مقامُ المواطنة، هوَ المفترضُ كونه الجامعَ، الأهمّ، لجميع مقامات الوطن. والمواطنة، في أيّ مكان وزمان، ليستْ هِبَة ً من حكومةٍ، أو مكرمة ً من حاكم؛ بل هيَ حقّ طبيعيّ مُكتسبٌ، قطعاً، لكلّ مقيم في البلد المعيّن، وبغض النظر عن قِدَم أو حداثة عهده فيه. غنيّ عن القول هنا، أنّ إتفاقية quot; جنيف quot; لحقوق الإنسان، قد أبرزتْ حق المواطنة ومنحته الترتيبَ الأنسبَ في موادها. إنّ الإعتراف بهذا الحقّ، أو التنكر له، هوَ الفيصلُ في قضية إضفاء الشرعية على نظام ما، في عالم اليوم. لا غروَ، إذاً، أن تحترم الدول المتحضرة، مشرقاً ومغرباً، حق المواطنة لجميع أفراد بلدانها، فيما تتلاعب به تلك الدول المتخلفة، المبتلية بأنظمة مارقة، لا شرعية لها دستورياً وقانونياً وأخلاقياً: النظام السوريّ، هوَ أحدُ تلك الأنظمة، الموصوفة. لا مكان هنا للإسهاب في لاشرعية هذا النظام، فهيَ مسألة ٌ بديهية، ومن الوضوح حدّ أنّ مسؤوليه وأبواقه لا ينكرونها. ما يهمّنا، في هذا المقام، هوَ التأكيدُ على أنّ سلطة ً فاسدة كهذه، تشبه شجرة ً نخرة لا يؤمل منها سوى الثمار المرّة. وقضية المحرومين، الكرد، من حق المواطنة السورية، كانت من ثمار السياسة الشوفينية للسطة البعثية؛ قضية إنسانية، قبل كل شيء، لا مثيل لمأسويتها في عالمنا المعاصر؛ من حيث حجم ضحاياها والتاريخ الطويل، المستمر، لمعاناتهم.

ربّ دَعيّ، في مدافعته عن البعث، لديه مُجاهرة الإدعاء بأنّ تلك القضية، الموسومة، هيَ من مخلفات ما يُعرف في التاريخ المعاصر لسورية بـ quot; عهد الإنفصال quot;. إلا أنّ جوهرَ القضية هذه، الإثنيّ، يشيرُ بإصبع الإتهام إلى القوى العروبية، من ناصرية وبعثية، التي إفتعلتها آنئذٍ عطفاً على الأحداث الناشبة في عراق عبد الكريم قاسم؛ ونعني بها، الثورة الكردية التي قادها ملا مصطفى بارزاني. ففي مثل هذه الأيام من عام 1962، وبعدَ تحريض إعلاميّ، سافر، عن quot; التسلل الكرديّ quot; من جنوب تركية إلى شمال سورية، جرى إحصاءٌ إستثنائيّ في محافظة الحسكة، تمّ بموجبه سحب الجنسية السورية من عدد جمّ من مواطنيها الكرد، حصراً؛ ممن يناهزون اليوم الثلاثمائة ألف نفس. وإحالتنا مُسببَ المشكلة، كما أوردناه آنفاً، إنما لحقيقة أنّ تلك القوى العروبية، هيَ من كان لها فعالية التأثير في السياسة والجيش، بعدما كان الحكمُ الوحدويّ، البائد، قد حطم القوى السياسية الاخرى، من شيوعية وقومية سورية وإسلاموية. ويدعم هذه الحقيقة، ما كان من الإنقلاب العسكريّ الذي حصل بعيدَ خمسة أشهر من تاريخ الإحصاء المذكور، وأطاح فيه البعثيون وحلفاؤهم الناصريون بالحكومة الإستقلالية السورية، (الإنفصالية). حقيقة، يدعمها أيضاً إعلانُ النظام الجديد، الإنقلابيّ، عن بطلان كل ما أصدره العهد السابق من قوانين، بإستثناء قانون تجريد المواطنين الأكراد من جنسياتهم السورية؛ والذي جرى تنفيذه فعلياً فيما توالى من الأشهر والأعوام.

لم يكتفِ البعثيون بتنفيذ نتائج ذلك الإحصاء، الإستثنائيّ، وإنما عاضدوه بسلسلة من القوانين والإجراءات الشوفينية، غير الشرعية، والتي هدفتْ إلى مرمىً وحيدٍ؛ وهوَ إفراغ منطقة شمال سورية من مواطنيها الكرد، أو على الأقل، جعلهم أقلية لا وزن لها ولا تأثير. فلا ينكرنّ أحد أنّ تلك المنطقة، الموسومة، في غاية الأهمية إستراتيجياً؛ لوقوعها في المثلث السوري العراقي التركي، فضلاً عن أهميتها الحيوية بالنسبة لإقتصاد البلاد؛ إن كان لجهة النفط أو الزراعة أو الماشية. آفة البعث، الشوفينية، فيما يخصّ الموقف من ملة الكرد وغيرها من المكونات الأثنية، السورية؛ هكذا آفة، ما كان لها إلا أن تتماهى مع أختها، الطائفية. فمنذ إنقلاب حافظ الأسد، بمستهلّ سبعينات القرن الماضي، وهذا البلدُ محكومٌ من عصبةٍ عسكرية وأمنية، متجانسة من حيث خلفيتها الريفية / الطائفية؛ عصبة مافيا، جعلتْ من خلفيتها تلك، الموسومة، ما يمكن وصفه بـ quot; الحرم المقدس quot;، المضروب عليه نطاقٌ محكم من المحالفات المعقدة؛ السياسية والتجارية. منذئذٍ، أضحتْ البصمة الطائفية، الخفية أو العلنية، تصِمُ مسلكَ النظام الأسديّ داخلياً وخارجياً: فعلاوة على الإصرار على حرمان ذلك العدد الهائل من كرد سورية من حق المواطنة، وجعلهم بلا خيار آخر غيرَ الهجرة من موطن آبائهم وأجدادهم؛ فقد تمّ إفراغ هضبة َ الجولان من مواطنيها الشراكسة، إثر لعبة حرب الأيام الستة ـ المعروفة التفاصيل ـ ومن ثمّ دفعهم للهجرة شبه الجماعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما إنتظروا طويلاً وعود الحكومة بإعادة إعمار مدينة القنيطرة quot; المحررة quot; وريفها. كما ورفض ذلك النظام تجنيس الأخوة الفلسطينيين، السوريين واللبنانيين، وبحجة واهية، غاية في السفاهة: وهيَ quot; الحرص quot; على حقّ العودة إلى فلسطين؛ وكأنما إخوانهم في الأرض المحتلة والشتات، المجنسين، قد تنكروا لذلك الحقّ أو لحقوقهم الاخرى، المشروعة ؟؟

لقد تلاعبَ الأسدُ الأبُ بالمسألة الكردية، وبأسلوب غاية في الدهاء والخبث: فمن الجهة الإقليمية، جعلَ سورية مأوىً للمعارضة الكردستانية العراقية، موفراً لها الدعم اللازم بوجه منافسه البعثيّ، اللدود، في بغداد؛ وكذلك الإهتمام بأكراد تركية، على خلفية خلافه آنذاك مع حكومة أنقرة، برعايته لأقوى أحزابهم وإسناده وحتى تأمين قواعد عسكرية لمقاتليه في البقاع اللبناني؛ قبل أن ينقلب على هؤلاء وأولئك، إثر تغيّر ظروف لعبته وشروطها. أما عن الجهة الاخرى، الداخلية، فواصل النظام الأسدي السياسة العنصرية، الموجهة ضد كرد البلاد؛ بل وضافرها بزرعه لمناطقهم، الخصبة، المترامية في شمال شرق البلاد، بعشرات المستوطنات التي إستجلب لها البدو المعروفين بـ quot; عرب الغمر quot;؛ نسبة لمناطقهم، الأصلية، المغمورة بمياه سدّ الفرات، المستحدث آنئذٍ. وها هوَ وريث العهد الجمهوري، الثوري، يسلك طريق والده، الديكتاتور الراحل؛ فيجزي الوعود لشعبه بالإصلاح والتغيير، فيما هوَ يعزز في واقع الأمر سلطته المبنية، أساساً، على طغيان الأجهزة الأمنية على جميع مناحي الحياة السورية. وبعد مرور تلك الأعوام الستة، على إستخلاف الأب القائد، هيَ ذي سلطة الإبن القائد في ذروة أزماتها الداخلية والإقليمية والدولية. وأغرب ما يتردد اليوم، بخصوص قضية المجردين الكرد من المواطنة، هوَ زعمُ أبواق السلطة البعثية من أنّ quot; السيّد الرئيس quot;، وفي كل مرة يوشك فيها على حل القضية، إذا بالقوى السياسية الكردية quot; تخرب quot; جهوده المباركة (أو نيته الصافية، بالأصح !)؛ من خلال كيت وكيت من مطالبها ونشاطاتها وتحالفاتها. كذلك طرأ تغيّر، بذات الدرجة من العجب، على quot; المبررات التاريخية quot; لتجريد الكرد السوريين من جنسياتهم، والمساقة من لدن عتاة الشوفينية البعثية وأضرابهم: فبعد أن كان التاريخ، المزعوم، لحلول أولئك الكرد في إقليم (الجزيرة) يعاد إلى المرحلة التي أعقبت إنهيار ثورة كردستان الشمالية على أيدي الجيش الأتاتوركي (عام 1925)؛ إذا بهم يقدّمون ذلك التاريخ، فيزعمون تارة ً أنهم قدموا إثر إستقلال سورية في أواسط الأربعينات؛ وتارة ً اخرى، يخرج احدهم ليدعي بأن أولئك الكرد، المهاجرين ـ كذا ـ قد تسللوا إلى البلاد عشية إجراء الإحصاء الإستثنائي في تشرين الأول عام 1962: أيْ أنهم، بهذه الحالة، قد حضروا من تركية وهم يحملون الجنسيات السورية، فتمتْ مصادرتها منهم على الحدود.. !!

[email protected]