قراءة تفصيلية نقدية لوقعة (بدر) الكبرى

خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول بن اسحق (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ـ قال بن هشام ــ خرج يوم الإثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان...

الحلقة الأولى
وكانت أبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا... فسلك طريقه إلى مكة...) ويستعرض بن اسحق المواقع الجغرافية التي مر بها رسول الله بمنتهى الدقة. ويشير ابن اسحق ان رسول الله كان يريد بدرا وهو في طريقه إلى مكة، فما أن وصل قريبا من (الصفراء) ــ وهي قرية بين جبلين ــ فقام بعمل مهم، ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم (بعث بَسبس بن ا لجُهني، حليف بني ساعدة، وعدّي بن أبي الرزعباء الجُهمي، حليف بني النجار، إلى بدر يتحسَّسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره.

خبر قريش يصل للرسول الكريم
ويستمر بن اسحق [ وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم، فاستشار الناس، و أخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب،فقال وأحسن، ثم قال المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، أمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو أسرائيل لموسى (فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون)، ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مُقاتلون، فولذي بعث محمدا بالحق لو سرت بنا الى برك الغماد ــ موضع بنا حية اليمن ــ لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرا ودعا له به ].
وقد سقت الإشارة إلى الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر، لأن هناك رواية أخرى في صحيح مسلم تنبئ عن غير هذا، سوف نتعرض لها في التعليق على الخبر أساسا.
وكان النبي يتخوف من عدم مشاركة الأنصار، فحسب الذمام الذي كان بينهما يقف عند حد مهاجمة المدينة فقط، ولكن سعد بن عبادة غير المعادلة، فضمن له المشاركة.
هنا نسجل نقطة مهمة، وهي، أن الرسول حول مهمته من التعرض لقافلة أبي سفيان إلى مواجهة قريش كلها، بل قريش وأخرين!
هذه النقلة غيرت وجه التاريخ، وقد كانت نقلة في العزيمة وفي الهدف أذهلت بعض الصحابة، فمن له طاقة في مواجهة قريش؟وكان بعضهم يحرص على أن يقنع نفسه بأن المواجهة ستكون مع أبي سفيان ورهطه القلة، وذلك خوفا من وقع الخبر المغاير، الخبر الذي يقول أن قريش أقبلت لتؤدب محمدا وصحبه!!

أبو سفيان يهرب بالقافلة
يقول بن اسحق (وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء... فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحواضر ـ أي النازلون على الماء ـ وهما يتلازمان على الماء ــ التلازم يعني تعلق الغريم بغريمه ــ على الماء، والملزومة ـ أي المديونة ــ لصاحبتها: إنما تأتي العِير غدا أو بعد غدا، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك... وسمع ذلك عدي وبسبس، فجلسا على بعيرهما، ثم إنطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا).
وتقول الراوية أن أبا سفيان ورد هذا الماء، أي ماء بدر، وقد عرف من تفتيت (علائف يثرب) بأن محمدا ربما يتعقبه، فأخذ ناحية الساحل، تاركا بدر، فنجا بالقافلة. وعلائف يثرب هي ما تركه هنا بعيرا بسبس وعدي، وتشير الروايات أن أبا سفيان أرسل بالخبر إلى قريش، ينبئها بأنه نجا والقافلة. وتشير رواية أخرى أن رسا لة أبي سفيان وصلت إلى قريش وقد نزلت (الجحفة).

رؤيا جديدة!
أقبلت قريش ونزلت في (الجحفة)، وهنا تتجدد قضية الرؤيا، ففي المصدر أن جهيم من الصلت بن مخزمة بن المطلب، بن عبد مناف قد رأي هو الأخر (رؤيا)، وكانت هي كما على لسانه (... إني رأيت فيما يرى النائم،وأني لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قُتِل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدَّد رجالا ممن قُتِل يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية ا لعسكر إلاّ أصابه نضح من دمه، قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضا نبي أخر من بني المُطلب، سيعلم غدا من القاتل ومن المقتول). هذه الرؤيا جاءت بعد أن أحكمت قريش أمرها، وكان النبي الكريم هو الأخر أحكم أمره، فيما السابقة كانت قبل ذلك، تتطابق الرؤيتان بما يلي: ــ
1: كلاهما مطلبية المصدر.
2: كلاهما تتعرض لنذر سوف تصيب قريش وخاصة الملأ منها.
3: تتطابقان في أكثر العناصر كما هو واضح من أدنى نظر.
4: كلاهما تلقيا تكذيبا وردا من أبي لهب.
5: كلاهما تحذير ونذير.

أول الإنكسار
كان أبو جهل قد أرسل إلى قريش يقول لهم (إنكم إذا خرجتم لتمنعوا عِِيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا ــ وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم سوق كل عام ـ فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجُزر، ونطعم العطام، ونسقي الخمر،وتعزف القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا و جمعنا، فلا يزالون يهابونا أبدا بعدها، فامضوا...). ولكن كان هناك من يفكر بطريقة أخرى، أنهم بنو زهرة، فهؤلاء كانوا يرون أن لا داعي للمواجهة بعد، فقد نجت الأموال والرجال، فعلا م هذا القتال، وكان معها بنو عدي بن كعب (فلم يشهد من هاتين القبليتين بدرا أحد)، وكان هذا بداية الإنكسار في تجمع قريش كما يرى بعض الباحثين، ولكن السؤال المهم هنا، ترى ما هي الدوافع الحقيقة وراء تخلف بني زهرة، كذلك بني عدي؟ هل حقا هو نجاة القافلة أم هناك سبب أعمق؟

الجَمعانِ على مقربة من بعضهما
كان كل من الجمعين يتجه صوب بدر، حتى تقاربا، ولكن من دون أن يعلم أحدهما بموقع الأخر، فيما كانت قريش تنزل بـ (العُدْوة القصوى) من الوادي، كان المسلمون ينزلون في (العدوة الدنيا) من بطن الوادي، وفي ذلك نزل وحي كريم (إذ أنتم بالعُدْوة الدنيا وهم بالعُدْوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم ثم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا وليهلك من هلك عن بينة ويحي من يحي عن بينة وإن الله لسميع عليم).
والعدوة هي شفير أو حافة الوادي، فكانما بينهما واد، وقريش كانت على حافة الوادي البعيد من المدينية، فيما كان المؤمنون ينزلون حافة الوادي القريب من المدينة، ولكن يستفيد بعضهم ان المؤمنين كانوا على قمة التل، فيما كان القريشيون في الوادي، حيث يقول ابن اسحق (وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسا ــ أي لينا سهلا ليس برمل ولا تراب ــ فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه منها ما لبَّد الأرض ـ أي جمع بين ذرات تراب الأرض فتتماسك، مما يشير إلى أنهم كانوا على قمة التل فإن أرض الوادي لا تُلبدها المياه بل تجعلها رخوة خطرة، لا يمكن التثبت عليها ــ ولم يمنعهم عن السير وأصحاب قريش منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله يبادرهم إلى الماء،حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به)، فهذا النص يفيد أن المطر لبّد الأرض للمسلمين، وبالتالي، هم على قمة الجبل، لأن الماء لا يلبّد تراب الوادي،، فلم يسبب لهم المطر مشاكل، بل قدم لهم عونا، حيث يساعدهم على ثبات الخطو، فيما كانت قريش في الوادي فسبب لها مشاكل السير والانتقال. (وأما قوله تعالى (والركب أسفل منكم) فالاشارة إما إلى قريش وهي في الوادي، أو إلى قافلة أبي سفيان التي نجت، حيث كانت في مكان أسفل من مكان المؤمنين، أي على سا حل البحر.وقد أشار الوحي إلى قصة المطر هذه بقوله تعالى (إذ يغشيكم النّعاس أمنةَ منه، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويًذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام).
فهذا المطر لبّد لهم الأرض، وبعث في نفوسهم نشوة، فيما لين للقريش الأرض وجعلها زلقة، وربما أربك حالتهم النفسية بسبب تجمع المطر في الوادي.

بناء عريش رسول الله
قال بن اسحق (فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدِّث: أن سعد بن معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونُعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزَّنا الله وأظرهنا على عدوِّنا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون مع، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بالخير، ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه).

أول القتلى
تقارب الجمعان، وقد أقبل بعض رجال قريش يشربون من حوض رسول الله، أي من الحوض الذي حفره المسلمون وجمعوا فيه الماء، لأن المسلمين كانوا قد ردموا كل الآبار التي تلي حوضهم باتجاه مسير قريش، فاشتد العطش ببعضهم، فجازف وأقبل على الماء، فقُتِل، ولم يسلم إلا واحد. وكان هؤلاء هم أول القتلى.

رؤيا ثالثة ولكن من نوع جديد
في هذه الأثناء وفي سجال الحرب التجسسية أرسل قريش عينا ممترسة لرصد المسلمين، بغية معرفة قوتهم وعددهم وعدتهم، وكان ذلك هو (عُمير بن وهب الجمحي)... فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثة مائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن طلب منهم أن يجول مرة أخرى ليكشف إن كان لهم كمين أو مدد فلم ير شيئا، فعاد لهم بالتقرير التالي (... قد رأيت يا معشر قريش ا لبلايا ــ البلايا هي النوق أو الجمال التي تربط على قبر الأموات، لا تعلف ولا تسقى حتى تموت، كان يفعل ذلك بعض العرب الذين يؤمنون بالبعث والنشور ــ تحمل المنايا، نواضح يثرب ــ النواضح هي الأبل التي يُستقى عليها الماء ــ تحمل الموت النا قع، قوم ليس معهم مَنعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتَل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أ عدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فاروا رأيكم)، وهي نبؤة تفيد أن عدد القتلى من قريش سيكون بعدد ما تقتل قريش من المسلمين!!

محاولة لمعالجة الأمر بالعقل
وقد كان لهذا التقرير وقعه على بعض رجالات قريش، فقد سمع حكيم بن حزام هذا التقرير فأتى (عُتبة بن ربيعة) فقال له (يا أبا الوليد: إنك كبير قريش وسيدها، والمُطاع فيها، هل لك أن لا تزال تُذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذلك يا حكيم؟ قال: تُرجِع بالنِّأس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن ا لحضرمي ــ وهو الذي قُتِل في أحد السرايا، قتله بعض الصحابة ولم يؤمروا بذلك فقرعهم القران بشدة وكان حليف عُتبة المذكور وقد كانت قريش تتحجج به لحرب محمد علية السلام والصلاة ــ قال: فعلت، أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي، فعليّ عقْله ــ أي ديته ــ وما أُصيِب من ماله، فإت ابن الحنظلية ــ أي أم أبي جهل ــ... قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل... فقلت له: يا أبا الحكم إن عتبه أرسلني إليك بكذا وكذا...) ولكن أبا جهل استطار عقله، واسشاط غضبا، رفض المحاولة، متهما (عُتبة) بالجبن، مشيرا أن (عتبة)إنما يريد أن نرجع وأن لا نشتبك مع محمد لان أبنه أسلم! وقد استفز بذلك (عُتبة)، الأمر الذي أضطره لدفع تهمة الجبن عنه، فدعا للمبارزة وقتل.

الالتحام الدامي
بدأت المواجهة فردية ثم تحولت إلى جماعية، وقتل من قريش جمع من أبرز رجالاتها، من أخطرهم أبو جهل، وكان عدد الذين استشهدوا في بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا، وعدد الذين كان نصيبهم القتل من القريشيين وأحلافهم سبعون قتيلا، مضافا لسبعين أسير.
هذه هي قصة معركة بدر، أختصرتها من سيرة بن اسحق، مطعما أياها ببعض الشواهد من مصادر أخرى، ولكن هل نستسلم لكل ما جاء فيها؟
هناك أكثر من سؤال وسؤال، وهناك أكثر من مفارقة ومفارقة، وهناك أكثر من إثارة وإثارة، منها ما يتعلق بمصادر الرواية، ومنها ما يتعلق بدوافع القتال، ومنها ما يتعلق بسلوك الفريقين، ومنها ما يتعلق بموقف المصادر الأخرى، ومنها ما يتعلق بهوية المعركة... وأمور أخرى.

نستمر في حلقات مقبلة إن شاء الله تعالى.
Ketab_ [email protected]