أعادت القناة الفرنسة الثانية مؤخرا، في ساعة متأخرة من الليل، عرض الفيلم التسجيلي: quot;الحب في الظلquot;، من إخراج ألان ميشال بلون ومن إنتاج ألين بادينتي حول الحياة الجنسية للمساجين. الفيلم نزل إلى جحيم السجون الفرنسية وجس الانقطاع والموت الحتمي الذي يعاقره فيها كل نزيل بائس. في الفيلم أيضا، كنوع من هوامش، مقارنة بين بعض السجون الفرنسية وسجون كندية. ينطلق الفيلم من فكرة الجنس في السجن: كيف يحيا المسجون حرمانه؟ كيف يتحمل فصله القسري عن امرأته أو فصلها هي عن رجلها أو عن صديقها أو هو عن صديقته؟ وكيف يتخيل ويهيم خلف رعشاته المستحيلة؟ كيف يصوغ بعض المساجين أفكارهم وانتقادتهم للبنية التي تتحكم من داخل السجن على قدرهم الأسود؟
كلمة السجن، أولا، مرعبة، ناهيكم عن الفزع القاسي الذي يعض من يقترب من حجر المكان. السجن هو أكبر مظاهر غباء الإنسان! أكبر المهازل قساوة هي مسرحيات المحاكم وادعاء فهم القضاء لشيء!
فبالرغم من انتفاضة مايو/أيار 68 بباريس وشعارات الثورة الجنسية، فإن أمور الجنس ماتزال سيئة. السجن سيء هو بعينه، السجن غياب الحرية وفصل عن العالم وعن ماضي الشخص. السجن أفظع عقوبة توقع على كائن حي. السجن أقبح كارثة تحيق بإنسان. قد يصل إليه أي كان في أية لحظة. العدالة منعدمة والله ميت كما نبه إلى ذلك نيتشه.
الذي شغل ألان ميشال بلون هو كيف أن هؤلاء الذين سبق أن جردوا بسبق إصرار عن كل ما يشكل عنصر انتسابهم إلى الإنسانية بغض النظر عن سبب وصولهم إلى السجن، فهم وفي حمأة هذا السديم السفلي الرطب قد خسروا كل شيء حتى النزر اليسير الذي يهدهد في صمت صبواتهم الداخلية ويستفي حق رغباتهم إلى تلبية ما. الجنس مرة أخرى إن لم نقل الحب إذ كثيرا ما يكونا قرينين وغالبا ما يتنافرا.
في الفيلم هاجس الوقوف على فقرات حيوات سجناء، كيف تفتقت في أذهانهم لدى انزواء طويل أو قصير فكرة احتكاك الجسد بالجسد ودخول ما يدخل حيث يدخل ويوغل فيه في لذة بلا نظير. ألم يكن السجناء في سجن؟ أليسوا في انعزال عن الآخرين؟ أو بالأحرى عن الحياة وروعة شمسها؟ إذن هل ليس من المتوقع أن يحرموا كذلك من لذة الجنس مثلما حرموا من أشياء أخرى؟ أليسوا في تلك الأمكنة لأن عليهم أن يدفعوا ثمن ما اقترفوا من مخالفات في عين قانون ما؟

السجن مرة أخرى هذا المطهر السيء الذي هو بلا نظير. لم يأنف صاحب الفيلم دون أن يبدي للمشاهد بعض سلالم سجون فرنسية ما وظلمتها بعض أبواب توصد وردهات النزهة المحددة والضيقة في مضيق أنفاس، وتلك الردهات التي تسع جرعات ألم وحرج انتظار أهل كيفما كانوا.
أذكر مرة قبل سنوات في بار في ذكرى شاعر مغربي وجد مقتولا في مرحاض بار باريسي ما. كانت الذكرى وكنت حاضرا في الدائرة العشرين، كأس في اليد والعين في الردهة القريبة ثمة شاعر مغربي آخر قضى أكثر من عقد في سجون النظام المغربي، هباء مثل غيره، رأيته بعينه يخطو، يذهب ويجيء في ردهة ما محاذية للبار والخمرة قد غنت مثلما قال حاوي ليس فقط في الجرار بل في جرار رأسه، وكأنه يتذكر تلك الفسحة التي خطا فيها الخطوات في القنيطرة والرباط وغيرها من سجون الملك في المغرب.
الذين ظهروا في الفيلم هم أيضا مروا ليس فقط عبثا في حلقات دورة النزهة في أمكنة إسمنتية قاسية ليست تتيح أكثر من تصلب مميت لحواس جمدتها الآلة القمعية التي ليست تهتم بلا ريب سوى بقطع أنفاس وقمع مميت وتام لحياة.
هل ردهات الزيارة في سجون فرنسا تتيح إذن إشباعا لنزعات ما لسنا ندري، الفيلم لم يحرمنا من مرأى الذين داروا هم أنفسهم في تلك الردهات بسبب أو بآخر. بعد تلك السويعات المقيتة في ضيق الزنزانة ثمة إذن تلك الدورة التي تمنح فضاء أرحب مما ألف المسجون. لكن ماذا سيفعل أو ماذا سوف تفعل بملكوت أعضائها تلك التي تزأر وتشهد بيأس فادح بأن ليس من شيء أقسى من حرمان ومن ترك تلك الفواكه كلها من دون قطف ومضغ والتذاذ ما. لا أحد يأبه ثمة!
بكت تلك المرأة التي شهدت وأعلنت عن حنقها من سوء تدبير ما لدى عدالة ما. الرجل الذي أحبت قد تكمش خلف قضبان غصبت قدرته على مد رجليه كي يرى كيف تدب الحياة أبعد من شرايين. هو هنالك أبعد وهي هنا أقرب غير أنها ليست تقدر أن تمطط شيئا من سوء العالم كي تكون.
سجون فرنسا تلك التي ذكرت في الفيلم وإن ليست تدل على فظاعة الجحيم الذي ليس بلا مثيل في هذا الشأن ليست سوى سجن سان مارتان دو ري غير بعيد عن لاروشيل تلك المنطقة الجميلة والسياحية في فرنسا، أو سجن مولون ضاحية باريس، العريق برعبه وسواد إقامته وسوداوية وبؤس الذين قدر لهم أن يكون لهم فيه يوما مستقر فظيع.
السجن إذن ليس غيره. لا نتحدث عن شيء تافه بل عن مصائر أشخاص قادتهم أيدي شرسة وشريرة باسم قانون وديمقراطية وعدالة وجمهورية في دهاليز يفقدون فيها كل إنسانيتهم. لشيء مثل هذا توصلت عبقرية العذاب لدى الإنسان بعد الحبل والرجم وطرق أخرى. ماذا اقترفوا؟ لربما شيئا ما. إذن عليهم أن ينفصلوا عن غيرهم ويحدث لهم كل ما يحدث لهم من ألم. لا نتحدث بعد عن إمكان حصولهم عن تسر جنسي أو تحقق ممكن لإنسانية قد بان لزوم أن تحيق باطلا بنفي ثمة.
جاك هذا الذي قضى حوالي عشر سنوات من حياته في السجن تخلص بعد ذلك من تلك الأسوار وتمكن بفضل قوة لديه من إعادة الاعتبار والسير حثيثا في طرقات أخرى إذ تمكن أن يعطي معنى آخر لإقامته على الأرض لما لا مادام قويا وقادرا إذ درس علم النفس وأنجز كتابا في هذا الشأن. قال جاك أن ظروف السجون الفرنسية قروسطوية. أمر آخر يؤكد كون احترام حق المسجون في السجن في إتيان علائق جسدية مع رفيقة أو زوجة في الخارج منعدم. خلاف ما قد نرى تألقه في السجون الكندية أو قد نقول في البنى اللازمة لتكوين آخر لشخص قد انفرطت لديه حبال ما وأساء لنظام اجتماعي ما بسلوك أو بآخر. في سجن اغتونبو أو سجن ماكازا الخاص باحتضان الذين اقترفوا مخالفات جنسية ما، ما ليس يشبه قط ما يحدث للذين هم خلف أبواب سجن مولان الرهيب. الفيلم لم يذكر سجن فلوريس مورونجيس الذي يشكل أفظع لطخة فاسدة على جبين آخر جمهورية فرنسية قد حق تفسخ نسغها الحقيقي. هذا السجن الذي قيل عنه أنه السجن الذي يقلب فيه طير الحمام تلك القطط في اعتراك على الطعام. لم يذكر سجن فرين سوى في إحالة جانبية ما.
في تلك السجون الكندية التي عرضت في الفيلم يستطيع المساجين يستفيدوا من بعض أيام على جانب نفس المبنى لكن في شقة مهيأة لذلك الأمر مع زوجة أو عشيقة أو حتى مع أفراد عائلة فقط كأشياء تتيح مد أواصر حميمية مع العائلة، كل ذلك كي لا تنطمس لوحة المفاتيح العاطفية في نفس المسجون.
في فرنسا خلاف ذلك فالقانون شديد البأس في هذا الشأن بل شديد البؤس أيضا، إذ أن ممارسة الجنس في السجن هو مس بحرمة الفضاء العمومي!
أحد الذين ظهروا في الفيلم استاء من هذا القانون وعبر عن حنقه وهو يقول: quot; هل السجن مكان عمومي؟ لا. أبدا السجن ليس مكانا عموميا. السجن مكان مغلق وموصدquot;. في الواقع لقد تم ضبطه في ردهة الزيارة وزوجته راكبة على فخذيه وهو يلج فيها.لقد حوكم مرة أخرى في السجن بتهمة المس بالأخلاق في مكان عمومي. أية سخرية يفرخ هذا القدر اللعين.
سجين آخر لم يتمالك نفسه وفتح ألبوم صور. من نوع وزوايا أخذ صوره يبدو أنه يتمتع بحس شاعري عال. الصورة التي أخذ لتمثال لدى بوابة محطة قطار ما. العمود الذي يشكل ذلك التمثال الغريب تثير في نفسه مشاعر فوارة، يرى أن العمود هو الفالوس، الفالوس الكبير الذي يسد فسحة السماء كلها. صورة لمقاعد شاغرة في قاطرة نقل عمومي. وصور عراء. هذا السجين نفسه تحدث بعد ذلك عن قانون الغاب الذي تعرفه السجون. القوي من الرجال ينكح الضعفاء. لقد خلص بعد ذلك إلى لزوم أن يصير المرء متوحشا في عالم متوحش!
هي أمثلة إذن منحت شهادتها حول ما سماه جاك لوزاج دو لاي، الذي ذكرت سالفا، quot;مشنقة الجنسquot; أي السجن في كتابه الذي يحمل نفس العنوان. ذلك أن ألان ميشال بلون قد جعل من فيلمه مهرجان شهادات كبير حول موضوع غير هين بل محرم في المشهد السياسي والقانوني بفرنسا. المخرج إذن منح الفرصة للمساجين كي يتحدثوا، لكن ليس قبل أن يتصل بعدد كبير منهم من قبل كي يرتبط بهم أساسا بعلاقات شخصية قبل أن يباشر عمله معهم.
هذا الأربعيني في سجن مولون بنظارتيه وشاربه الخفيف، والذي أكد وألح على ذلك أنه ليس يهتم سوى بنكاح النساء. يرى أنه وقد وصل إلى ظلمة السجن قد قطع كل علاقاته مع اللواتي عرفهن في الخارج أي عالم الحرية الرحب. إذ بالنسبة إليه ليس يجدي أن يحفظ ودا ليس يدرك إلى متى؟
قال بكثير من التأثر أنه نكح نزيلا شاركه زنزانته بعد أن راوده هذا الأخير وأراه مجلات وكتب جنسية. حتى أنه منح له صورة أخته عارية ودعاه إلى أن يستعملها متى وكيفما يشاء خاصة في استمناء جميل.
هذا الرجل تعرض لاضطهاد ما، لم يعد يدرك ماذا عليه أن يعمل متى انعتق من السجن وعاد إلى حياته. من سيكون؟ هل سيتجه نحو الرجال أم نحو النساء كما كان في سالف عهده؟ ليس يستطيع بعد أن يجيب ويقرر ذلك.
دون أن أحيط بكل تفاصيل الفيلم أجد أنه قد طرح تحديا كبيرا للسلطات التي واصلت ضبط محرم الجنس داخل السجون وإن كان ميشال فوكو في سبعينيات القرن الماضي قد ناضل ضد كثير من خروقات السجن وقد عرفت السجون الفرنسية سنة 1974 تمرد نزلاء السجن وأسفر ذلك عن سبعة قتلى وكثير من الجرحى داخل الحبس.
أبعد من مشكلة الجنس فإن السجن في نظري فكرة عقاب سيء فاقت كل أشكال العقاب التي خطرت في الأساطير لدى القدماء. الذي يخرج من السجن يكون مشتتا ومنزوعا من أرض ليس يجدها أبدا، يكون متشظيا من الداخل. ماذا كان هدف السجن إذن؟ لست أدري. فإن كان هدم الإنسان وطمس إنسانيته وكسر كل استقامة ممكنة لنوازعه الحية فقد أفلح السجن في ذلك.
الجنس ما يزال محرما فظيعا في السجن الكبير: العالم. ناهيكم عن السجن الضيق الصغير.
في سجون quot;الجمهوريةquot; الفرنسية كوارث أخرى. مثلما في سجون أنظمة العالم أغلبها ضرب بعرض الحائط بكل مواثيق حقوق الإنسان الدولية.
[email protected]