعرض صور عمليّات قطع الرّؤوس في العراق والشّيشان، ويستعملون علم الطّيران لتنفيذ العمليّات التي تقتل أكبر عدد من البشر، ويستعملون المضاربات الماليّة لتنمية أرصدتهم...

فلماذا وكيف يعدّ الإرهاب خطرا على التّفاهم بين الشّعوب والحوار بين الثّقافات؟
ليس الإرهاب باعتباره ترويعا للمدنيّين الآمنين ظاهرة تتّصف بها شعوب بعينها، فنحن نعرف في التّاريخ القديم والحديث إرهابا حصد أرواح البشر وخلّف نكبات ومآسي جمّة، منه إرهاب الحشّاشين وإرهاب الألوية الحمراء وإرهاب منظّمة الجيش الإيرلنديّ وإرهاب الفوضويّين وإرهاب الحركات الانفصاليّة... ولكن ليس من باب جلد الذّات، بل من باب الاعتراف بالحقّ وممارسة النّقد الذّاتيّ الضّروريّ أن نقرّ بأنّ العمليّات الإرهابيّة الانتحاريّة ذات النّطاق الواسع يقوم بها اليوم عرب مسلمون، ويقومون بها باسم الإسلام. وأودّ أن أردّد ما كتبه سعد اللّه خليل على أحد مواقع الأنترنيت (شفّاف الشّرق الأوسط، 13 يوليو 2005) : quot;صحيح أن ليس كل مسلم إرهابي. ولكن أليس كل إرهابي مسلم، منذ الحادي عشر من سبتمبر حتى يومنا هذا؟ هل هناك من ينكر ذلك؟ من قتل أكثر من ثلاثة آلاف إنسان في غزوتي منهاتن وواشنطن؟ من الذي ذبح تلاميذ المدارس في (اوسيتيا)؟ من الذي فجر قطارات مدريد؟ من الذي فجر قطارات الأنفاق في لندن وأوقع عشرات القتلى ومئات الجرحى؟ من الذي قتل العمال النيباليين؟ من.. ومن..؟quot; وليس من باب جلد الذّات أيضا أن أبيّن خطورة هذا الإرهاب الجديد الذي يرتكب باسم الإسلام، بأن أذكر بعض خصوصيّاته، وبعض خصوصيّات سياقاته الثّقافيّة :

1/ إنّ الإرهاب القديم يهدف في الغالب إلى قتل أو إيذاء فئات بعينها، أمّا الإرهاب الإسلاميّ اليوم، فهو يهدف إلى القتل المحض، أي إلى تحقيق أكبر قدر من الموتى، وربّما التجأ الإرهابيّون إلى الأسلحة النّوويّة والبيولوجيّة والكيمياويّة لتحقيق المزيد من العنف الشّامل ومن الدّمار. وليست هذه الفرضيّة مستبعدة، بما أنّ الإرهابيّين يصلون بمبدإ quot;الغاية تبرّر الوسيلةquot; إلى أبعد الحدود وبما أنّهم يستغلّون كلّ منجزات العولمة لترويع العالم بأسره. وتفيد بعض الإحصائيّات بوجود أكثر من 80 ألف موقع على الأنترنيت يوفّر معلومات عن طريقة صنع واستعمال القنابل اليدويّة والنّوويّة وحتّى الكيمياويّة. ومعلوم أنّه لا توجد إلى اليوم أيّ أطر لمراقبة هذه المواقع. ولعلّ هذا ما جعل الأمين العامّ للأمم المتّحدة يكتب في تقريره quot;في جوّ من الحرّيّة أفسحquot;: quot;والإرهاب خطر على كل المقاصد التي تعمل من أجلها الأمم المتحدة في مجال احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون وحماية المدنيين، والتسامح بين الشعوب والأمم، وحل المنازعات بالوسائل السلمية. وقد أصبح هذا الخطر أشد إلحاحا في السنوات الخمس الماضية. فشبكات الجماعات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية أصبحت عالمية النطاق وغدت تجعل من التهديد العالمي قضيتها المشتركة. إن تلك الجماعات تفصح عن رغبتها في اكتساب الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، وفي استخدامها لإيقاع عدد كبير من الخسائر. وفي مقدور هجوم واحد من ذلك القبيل، وما قد يترتب عنه من أحداث متسلسلة، أن يغير وجه العالم إلى الأبد. إنّ الإرهاب الجديد إذن ليس خطرا على التّفاهم بين الشّعوب فحسب، بل هو خطر على حياة الشّعوب نفسها.

2/ إنّ لكلّ الحركات الإرهابيّة بنية دينيّة تعصّبيّة وإن كان التّعبير عنها سياسيّا، فالخطاب الإرهابيّ يحوّل إيديولوجيّته إلى ديانة هي وحدها التي تملك الحقيقة. والإرهاب الجديد لا ينبني على هذه البنية التّعصّبيّة فحسب، بل يدّعي أنّه الفرقة النّاجية التي فهمت الدّين على النّحو الصّحيح، والممثّل الشّرعيّ الوحيد لواحدة من أكبر الدّيانات في العالم. فيسمّي أعماله التّدميريّة جهادا ويعتبر انتحاره شهادة. ولذلك فإنّ الإرهابيّين السّياسيّين في السّابق كانوا يحاولون النّجاة بأنفسهم والبقاء لمواصلة مسارهم، أمّا الإرهابيّون الجدد، فإنّ شهوة الموت واستعجال الجنّة تحرّكهم وتجعلهم يستهترون بأرواحهم كما يستهترون بأرواح الآخرين. وهذا الطّابع الدّينيّ البارز للإرهاب الجديد يزيد في قدرة الفكر الإرهابيّ على جذب الجماهير المؤمنة، ويزيد في الوقت نفسه من طاقته العدميّة التي تجعل القاتل لا يبالي بحياته من أجل أن يقتل.

3/الإرهاب الذي عرفته المجتمعات في السّابق إرهاب له نشريّاته وأدبيّاته ومفكّروه، ولكنّ حركاته كانت تلفّها السّرّيّة ويحكمها الاحتطاب في الظّلام. أمّا الإرهاب الجديد فهو يعتمد السّرّيّة للتّخطيط، ولكنّه يعتمد العلنيّة لإشهار إنجازاته، ويستغلّ كلّ وسائل الاتّصال الحديثة لترويج إيديولوجيّاته ونشر خطابات التّكفير والحقد.

4/ الإرهاب القديم يمثّل في الغالب ظاهرة معزولة في المجتمعات بحيث يكون عدد النّاس الذين يقومون به أو يساندونه عددا محدودا نسبيّا، ولا تكاد تتجاوز عمليّاته إطار الدّولة الواحدة. أمّا الإرهاب الجديد فهو إرهاب دوليّ عابر للبلدان، وهو عابر للبلدان من حيث جنسيّات مرتكبيه ومن حيث أنّه يطال كلّ البلدان، ومن حيث أنّه يجد تعاطفا من قبل قطاعات عريضة من الجاليات العربيّة في البلدان الغربيّة، ومن قبل الكثير من المواطنين الحاصلين على جنسيّات في هذه البلدان. وتدلّ بعض تصريحات النّاشطين الإسلاميّين في الغرب أنّهم يرفضون نظام المواطنة الحديث، ويحاولون اعتماد مفاهيم مستمدّة من الفقه القديم . فقد صرّح سيف الإسلام رئيس فرع منظّمة quot;المهاجرينquot; في بلدة لوتن ببريطانيا في شهر نيسان من عام 2004 أنه يدعم أسامة بن لادن 100% في السعي لتحقيق quot;سيطرة عالمية للإسلام،quot; إلا أنه أعرب عن اعتراضه على القيام بأعمال إرهابية في بريطانيا. لكنه في النهاية، يوافق على الإرهاب بالمعنى الأعم حين يقول: quot;إذا ما حصل هجوم تفجيري هنا فإنني لن أكون ضده حتى لو قَتَل أولادي... . إلا أن مشاركتي الشخصية بأعمال إرهابية في داخل المملكة المتحدة أمر يخالف الإسلام لأنني أعيش هنا. فأنا، وفقاً للإسلام، متعهد إزاء أمن المملكة المتحدة مادامت تدعنا نعيش هنا بسلام.quot; وأضاف موضحاً: quot;إذا ما أردنا المشاركة بالإرهاب، فعلينا أن نغادر البلد، وخلاف ذلك مناف للإسلام .quot; وتشير بعض الإحصائيّات إلى وجود 16 ألف مسلما بريطانيّا يتعاطف مع الإرهابيّين، ووجود 3 آلاف شخصا مولودا ببريطانيا أو مقيما بها تلقّى تدريبات في أحد معسكرات تنظيم القاعدة في السّنوات الأخيرة.

5/ إن كان الإرهاب الجديد يلقى تعاطفا في العالم الغربيّ، فما بالك به في العالم العربيّ. فهو وإن قامت به قلّة قليلة من النّاس فإنّه يجد المساندة والمناصرة من شرائح كثيرة داخل المجتمعات العربيّة، بل يمكن أن نقول إنّه يحظى بشيء من الشّعبيّة، وخاصّة عندما يستهدف غير العرب ومن يعدّون أعداء. وما يدلّ على التّبجيل الذي يحظى به الإرهابيّون أنّ بعض قادته ممّن تسبّب في مقتل مئات الأبرياء في العراق أقامت أسرهم سرادقات لا لتقبّل العزاء، بل لتقبّل التّهاني على ما قام به أبناؤهم من أعمال يعتبرونها جليلة.

6/ والأدهى والأمرّ، والأمر الذي يجب أن نخصّص له مجالا واسعا في هذا المؤتمر، هو أنّ للإرهاب في بلداننا أقطابه الذين يفتون له من أعلى منابر المساجد وله إعلاميّوه الذين يتفنّنون في تمجيده بين النّاس في الفضائيّات العربيّة، وله كتّابه على صفحات الدّوريّات الأكثر انتشارا. وبعض المحرّضين على الإرهاب مثل الشّيخ يوسف القرضاويّ يستقبله المسؤولون الحكوميّون والممثّلون عن المنظّمات الدّوليّة ويدعونه إلى الملتقيات بكلّ إكبار وتبجيل، وبعض إعلاميّي الإرهاب يفسح لهم المجال على القنوات الفضائيّة للإشادة بأمجاد الشّيخ بن لادن، وأمجاد الحركات التي تستهدف المدنيّين في الأراضي المحتلّة وإسرائيل.
هناك فئات في مجتمعاتنا تقوم على حراسة الثّوابت، وهي إمّا أن تكون دينيّة كالشّيوخ والفقهاء والدّعاة، وإمّا أن تكون ذات طابع أهليّ ولا أقول مدنيّ كالمثقّفين القوميّين العرب.
فبعض رجال الدّين يحرّضون على الإرهاب مستخدمين آليّة الإفتاء المؤثّرة في جماعة المؤمنين والملزمة في أذهان الكثير منهم. ولذلك فإنّنا نجد تحت كلّ عمامة قبّة برلمان تفبرك هذه القواعد حسب هواها السّياسيّ، وبذلك اختلطت في هذه المجتمعات مفاهيم الجريمة بمفاهيم الخطيئة ومساحة الإباحة برقعة المندوب والمكروه والحلال والحرام.
ورجال الدّين عندنا ما زالوا يقسّمون العالم إلى دار إسلام ودار كفر، وما زالوا يتحدّثون عن الولاء للمسلمين والبراء من الكفّار، ويقولون بأنّ الدّين الوحيد الحقّ هو الإسلام وما عداه شرائع نسخت بالشّريعة المحمّديّة وما إلى ذلك من مظاهر عبادة الذّات. هؤلاء الفقهاء هم الذين يشرّعون للإرهاب بقولهم إنّ الجهاد فريضة قائمة إلى يوم السّاعة فيحرّضون الشّباب المسلم على النّحر والانتحار.
أمّا الفئة الأخرى من القائمين على حراسة الثّوابت، والمساهمين في دعم الإرهاب، فهم ينتمون إلى المجتمع الأهلي، ويؤمنون منذ أمد بأنّ قوميّتهم تجبّ كلّ القوميّات ولا تعترف بها، وأنّ العداء مع الآخر من الثّوابت التي لا يجوز التّنصّل لها، وأنّ سبب كلّ الهزائم والانتكاسات الاستعمار والإمبرياليّة والصّهيونيّة، وهم يدافعون عن أحزاب البعث التي ارتكبت المجازر وشرّدت الملايين باسم الوحدة القوميّة والدّفاع عن شرف الأمّة. إنّها نخبة لا تبالي بسقوط مشاريعها في النّهضة والبناء، فتظلّ تطلق الفتاوى الدّنيويّة بالتّخوين والعمالة للعدويّين الصّهيونيّ والأمريكيّ.
6/ وأخيرا وليس آخرا، فإنّ الإرهاب الجديد يجد تربة خصبة في مجتمعات لا تنبني على الحوار الدّيمقراطيّ بل على نظريّة الغلبة وقوّة الشّوكة، ولا تعرف غير البطش والتّنكيل في حلّ مشاكلها الدّاخليّة. فالحاكم واحد لا شريك له، وتفسير المعتقدات والنّصوص المقدّسة واحد لا تجوز مخالفته وحرّيّة التّعبير من اختراع الآخر الذي يتربّص بنا الدّوائر، وإخضاع الأقلّيّات من الثّوابت التي لا محيد عنها، وقهر النّساء والأقلّيّات وإقناعهم بدونيّتهم جزء من الهويّة الوطنيّة، والإعلام لا يكون إلاّ تمجيدا للذّات وتزييفا الوعي ونشرا لهذيان شبيه بالبرانويا، أي حالة المصاب بجنون العظمة والذي يتصوّر أنّ كلّ العالم ضدّه وكلّ العالم يتآمر عليه. بل ما نقول في مجتمعات تصرّ على عدم إصلاح منظوماتها التّربويّة باسم السّيادة الوطنيّة، وتصرّ على تدريس موادّ الجهاد وأحكام أهل الذّمّة والبراء والولاء، وتدعم نشر الكتب الإرهابيّة التّكفيريّة بل وتسند الشّهادات العليا لمن يتصدّى بالتّكفير إلى مئات المفكّرين والكتّاب العرب؟

سيّداتي سادتي،
يبقى أن نجيب عن السّؤال الأساسيّ في هذا المؤتمر : كيف ندرأ مخاطر الإرهاب ونحقق عالما أكثر أمنا أو أقلّ عنفا؟
1.إصدار الدّول العربيّة، وخاصّة منها تلك التي يتخرّج من أنظمتها التّربويّة معظم المتوّرطين في قضايا الإرهاب قرارات سياسيّة وخططا حقيقيّة من أجل تفعيل القرار 2004/71 الصادر عن لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة والذي ينصّ على برنامج عالميّ للتّربية والتّثقيف في مجال حقوق الإنسان يبتدئ في جانفي 2005. فلا بدّ أن تستغلّ الأمم المتّحدة سلطتها الأخلاقيّة والمعنويّة من أجل دفع هذه الدّول إلى إيجاد استراتيجيّات حقيقيّة تهدف إلى إصلاح مناهج التّعليم، لإلغاء كلّ الموادّ والسّياسات التي تحرّض على الكراهية أو تحثّ على العنف أو تتعارض مع فكرة التّعايش السّلميّ ومع مبدإ المساواة بين كلّ البشر بقطع النّظر عن الدّين والمعتقد والجنس واللّون.
2.إيجاد حلول عادلة لقضايا الشّعوب العالقة مثل القضيّة الفلسطينيّة وقضايا الشّيشان وكشمير حتّى تندمل الجراح النّرجسيّة، وتتقلّص ذرائع الإرهاب.
3.إيجاد سياسة متشدّدة وعادلة إزاء الدّول التي ترعى الإرهاب كسوريا وإيران وتستعمله كأداة لدعم خلافاتها مع المجتمع الدّوليّ.
4.إنشاء مرصد لمراقبة حالات التّعصّب الدّينيّ، وإنشاء محكمة دوليّة تتولّى النّظر في جرائم التّحريض على الإرهاب سواء كان ذلك من خلال دور العبادة أو القنوات الفضائيّة أو سائر وسائل الإعلام، ولا بدّ من تسليط العقوبات على الفضائيّات المحرّضة على العنف والإرهاب بمنعها من البثّ على أيّ قمر فضائيّ إذا صدر حكم ضدّها من محكمة دوليّة.
5.ينصّ إعلان اليونسكو بشأن التّسامح سنة 95 على أنّ التّسامح ليس quot;واجبا أخلاقيّا فحسب، وإنّما واجب سياسيّ وقانونيّ أيضاquot;، كما ينصّ على أنّه quot;لا يجوز بأيّ حال الاحتجاج بالتّسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسيّةquot;. فالمطلوب من الدّول الغربيّة أن لا تقدّم تنازلات لصالح المجموعات الإسلاميّة التي تطالب بتطبيق الشّريعة، وتبدي عدم استعدادها لقبول مبدإ كونيّة حقوق الإنسان، وأن تساند القوى الدّيمقراطيّة في البلدان العربيّة من أجل القيام بإصلاحات جذريّة وحقيقيّة.
6.مطالبة هيئات الإفتاء والمؤسّسات الإسلاميّة كمؤسّسة المؤتمر الإسلاميّ ورابطة العالم الإسلامي التي لها فروع في مائة وعشرين دولة في العالم إلى ترك الشّعارات الورديّة الرّنّانة وإعلان مواقف صريحة وواضحة من أحكام الرّدّة التي تتنافى مع حرّيّة الضّمير، وأحكام أهل الذّمّة التي تتنافى مع المساواة والمواطنة، والعمليّات الانتحاريّة التي تستهدف المدنيّين.

[email protected]

مداخلة قرئت اليوم في مؤتمر quot;يدا بيد من أجل عالم آمن: ضد التطرف والإرهابquot;المنعقد في فيينا من 21 ndash; 23 كانون الثاني (يناير)

اقرأ أيضا:

د. رجاء بن سلامة: دور المثقفين والإعلام في مقاومة الإرهاب