إن كل النضال الذي مارسه ويمارسه البشر عبر التاريخ، ما هو إلا نضال الكلام. فبقدر ما يحرر الإنسان نفسه مما يرزح تحت سطوته، يوسع الإنسان حدود لغته التي هي quot;حدود عالمهquot; (فتغنشتاين). وها أنّ اطلاق سراح إنسان من سجن عيني أو ذهني، ما هي إلا فك عقدة اللسان؛ حق الكلام.

***
مجتمع سياسته الاضطهاد يفسح، بالضرورة، المجال لظهور تقنية كتابية جديدة تُعرف بالـquot;كتابة ما بين السطورquot;. أي أن الكاتب الذي يريد إيصال أفكاره المشككة بأفكار السلطة الحاكمة اضطهادا، دون أن يجازف برقبته، عليه أن يقول أن quot;عمرquot; هو quot;زيدquot;. على أنه، ما بين السطور، يذكّر وعلى نحو دائم، الذين يوجه رسالتَه إليهم بأن

اقرأ أيضا:

للصحراء أبوابُها الموصَدة

إلى أي عصر ينبغي أن نميل لكي نرى أنفسنا؟

القصيدة وهواجسها

تقاسيم رقميّة

العنوان زمن القصيدة

quot;عمرquot; ليس بـquot;زيدquot;. وهكذا يُسلل الفكرة المقصودة إلى الداخل. وهو يدرك تمام الادراك أن هناك قراء أذكياء يعرفون كيف يتم لهم اغتصاب هذه المتسللة؛ العارية من كل تواطؤ، ليستولدوها معنى مرادا. عندها ينفتح أفق جديد في مخيلتهم المستعدة لكل طارئ رقابوي يتهدد حياتهم، دون أية وشاية بالكاتب. وها أن ما رمى إليه الكاتب قد أنجز بلا ضجيج إعلامي او مواجهة قد تكون وخيمة العواقب وهذا لايعني ثمة تفضيل كتابة مغلقة على مواجهة مفتوحة. فيُبرّر سكوت معظم الكتاب على ما يجري وما سيجري في واقع الحياة اليومية، بسائق أنهم كتّاب quot;ما بين السطورquot;. الكتابة مواجهة مفتوحة مع الواقع في لحظة تخليها عن ادعائها رصد الواقع. إذ ما يخيف السلطة هو الانفلات وما لا يدخل ضمن تسمية. وما إن تُمارس الرقابة عليها، حتى تصبح الكتابة وكأنها هي التمرد عينه... مثلما quot;الفضيحة تبدأ حين تأتي الشرطة لايقافهاquot; كما يقول كارل كراوس.
ملابسات quot;الكتابةquot; هذه وضحها باسهاب مؤرخ أفكار ألماني هاجر إلى أمريكا اثر صعود النازية، وبقي هناك حتى وافاه الأجل سنة 1973. اسمه ليو شتراوس، في مقالته الشهيرة quot;الاضطهاد وفن الكتابةquot; (ستنشر إيلاف قريبا ترجمة عربية لها).
كمؤرخ يتوخى الأمانة في تحليل تآليف ومواقف كتّاب الماضي، يقترح شتراوس عدة عوامل يجب أن توجد لكي تؤهل المؤرخ أن يقول أن فلان بن فلان الذي اضطُهد في احد القرون الغابرة، كان هذا الفلان قد أتخذ quot;الكتابة بين السطورquot; أسلوبا يُشيع بواسطته أفكاره المعارضة للحكم السائد. من هذه العوامل:
1-أن تُدرَس حقبة الكاتب المقصود دراسته من وجهة نظر الحقبة ذاتها لا من وجهة نظر حقبة بعيدة عنها.
2-أن يُطالَب المؤرخ بأدلة كافية تثبت أن الفلان بن الفلان كان، حقا، يؤمن أن quot;عمرquot; ليس بـquot;زيدquot;.
3-أن يُفسَّر الكاتب المقصود دراسته من وجهة نظره هو، لا من وجهة نظر كاتب آخر، كما يجب تجنب ما يؤدي اليه التفسير من نتائج.

وبانتفاء هذه العوامل وغيرها، تصير أقوال المؤرخ مجرد اسقاطات حاضرة على الماضي وتأويلات مُبالغ فيها. الكتاب المضطهَدون الذين تناولهم شتراوس في تحليله، هم من عصور لاتنتمي إلى عصرنا، وتكاد تُسمّى بالعصور الوسطى حيث الحياة ترزح تحت سطوة الشرع وشورى رجال الدين.

***
في الغرب المعاصر المُسيَّر بقوانين مدنية يحتمي بها المواطنون والأفكار، الاضطهاد تغيّرت ملامحُه. وبهذا يكون مفهوم الكتابة ذاته قد تغيّر. إذ في الغرب المعاصر، استردّت الكتابة أنفاسها وعادت إلى موطنها الحقيقي: اللغة، أي استقصاء روح العالم بعيدا عن فرضيات المقدس والحقيقة الثابتة؛ نازعةً مرة وإلى الأبد الفقه عن روح الكلام....
الكتابة، في هذا الغرب، حتى عندما تكون مجرد سرد للتسلية، هي وخز ضمير المجتمع مبينة له إلى أي مدى يحقق الحرية ولا يحققها. ذلك لأنها تحررت من عقدة خوف الكتّاب ولم تعد وسيلة للعاجزين عن مواجهة النظام علنا ولا راسبا لغويا أو ألفاظا جريحة يتفوّه بها كتّاب التواطؤ مع النظام كما في بلدانـquot;ناquot;... الكتابة في المجتمعات المتحررة من وحي الرسالة، لاتخدع القارئ بوعود حتى لو كانت وعود حرية. وهي نقيض كل كتابة quot;نبوية... إنها كتابة عينية، متمهلة ومتأملة حد أنها باتت تبدو كما لو أنها بلا مفعول، أو كما لو أنها أحتويت باشاعة ديمقراطية quot;زائفةquot; للآراء حيث يتوهم مرضى السياسة أن الدولة نفسها أخذت تخترع، كل يوم، وسائل جديدة تمكن الكاتب والسياسي معا، من إشاعة أفكارهما دون أن يتعرضا للاضطهاد.

***
لكل حقبة تاريخية كتابةٌ/ لغةٌ تنطوي على مطاليب عصرها الاجتماعية، مهما كانت هذه الكتابة / اللغة هرمسية، غامضة، أو خالية من أية إشارة واضحة. لأن عصرها حتّمها كتابةً يتركز الجهد الكتابي فيها على رغبة شديدة لتحقيق ما هو فوري وفعال، فيغيب المستقبلي الكامن فيها، الشعري، الـquot;مجرد لغةquot;، فترة قد تطول او تقصر، حتى تظهر وكأن ذالك الجهد الكتابي لتحقيق قضايا إجتماعية، لم يكن يهدف سوى تحقيق الشعري، الـquot;مجرد لغةquot;؛ المستقبلي الكامن فيه.
قصيدة أندريه بروتون، مثلا، quot;Union librequot; (quot;المعاشرة بلا زواجquot;)التي كتبها بروتون لغرض آني محدد: هو الدعوة إلى الاتحاد الحر بين المرأةوالرجل (المسافحة)، والحرية الجنسية، ويتضمن هذاالدفاع عن حقوق المرأة الفرنسية التي كان لايحق لها حتى أن تصوت في الانتخابات. وقصيدة بروتون كانت واحدة من عدة قصائد كتبت لهذا الغرض من منظور سوريالي، لكي تنشر كلها في مطبوع سري في بلجيكا. اليوم من يقرأ quot;زوجتيquot; لايقيمها كقصيدة دعوة للتحرر الجنسي وإنما كقصيدة تطرح مفهوما شعريا جديد وتفتح آفاقا صورية تتعلق بمفهوم الكتابة الشعرية أكثر مما بمسألة حرية المرأة أو الجنس، وإن هي لاتزال كذلك. موت معنى؛ ولادة آخر. الكتابة دائما للمرة الأولى.

***
إنَ تاريخ المجتمع ndash; الكتابة قد علمنا أن كل حقبة من حقبه لها كتّابها الحقيقيون الذين يحبلون اللغة وقارئون همهم الوحيد هو اغتصاب النص لإيلاد معنى ما يكمن فيه اختصاب الحياة. إذن لكل مجتمع تاريخه، أي قوانين اضطهاده. بعبارة أخرى، لكل مجتمع فن كتابته. وعند فهم اللعبة الاجتماعية، لايكون أمام الكاتب سوى أن يدخل شاتما دون أن يشتم.

***
الكتابة هي هي وليست عن. انها ظل كل ما هو غائب. وبما أن الشمس لاتغيب حقا وليس هناك فردوس واحد بل فراديس، ليس أمام الكتابة إذا سوى السخرية من الأمل بنحو يثير فينا راديكالية اليأس المصنوعة منه كلمة التاريخ: لامفر. إنهالحظة تحرر من المعيوش وإحباط جميع الحسابات. الكتابة فضح وإفشاء. لكن... لا يمكن الفضح دون لغة الفضح ولغة الفضح لغة تستهزئ بكل مفردات الفضح السائد.

***
الكتابة، نحو الأحياء المطلق، عليها أن تكون حرّة أو لا تكون. إنها نقيض الكذابة (العربية بامتياز). إنها الصمت الناطق، عندما لايعود صمت الاحتجاج سكوتا. فاعليتها تكون امضى من النصل إذا ما افضت، بحكم استقلاليتها، إلى الإيقاع بكل ما يحول دون حمل التناقضات إلى الذروة. quot;الأشياء من أجل أن تبقى يجب أن تتحرك. ومتى وقفت عن الحركة فسدت وبطل نظامهاquot; (اخوان الصفا).

اطرق بقوّة، فالحياة العربية صمّاء!

يتخلل هذا المقال مقاطع عديدة مأخوذة من بيانات quot;الرغبة الإباحيةquot; في أواخر سبعينات القرن العشرين عندما كان هناك هواء صحّي، شمس في الرأس ولعشرين بالمئة من العرب استعداد نبيل للدفاع عن قضية الكلام؛ الإنسان.