خبران جيدان تلقيتهما حديثاً بخصوصك يا عزيزتي : الأول خبر صدور ديوانك quot;غواية البنفسجquot;، عن بيت الشعر في رام الله، مصوّراً بخطوط يدك. والثاني : خبر صدور الحكم بإعدام قاتلك المدعو أبو حمزة التونسي. خبر من فلسطين المعذبة، وآخر من أختها في العذاب: العراق.
لقد تعوّدنا ألا تأتينا من تينك المنطقتين سوى أخبار الألم والقتل والعبث المباح واللوعة. لكن ها هما خبران جيدان، برغم المفارقة المرعبة في فحواهما، يخترقان سواد الأشياء من حولنا، فيخففان عنا بعض ألمنا، ويعطياننا ولو بارقاً من أمل. بارقاً من أمل، نحن أحوج أهل الأرض إليه، في هذه المرحلة جد الوعرة وجد الحرجة من عمرنا الشخصي وأعمار شعوبنا.
لم تذهبي إلى quot;هناكquot; تماماً يا أطوار. فلا أحد يذهب إلى هناك تماماً، إلا إذا مات ذكْره في صدور أحبابه وأصدقائه ومحبيه. وأنت بهذا المقياس، باقية، أو باقٍ جزءٌ كبيرٌ وحميم منكِ في ذاكراتنا وصدورنا بل وعيوننا، نحن محبيك وأصدقائك وعارفي سجاياك الجميلة.
صدور ديوانك، الذي حمّلتِني أمانة السؤال عنه حين رجوعي من بغداد إلى غزة، عام ألفين وواحد، ها هو يصدر. متأخّراً؟ لا بأس! ولكنه صَدرَ. وتكريماً لذكراك، يصدر بخط يدكِ، في طبعة أنيقة، رغم شحّ الحال.
لقد أسعدني هذا الوفاء الشعري والإنساني، من قبل الأخوة في رام الله.
أما الخبر الثاني، ورغم أنني ضد عقوبة الإعدام بالمطلق، فلا شيء فيها، يمكن أن يبهج القلب، إلا أنني معه هذه المرة. فأمثال هؤلاء الذئاب الذين ينتسبون، زوراً وبهتاناً، إلى نوعنا البشري، لا تجدي معهم ولا يفهمون لغةً غير لغة العنف الفيزيائي، التي لطالما يبرعون في إعادة إنتاجها، كل لحظة من حياتهم وحياتنا.
لقد كنتُ أخشى أن يفلت قاتلوك المجرمون من يد العدالة. فالأخبار التي تأتينا من العراق، تقول بأنّ موطن الحضارة الأول، صار ساحة للفوضى المطلقة. وفي مثل هكذا أجواء وظروف، يسهُل أن يقتل القاتل ويهرب. وبخاصة هؤلاء المتطرفون الإرهابيون.
آمل الآن، أن يُنفّذ الحكم، قريباً، في قاتلك. ورغم أنه حكمٌ لن يُرجعكِ إلى أمكِ وشقيقتكِ إيثار، لن يُرجعكِ إلى محبيكِ وزملائكِ وعارفي فضلك، إلا أنه، أكيداً، سيعيد لهم بعض الثقة، في عدالة هذا العالم الظالم. ولسوف يُدخل إلى قلوبهم المحروقة، بعضَ ثلج العزاء.
أما السفلة القتلة الذين حوّلوا العراق، باسم الدين الجهادي، إلى جحيم خالصة، فالمعركة معهم جد طويلة وجد شاقة، وبالأخص على صعيد الفكر والثقافة. ليس فحسب، لأنهم يغتالون الصحفيين والمثقفين من أصحاب الرأي والرؤى، وإنما كذلك، لأنّ هؤلاء يُصادرون مستقبل العراق والمنطقة بأسرها، ويغتالون أجساد وأحلام أبنائه، في زمن أفضل وحياة أفضل. إنهم يقتلون الجميع : الطفل والمرأة والشيخ والشاب، وليس المثقف فقط. يقتلون حتى الواقفين في طوابير على أفران الخبز، كما أخبرني الصديق سهيل نجم، ويقتلون حتى المصلّين في الجوامع. ولذلك، على المثقفين العراقيين، والعرب جميعاً، أن يقفوا لهم، ولأطروحاتهم الظلامية، بكل وضوح، ودون مواربة. لأن المثقفين، في العراق وفي كل بلد عربي، هم المنوط بهم، تاريخياً، أن يتصدّوا لهؤلاء الإرهابيين، من حَمَلة بيارق التخلف الدهري، ورافعي رايات العَدَم الظلامي.
إنّ خطر هؤلاء على المنطقة ومستقبلها، لا يُمكن أن يُقارن بغيره من الأخطار السياسية والاجتماعية. إنهم السرطان ينخر في أجسادنا وأرواحنا، وكل مثقف يصمت عنهم، هو شريك لهم.
فإيّ دين هو هذا الذي يقتل المصلّين من مذهب آخر وهم بين يدي الله في النجف وغيره؟ وأي مقاومة هي هذه التي تقتل طالبي الخبز على أبواب الأفران من فقراء ومعدمي العراق؟ كلا ليس هذا هو الدين وليست هذه هي المقاومة، بل إن هذا هو الإرهاب والتخريب. هذا هو الإجرام بعينه. إجرام محترفي إعادة إنتاج التخلف، أينما ذهبوا وحيثما كانوا. وهؤلاء هم الخطر الحقيقي على المنطقة برمتها.
نحن مع شعب العراق ومع خيارات هذا الشعب. فهو أدرى وأعرف منا بمصالحه وفائدته. ويكفيه ما عانى من ظلم طاغيته المخلوع، طوال ثلاثين سنة رمادية. إن من حق العراق أن يرتاح. ومن حق شعبه المظلوم المقهور، أن يتنفس هواء الحرية الطلق، بعد أن كاد أن يختنق.
أما أنتِ يا عزيزتي أطوار، فربما آن لروحك الرقيقة أن تستريح قليلاً الآن.
أما نحن، فأمامنا مشوار طويل، أطول من أعمارنا المحدودة. لن نرتاح، ولن تغفو لنا عين، قبل أن نرى العراق علمانياً ديموقراطياً : قبل أن نرى المنطقة كلها، تذهب إلى خيار العلمنة، فتعيد الاعتبار إلى حقوق إنسانها، كفرد يتمتع بكامل مواطنيّته، بعيداً عن سؤال المذهب والجنس والعِرق واللون.
لقد سبقنا العالمُ، قروناً في هذا المجال. وبدل أن نلحق به، يأتي إرهابيو الإسلام السني، بجميع ألوان طيفهم، ليرجعونا إلى كهوف العصور الوسطى، وإلى قوقعة لا أكسجين فيها ولا ما يقيم الأود. إرهابيون يبرعون في إعادة إنتاج التخلف، في رياض الأطفال، وفي المدارس، وفي الجامع والجامعة، فكيف لنا أن نغفو قليلاً وأن نرتاح.
باسمك يا أطوار الغالية، وباسم كل ضحايا العنف المذهبي والديني والعنصري في هذه المنطقة، نعدكِ أن نواصل طريقنا، لا رسوليون، بل علمانيون، عقلانيون، تنويريون، نذهب إلى المستقبل، ولا نلتفت إلى الماضي، الذي يجرنّا إليه فقهاء الظلام هؤلاء.