فرضت التحولات التي عاشت في كنفها المجتمعات المتقدمة، اتجاها حاسماً نحو بناء فكري جديد، قوامه تأسيس معرفة للوجود تأخذ في حسابها العناية بالتاريخ الكلي. أي البحث في الأصول المعرفية لكل تقدم مر على البشرية، من حيث الأصل الوجودي. وكان هيغل قد عمل على ربط العامل الزمني بالكينونة، على اعتبار أن الزمن كفيل بإظهار الروح،

التاريخ والعالم

التاريخ والتنوير

التي جعل منها الحافز الأصلي في تحريك التاريخ. فيما عمد إلى الربط بين الفكر والطبيعة والتاريخ انطلاقا من فكرة أن العالم من صنع الروح، أما الواقع فأنه لا سبيل إلى تفسيره إلاّ من خلال الفكر. فالعالم ما هو إلا إفراز للفكر. وإذا ما كان الواقع يرتبط بالفكر بوشائج الوجود، فانه يتعين علينا الإقرار بأن المفاهيم ما هي إلا تعبير عن الواقع الفعلي. وهكذا يكون الفكر هو الوجود، والوجود هو الفكر. وعلى أساس هذه العلاقة، تمثلت فلسفة التاريخ بإبراز الوجود في إطار التوافق مع الفكر. من هنا كان التمييز والفصل في التعامل مع التاريخ عبر تمثلين ؛ الأول ومستنده التاريخ الوصفي الذي يعنى بالجانب الخارجي من الظاهرة، حيث تكون الأهمية القصوى للحدث، وارتباط الفاعلين التاريخيين به، إذ يتم ربط غاية التاريخ بالغايات التي ينشدها أولئك الفاعلين. ومهما كانت النظرة إلى quot; التاريخ الوصفي ) إلا أنه يتبقى حاملاً بين ثناياه الكثير من المعطيات الفكرية والقيم الأخلاقية. أما التمثل الثاني فيكمن في quot; التاريخ بتأملي quot; الذي يحاول رسم صورة عالمية موحدة شاملة عن العالم، كسبيل للخروج بمعنى تاريخي. ومهما كانت تطلعات هذا الشكل التاريخي وغاياته، إلا أنه يبقى يدور في فلك الحاضن التاريخي الأول الموسوم بالوصفي. فالمؤرخ لا يستطيع الخروج من تقمصا ته الذهنية والفكرية والمعرفية، ليجردها في طابع شمولي حقيقي. وإذا تطلع التاريخ التأملي نحو الطابع الأخلاقي بلوغاً لاستخلاص العبر. فأن التحقيب الزمني يكشف وبجلاء عن تهويمات الإسقاط التاريخي، على أساس أن لكل حقبة ظروفها وملابساتها وإشكالاتها على مختلف المستويات في المعنى والإرادة والسياق والرهانات. وعلى هذا لايمكن quot; للحظة التاريخية quot; أن تتكرر في مسار التقدم الزماني. كما أن الولوج في سياقات تاريخ التاريخ للتحقق من صدق الرواية التاريخية من خلال ممارسة النقد عليها، لا يجعل منها سوى إغراق في التأملات الذاتية، النائية بعيداً عن المسار التحولي الذي ينشده التاريخ. أما التطلع نحو دراسة جانب بعينه في تاريخ التطور الفعلي والجمالي والأخلاقي للإنسان،مثل تاريخ الموسيقي أو تاريخ المسرح، أو تاريخ الدين، فانه يفصح عن توجه نحو الاهتمام بالتاريخ الشمولي الذي تنشده فلسفة التاريخ.
وإذا كانت وشائج التاريخ وأمشاجه المعرفية، قد أنبنت على آليات السرد والتحقيب الزمني، فان البعد الأنطولوجي الذي يهدف إلى بلوغ الحقيقة، تمثل فيه تشكله الأزلي، باعتبار أن الحقيقة ثابتة لايمكن لها أن تخضع لأطوار الزمان وتبدلا ته. وهنا سنكون في مواجهة حاسمة ما بين التاريخي الذي يستند إلى الماضي، حيث يتمفصل الحدثي بمكنون ما يقدمه السرد. والفلسفي الذي يستند إلى العقل من أجل الوصول إلى الحقيقة. وعبر إجراءات النقل والتحويل المنهجية في المعاني تكون، فلسفة التاريخ قد أرست فكرة العقل الذي يحكم مسار التاريخ، وأن التاريخ الشمولي إنما يقوم على فكرة فاعلية الروح في صنع التاريخ هذا مع التأكيد على ارتباط مفهوم العقل بالغاية المطلقة، ذات التجليات المتعددة والطبيعة الثابتة . وإذا كان التاريخ بمثابة الحامل المعرفي للمكنون العقلي عبر تجليات الفكر، إلا أن العقل المقصود هنا ليس المنسوب إلى الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات أو الدول، فهنا سيكون بمثابة لحظات تاريخية.
فا التاريخ العام ينشد جميع اللحظات التاريخية عبر الحامل ((الأفراد والمؤسسات )) عبر مكنونها العقلي وصولاً إلى المعنى التاريخي ((المطلق )) في دوالية الحضور المستمر غير المنقطع. فالعقل حافز والطريق إلى بلوغ المطلق يتم عبر التاريخ المتدرج.
يركز quot;نيتشه quot;ت 1900 معنى الحقيقة في العالم الحي، رافضاً في ذلك عالم المثل، على اعتبار أن القيم الشاخصة، ما هي إلا تمثلّ لإرادة القوة، والتي تمثل في محتواها quot;ماهية quot; الكائنات، فالإرادة لديه بمثابة الأداة الأساسية التي تؤكد الذات والقدرة والتفوق. وكان قد شدد على أن ظهور الإرادة، يتجلى في الجسد أولا، أما العقل فأنه مجرد وسيلة. فالغريزة قوة خلاقة مبدعة، في حين أن الوعي قوة نقد و سلبية. وإذا كانت quot;الإرادة القوة quot; تمثل ماهية الكائن، فأن (العود الأبدي للعين نفسه ) يمثل المظهر الذي تبدو عليه الإرادة . فاللحظة التي يعيشها الكائن مسؤول عنها باعتبار تماهيها مع اللحظات العائدة. هذا بمعنى أن الإنسان الأعلى، هو القادر على الخلق والإبداع في مجال القيم والأخلاق والذوق، وهو القادر على أن يعيش لحظته وله القدرة على استعادة هذه اللحظة (أبدياً) فالإنسان كانسان لا بدله من الخروج عن أخلاق القطيع، والتطلع ذاتياً نحو صنع حياته وقيمه لكن هذا كله لا يكون بالمطلق. إذ ميز quot;نيتشه quot; بين نموذج الإنسان الأعلى المسؤول، والإنسان المتخاذل والذي حمله المسؤولية أيضا، في مواجهة اللحظات المتشابهة التي ستواجهه.
لقد عاد quot;نيتشه quot; إلى أصول الشعور التاريخي الذي يعود على نفسه في المجال الأوربي. من خلال رفض النقل والدعوة إلى التحول العميق. وهو لم يتوان عن توجيه التهمة إلى تاريخ الفكر الغربي برمته،على أنه قد تأسس بناء على خطأ معرفي. حتى أعلن رفضه للنزعة العقلية وأشكال التصور والربط بين الفكر والواقع. بل أنه عكف على تحديد المقدسات الذهنية التي درجت عليها العقلية الغربية، داعياً للكشف عنها وهدم محتواها، إن كان في ؛ الأخلاق،السياسة، الفلسفة. فقد صبّ جام غضبه على أوهام المبادئ الفلسفية، مبتدءاً فيها بالمبادئ الخاصة بالفكر من ؛ الذات، الموضوع، الجوهر، العلية، الغائية، الشيء.واسماً إياها بأنها الوسائل التي تفيد التملك. وإذا ما كانت quot;الهوية Identity أساساّ في الفكر، فأنها ليست أساسا في الوجود، على اعتبار التغير والصيرورة الذي يحتويه الوجود. وبما أن مظاهر العقل مختلفة ومتمايزة،فان الحديث عن العقل الواحد يعد تهويماً وإسفافاً. فالوجود يتناقض مع العقل، لأنه يدعي معرفة كل شي، وفي هذا يكون خطراً على الحياة. أما الحديث عن العقل الكلي، فهو أمر لايمكن أن يحظى بالقبول،على اعتبار أن التجسد العقلي، لا يتبدى سوى بجزئية محددة ضمن الموجود الإنساني الذاتي. وعليه خلص quot;نيتشة quot; إلى الفكرة المستندة. إلى أنه لايمكن الإيمان بالوجود الثابت، بل الأصل يكمن في التغير والصيرورة.
الوجود ــــ الحياة ـــــ إرادة ـــــ إرادة القوة ـــــ القوى الفاعلة تؤكد اختلافها.
فالخير يصدر عن القوة، والشر يصدر عن الضعف، أما السعادة فأنها تمثل مقدار تزايد القوة ونموها. فلا سلام ولا فضيلة، بل الحرب والمهارة. وعلى هذا فان القوة هي جوهر الوجود، وهي المفضية إلى تفسير كل شيء في الوجود، ومعرفة الوجود إنما تتم عن طريق الشعور بالحياة والقوة. وكل قيمة يمكن أن يصنعها الإنسان في الحياة والإرادة والعقل والصيرورة إنما تكون بمثابة الوجود.
وضع quot;نيتشه quot; بديله للمعرفة والحقيقة، استنادا إلى التأويل والتقييم. فالتعامل مع الظاهرة يبقى غير واضح باعتبار تجزؤ المعاني. وعليه لابد من التقييم الذي سيعمل على تحديد القيمة، إذ لا توجد (أسبقيات ) بين الفكر والحياة، بقدر ما توجد وحدة عضوية بينهما. وبهذا يكون قد وجه قطيعته مع المثالية التي أكدت على الفصل بين الحياة والفكر. فالمثالية حسب تصوره، لا تحمل دلالة أو معنى، باعتبار خضوعها للقيم الجاهزة التي جعلت منها (عليا) بدءاً بالقياس السقراطي المستند إلى معيار الفعل، وصولاً إلى هيغل الذي يقوم على أساس quot;الوعي بالذات quot;. وهكذا يرفض quot;نيتشه quot; ؛ علم الكائن من حيث هو كائن الأ نطولوجيا،ليقدم بديله النقدي المستند إلى ؛( قيمة الأصل وأصل القيمة )الجينالوجيا، حيث البحث عن المعنى والدلالات من خلال التقييم المبتنى على التأويل. والهدف هنا لا يقوم على أساس العناية بالاعتبارات العقلية، قدر تطلعه نحو فكرة quot;الإنسان الأعلى quot;.
الوجود ــــــــ تأويل ــــــــ المعاني quot;مجزأة quot;.
الحياة ـــــــــ تقويم ـــــــ الدلالة quot;قابلة للتحديد quot;.