quot;حتى مع تواطؤ العواصف أريد أن أخلق لي وحدي كائنات حيّةquot; (أندريه بروتون)

المقال الثاني

وسط بُوَم ساجية يتطارفها الانحطاط من كل مكان، لم يتبق للعين سوى شواظ التطلع إلى شاطئ مهجور، دائرةً في محجر التخلي والتنحي بعيدا عن هذا وذاك... مجتمعاتنا تعيش

المقال الأول
سيرة ركودها. ونحن، المغتربين هنا، نحيا حركة مجتمعات تاريخية لا نظفر بها إلا ما يذكّرنا بأننا مبتورون. ذلك لأن quot;لغتنا قد صودرت، والبعد التاريخي الذي كان يغذّي معرفتنا قد استنزف نسغُهquot; (أدورنو). ومفاد هذا هو أن كل ما نكتبه يتضمن، بالضرورة، تيها في بيداء اللامجدي؛ وتشكيكا بقدرتنا على تحريك ساكن تاريخي.

مرحبا بك أيها العجز
في غد الليل الأدهم هذا
مرحبا بل للحظة الانبهار هذه
في مُقل الظلام
لسنا أبطال الثورة؛ فالثورة ضلّت طريقها أصلا:
حيفٌ ألمّ بها.

في مجتمع عنتري، أنت فضيلة أيها العجز! ذا هو رحيقها يدنّ موقفا يستطيب بعزلته. تعال نلزم المدامة في جوف القصيد. فلسنا الواهمين أن تاريخا سيعيد الاعتبار لمصداقية ما نقول. فالتقول، وهو يرتع في منتزه الكلام، تباغته، دوما، طيور انعقاد اللسان.

مرحبا بك أيها العجز المنتشر على صفحة أعماقنا
حاصرا كل الأسئلة في حدقة شاردة الذهن.

هكذا كان
وهكذا سيكون:
للصحراء أبوابُها الموصدة.

ولكن تكسير خطاب، يستولي عليّ، ما لي عنه وعيٌ. فهو quot;جاثم رغم انغلاقه، ماثل رغم خفائهquot;.
كم من مرة تعقبت أجوبة فارة حتى شرفة الاغتراب، فوقعت عيناي على الشارع:
كان مظلما يقطعه أفارقة بلا أسنان!

ومع هذا فالكثير من الأسئلة قد اُجترِحَت، في منعطفه:
-ماجدوى تنبيش ماضي أمّة قائمة على إلغاء المرجع.
-لمَ العثور على أعمالِ أسماء مغمورة، وتعهير الاكتشاف هو من طبيعة حتى المقربين إلينا
-أنّى يمكن استجداد نص لمضاهاة نصوص سابقة هي نفسها لم تستطع تحقيق ذاتها
-أية حقيقة تستحق عناء حصادها عبر تفنيد أكاذيب عالم، الكذب عينه تبرأ منه
-لمَ عناء الروح في استلفات وعينا السياسي عبارات مستفصحة ومستفضحة في وجه ثوريين لا يستحقون حتى نعتهم بالرجعية.
-التفكير بمَ والنسيان ذاكرة تحددها علاقات قوى: إعلام مَن ضد مَن.
-من الذي يقرأ، فعلا، فيتجاوز أي يحقق ما نكتبه بقراءة واحدة.

إن الاشكالات التي يفتحها كاتب حر، من باب quot;جدل التنويرquot; المغلق أساسا، لن يتفتقها أحد من الآن وصاعدا إلا وهو نفسه مغتن بلبها في ضواحي وحدته حيث كلمة الأمر هي أن يبقى هذا الحر يقظا وواع بسيرورة quot;الخارجquot; دون أي وهم بتغييره:

هكذا ينفتح النهار من قرار الظلمات. ذلك أن عيب الظلال السوداء هو أنها لا تحجب النور بل تشفّه انسلالا جديدا. ألم يقل عالم اجتماعي أميركي اسمه الفن غولدنر: quot;هناك توتر متصاعد لا سبيل الى اختزاله، بين شغف بالاستسلام لالتزاماتنا الاجتماعية وكون الموت قادرا على إزاحتنا، في اية لحظة، من هذه الاستلزامات نفسها. كليا وإلى الأبد. أحيانا، دائمية الموت التي لا يمكن تصورها، يصير ممكنا تصورها. لربما تصير استلزاماتنا الاجتماعية الوطيدة، على حين غرّة وجذريا، سرابا فتكون منّا مكان لعبَ طفولتنا. ثمة حالات نلمح فيها أن الكذب من أجل الفلوس، أو القيام بأعمال عنف من أجل السلطان، أو الحاق الألم من أجل الحب، كل هذه علامات غير صحية كما هو الحال عند قتل خصم لمجرد الانتصار عليه في لعبة الشطرنج. ومع هذا، فإذا ابتعدنا أو انسحبنا من الالتزام الشغوف، أو لم نأخذه بجدية، فسنكون مسلمين مصائرنا لسيطرة هؤلاء الذين quot;همquot; يقومون بهذا كله. فيتوجب علينا، إذن، أن نتورط لأن quot;ضرورة مؤلمةquot; تجبرنا، لكن علينا أن نتورط بفرح إلى حد أن نصارع ضد وجود ليس إنسانيا، ذلك أننا، في الصراع هذا، نكتسب معنى مَقدُراتنا وشأننا، فنساعد الآخرين على أن يقوموا بمثل هذا الأمرquot;.

زمن الدائرة يلعق جثته! الشتاء استقر في روح العالم. لا شيء في الأفق سوى ناطحات سحاب، موتى يدفنون أحياءهم ومجتمع يئن مرحا! quot;علينا أن نأكل ثانية من شجرة المعرفة حتى نرجع إلى حالة البراءةquot; (كلايست).

في عالم عربيته تقاسي حرمان معنى، صرير أية تجربة كتابية فعلية، سوف لا يُيمّم إلا شطر اللافائدة، شطر أمواه اللفظ المعتمة حيث أجنحة اليأس quot;البارع النكتةquot;، ترفرف فوق كلس الانجاز.
يجب علينا أن نتحرر من لغتنا التي كانت رمزنا التحرري وأخذ يتكلمها هذا اللص وذاك النذل الواشي، ويتشدق بها أولئك الذين هم عين ما كانت لغتنا المُغتصَبة تخشى أن تصير وسيلتهم، أن نتخلص، محاكاة لجورج حنين، مما صار رغم انفه أكاليل غار الجلاوزة والمتصيدين في مياه الشقاء العربي، عن كل لغة، كانت ذات يوم لأحرار، واضحت اليوم، للعاملين على دبغ الإنسان ضمانة. (quot;مهماز النقطةquot;، باريس 1984)