لم يختلف العرب والعراقيون على حاكم عربي كما اختلفوا حول تقييمهم لصدام حسين، سواء في فترة وجوده في السلطة أو بعد الإطاحة به واعتقاله، ثم في محاكمته وصدور الحكم عليه بالإعدام شنقا يوم الأحد الخامس من نوفمبر لعام 2006، فهل يستحق صدام الإعدام الذي صدر بحقه وبعض معاونيه؟. هذا الموضوع يحتاج إلى عرض لأهم المحطات والأعمال في حياته في أهم ميادينها العراقية والعربية والفلسطينية، كي نخلص بمنطق وموضوعية للجواب، بعيدا عن الهتافات والافتراءات، خاصة أن حياته وممارساته ما زالت ماثلة للعيان وشهودها بالملايين أحياء، أي أنه لم يمر عليها مئات من السنين كي تحتاج للدراسة والتحقق من الوثائق، فما هي أهم أعمال وممارسات صدام حسين في هذه الميادين الثلاثة:

أولا: في الميدان العراقي

بدأ صدام حسين فترة حكمه بالمجزرة التي ارتكبها عام 1977 ضد رفاقه في القيادتين القطرية والقومية، بتهمة التآمر لحساب النظام البعثي السوري، بعد فشل اللعبة التي أطلقوا عليها (ميثاق العمل القومي) وكان المقصود به الوحدة بين قطرين عربيين يحكمها نفس حزب البعث العربي القومي الاشتراكي، وأعقب ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية حتى انهيار نظام صدام أي قرابة ثلاثين عاما، وفي مرحلة ما كانت العلاقات عبر السيارات المفخخة والتفجيرات التي ينفذها كل نظام في قطر النظام الثاني. وبعد الاستيلاء على السلطة وإقصاء الرئيس أحمد حسن البكر، أدرك صدام أن سلطة آلت إليه عبر الانقلاب والقتل والتصفيات الجسدية لا يمكن أن تستمر له إلا بنفس الوسيلة، لذلك أشاع الرعب والخوف في الحياة اليومية العراقية بطريقة لا يمكن وصفها إلى من قبل الشعب العراقي نفسه أو من العرب الذين عاشوا و عملوا في العراق في تلك الفترة، فقد كانت أية إخبارية من مجهول عبر الهاتف لأي فرع مخابرات ضد أي مواطن، تؤدي به إلى الموت فورا.

أما جرائم القتل الجماعي التي عرفت باسم الأنفال فلا يجادل فيها إلا فاقد للضمير والعقل والشرف، فضحاياها بعشرات ألآلآف، والمقابر الجماعية واستعمال السلاح الكيماوي مما لا يمكن إنكاره، وكان العراقيون يتحدثون فيها في زمن حكم صدام دون أن يجرؤوا على الصوت العالي أو الحديث عن دفن موتاهم، ومدينة حلبجة الكردية شاهد تاريخي على هذه الجرائم التي حاول صدام أن يضحك على عقول البسطاء والجهلة بإعطائها تسمية من السورة رقم 8 من القرآن الكريم المعروفة باسم (الأنفال) التي جاء في آيتها الأولى (يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين). فهل هناك افتراء على الله ورسوله أكثر من هذا؟ . تخيلوا لو كل مجرم استعمل أية من القرآن الكريم غطاءا لجرائمه؟. ومن الجرائم التي ارتكبها في بداية شنه الحرب الظالمة ضد إيران قيامه بترحيل جماعي لعشرات آلآلآف من العراقيين بحجة أنهم من أصول إيرانية وتم رميهم على الحدود العراقية الإيرانية وغالبيتهم أحياء، يشهدون على هذه الجريمة، وكانت سيارات السيطرة العسكرية والمخابرات العامة تأتي ليلا ونهارا ويحشرون فيها المواطنون العراقيون الذين بحقهم وشاية ما، ويتم إبعادهم بشكل لا إنساني إلى الحدود الإيرانية، فهل هناك من يستطيع أن ينكر هذه الجريمة؟ . ومن يستطيع أن يبرر الحرب ضد إيران التي دمرت الأخضر واليابس في البلدين على مدار تسعة أعوام؟.

وضمن الملف العراقي هل يستطيع أحد أن ينكر الرعب والفسوق الذي أشاعه في المجتمع العراقي ولداه قصي و عدي، ومن يتخيل التعذيب الذي كان يتعرض له أفراد المنتخب العراقي لكرة القدم إن هم خسروا مباراة؟. و حياة صدام نفسه هل تليق برئيس مؤمن يضع كلمتي (الله أكبر) على العلم العراقي؟. من يصدق تطليقه للسيدة سميرة الشهبندر من زوجها كي يتزوجها؟. من يتخيل قتله لزوج ابنته رغد المدعو حسين كامل؟. ومهما كانت جريمة حسين كامل ألم يفكر في حفيديه الطفلين بعد أن يصبحوا أيتاما على يد جدهم؟. الم يكن بمقدوره الحكم على حسين كامل وشقيقه بالسجن المؤبد؟. و الأدهى من ذلك دفاع ابنته رغد عن جريمة والدها هذه بقتل زوجها!. تنسى مئات ألاف القتلى العراقيين من الممكن اعتباره تأييدا لسياسة والدها، ولكن الدفاع عنه إزاء قتله لزوجها والد طفليها، لا يستدعي إلا السؤال: أي ضمير..أي شرف لدى هذه العائلة التي ما زالت تتغنى و تدافع عن مجرم بهذه العلامات التجارية الفارقة المميزة المسجلة باسمه في ميادين القتل والغدر والسحل والموت؟. ولماذا نستغرب هذا من عائلته والمقربين المنتفعين، إذا كان هناك ألف وخمسمائة محامي عربي تطوعوا للدفاع عنه، وعلى رأسهم وظهرهم فضيلة الدكتورة عائشة بنت طاغية الجماهيرية العربية الليبية الديمقراطية الشعبية العظمى (هذه ليست نكتة ولكن هكذا اسمها في الكتاب الأخضر).

أما ملف الفساد الصدامي وتبديد الثروات العراقية على قصوره التي فاقت العشرات، فقط تم بناء عشرة منها في زمن الحصار بين عامي 1991 و 2004، ولم تنشر صورها وما بداخلها إلا بعد سقوطه غير المأسوف عليه. أما فضائح شرائه لذمم الكتاب والصحفيين والسياسيين التي عرفت باسم (كوبونات النفط) ما عادت سرا ولا يمكن إنكارها، ويكفي أن بعض من وردت أسماؤهم في تلك القوائم قد اعترف بها، ومن لم يعترف نسأله: من أين لك الفيلل والسيارات الفخمة ونحن نعرفك منذ أربعة عقود ومجموع رواتبك لو وفرتها كلها، لا يمكن أن تشتري سيارة واحدة!.

هذا غيض من فيض من جرائم صدام وتعدياته في الميدان العراقي، ويحتاج توثيق هذه الجرائم إلى مجلدات، جمعت بعضها و بالأسماء والوقائع في كتابي (سقوط ديكتاتور) الذي صدر عام 2004 عن دار الأنصار الإسلامية في بيروت.

ثانيا: في الميدان العربي

هل هناك من سمّم أجواء السياسات العربية أكثر من صدام ونظامه؟. فهل يعقل كما ذكرت سابقا علاقات دبلوماسية مقطوعة بين نظامين بعثيين لمدة ثلاثين عاما؟ ومن يستطيع الدفاع عن جريمته الكبرى باحتلال دولة الكويت؟. تصوروا لو استعملت كل الدول العربية الغزو والاحتلال لحل مشاكلها؟. أما المدافعون عن أكذوبة عودة الفرع إلى الأصل، فهم يعرفون أنه من النادر أن لا توجد هذه المشاكل بين الدول العربية، فلماذا لا تلجأ مصر مثلا لاحتلال منطقة حلايب المتنازع عليها مع السودان؟ ولماذا لا تشن حروب لتوحيد بلاد الشام التي تم تقسيمها بمقص سايكس بيكو لعدة دول؟. وإذا كان الطاغية مقتنعا بفكرة الفرع والأصل فلماذا أقدم جيشه على حرق آبار النفط الكويتية عند دحره منها مهزوما؟. ثم أية قناعة هذه عندما يطالب بغوغائية استعداده للانسحاب من الكويت إن انسحبت إسرائيل من فلسطين!. ما هو رأي المدافعين عن الطاغية أن يطالبوا النظام البعثي السوري بإعادة احتلال لبنان والمطالبة بعدم الانسحاب منه قبل انسحاب إسرائيل من فلسطين؟؟.

ثالثا: في الميدان الفلسطيني

بصراحة شديدة: ماذا قدم صدام ونظامه للقضية الفلسطينية أكثر من أي نظام عربي آخر؟. المعلومات والأرقام تقول: لا..لم يقدم صدام ونظامه من الدعم المادي والمعنوي أكثر مما قدمه أي نظام عربي، وعلى مستوى الدعم المادي لا يمكن مقارنة ما قدمه بما قدمته دولة الكويت ودولة الإمارات العربية. ولكن صدام اعتمد على الفهلوة التي تدغدغ عواطف الجمهور الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، فمثلا ماذا تم من تنفيذ بيان صدام بدفع خمسة وعشرين ألف دولار لكل أسرة شهيد فلسطيني ؟. اسألوا اسر الشهداء في القطاع والضفة فهم أحياء بالآلآف!.
وماذا جنى الشعب الفلسطيني من إطلاقه عام 1991 لعدة صواريخ ديكورية على صحراء النقب؟ واسألوا عرب إسرائيل: هل قتلت أو جرحت إسرائيليا واحدا؟. وقد ثبت أنها كانت صواريخ مصممة خصيصا للدعاية ومحشوة بالإسمنت وقد أحدثت عدة حفر فقط في صحراء النقب، وحصلت شركة الطيران الإسرائيلية (إلعال) على تعويضات مائة وثلاثين مليون دولار، بحجة أن هذه الصواريخ ضربت قطاع السياحة الإسرائيلي، فأضرت بأرباحها. أما محاولات صدام التقرب من دولة إسرائيل فقد كتب عنها سفير العراق في الأمم المتحدة محمد المشاط، وهي معلومات من المهم دراستها لأنها توضح أن هذا الطاغية كان مستعدا للتحالف مع الشيطان كي يبقى في السلطة. ومن ضمن أساليب الفهلوة النفسية استماع صدام لنصيحة أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية البعثيين، بأن يخلط الخطاب العراقي المحلي بالخطاب القومي خاصة المتعلق بالقضية الفلسطينية، وسيرى هتاف وتصفيق الجماهير العربية، ومنذ تلك النصيحة عام 1993 تقريبا، كان صدام ينهي كل خطبه بجملة (عاشت فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر، وليخسا الخاسئون). وفي الميدان الفلسطيني لم يقصر صدام في استحداث الجماعة التي تهتف باسمه، وللمزيد من الشرذمة الفلسطينية صنع الميني ماركت المسمى (جبهة التحرير العربية)، وأعضاؤها لا يزيدون على عشرين واعرفهم بالواحد، فقد عملنا معا في الكويت وعاد بعضهم إلى غزة بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وما زالوا يصدرون البيانات وهي كل ما يستطيعونه ولا ينسون الدفاع عن الطاغية وتمجيده من حين إلى آخر.

إزاء هذا العرض لإنجازات صدام في ميدان القتل والجرائم الجماعية في العراق، والتخريب والتدمير في الميدان العربي، أعتقد أنه طاغية يستحق الحكم بالإعدام شنقا، وهذا الحكم سيكون راحة نفسية لمئات ألآلآف من أهالي ضحاياه، وسيكون درسا لكل الطغاة والمجرمين (أن الله يمهل ولا يهمل)، ويوم الخامس من نوفمبر سيضاف ليوم التاسع من أبريل، كأيام مأثورة عند أهالي الضحايا على الأقل، أما وجود معجبين بصدام ومدافعين عنه فهذا ليس جديدا ولا غريبا، فهتلر وموسولويني وفرانكو وغيرهم لهم معجبون ومدافعون، ولكن ما هو رأي وحكم التاريخ عليهم؟؟.
[email protected]