ـ1ـ
يعاني الأخوة الأقباط في مصر, وعددهم يفوق 12 مليون نسمة, وهو إحصاء سياسي إعلامي تخميني وتضليلي، أكثر منه إحصاء علمي وواقعي . فالدولة المصرية منذ 1952 ، تأبى إجراء أي تعداد رسمي للأقباط في مصر، لكي لا تفتح على نفسها أبواباً ودفاتر حساب وعقاب، هي في غنى عنها عربياً، ومسيحياً، وقطرياً، وعالمياً. ومن المعروف أن منظمات حقوق الإنسان في الغرب مقصرة جداً في ملاحقة حقوق الأقباط في مصر، وكذلك هي مقصرة في ملاحقة كافة حقوق الأقليات في العالم العربي. والأقليات في العالم العربي، قوة سكانية تبلغ أكثر من مائة مليون نسمة، كما أنهم قوة اقتصادية هائلة، وينابيع ثقافية غزيرة، ومنارات فنية وحضارية، أثّرت في العالم العربي منذ قرون طويلة بدفق هائل من الثقافة والعلم. فكانوا هم أثداء الحداثة العربية الدافئة والمدرارة التي رضعنا منها جميعاً، والتي لا زلنا نرضع منها. والأقليات في العالم العربي - ومن ضمنهم الأقباط في مصر - هم الذين فتحوا لنا نوافذ الفكر الغربي، وعرّفونا على آيقونات التنوير في الغرب. فلولاهم لما قرأنا طه حسين، وسلامة موسى، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وأديب اسحق، وقسطنطين زريق، ومجموعة البستاني، ولويس عوض، وغالي شكري, وأعداد لا حصر لها من المثقفين التنويريين من الأقليات الدينية والعرقية في العالم العربي. ورغم كل هذا الدور الحضاري الذي أدته بجداره الأقليات المختلفة في العالم العربي وعلى رأسها الأقباط، إلا أن العالم العربي ظل جاحداً وناكراً لهذا الدور. فجحد حقوق المساواة بالمواطنة لهذه الأقليات. وأنكر على أبنائها التوظيف بمناصب كثيرة في الدولة. وعامل أبناء هذه الأقليات في كثير من الأحيان معاملة مواطني الدرجة الثانية أو الثالثة. بل خرجت في أحيان كثيرة أصوات دينية متشنجة وظلامية وقروسطية، تنادي بطردهم من صفوف الجيش، وفرض الجزية عليهم، واعتبارهم ذميين، يعاملون معاملة الذميين، في ظلام القرون الوسطى، وما قبل ظلام القرون الوسطى.

-2-
فلماذا وصلت هذه الأقليات الدينية والعرقية المختلفة الى هذا الحد، وإلى هذه الدرجة من الامتهان والاضطهاد؟

لقد قيل وكُتب عن حقوق الأقليات في العالم العربي القدر الكبير. وقد تسابق كثير من المثقفين العرب في الدفاع عن حقوق الأقليات في العالم العربي. وكان جُلّ هذه الكتابات ينحصر في ظلم الدولة القطرية، وفي تعسف المؤسسات الدينية، وفي طباع عصبية البداوة لدى العرب، التي تكلم عنها ابن خلدون في مقدمته، والمتأصلة في العرق العربي. وكل هذا مفهوم ومعروف، ومُكرر، ومُسلّم به. ولكن الباحثين العرب، لم يركزوا على ضرورة نضال الأقليات، وتحركها عربياً، واقليمياً ، ودولياً ، من أجل نصرة حقوقهم، والحصول على حق المساواة في المواطنة. رغم أن هذه الأقليات لديها المال الكثير، والكفاءات العلمية، والتربوية، والتعليمية، والاقتصادية، والسياسية، التي تُمكّنها من أن يكون صوتها مسموعاً في العالم العربي والشرق الأوسط والعالم كله كذلك.

-3-
صحيح، أن تحقيق الديمقراطية مرتبط ارتباطاً شديداً بإعطاء الأقليات حقوقها المدنية كاملة. وأن لا مجتمع ديمقراطياً يضطهد الأقليات، أو يهضم أي حق من حقوقها المدنية كافة . وصحيح، أن اضطهاد الأقليات لا يصل الى حده الوحشي الكاسر إلا في الأنظمة والدول الديكتاتورية، كما رأينا في مصر والعراق وغيرهما من دول العالم العربي. ولكن الصحيح أيضاً، أن هذه الأقليات، وعلى رأسها أقباط مصر، قد اضطهدوا أنفسهم بأنفسهم. وظلموا أنفسهم بأنفسهم، وجاروا جوراً كبيراً على ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.

فهم لم يكونوا مناضلين أشداء، ومكافحين مستميتين في الحصول على حقوقهم في المواطنة الكاملة، فيما لو علمنا أن معظم الأقليات، وعلى رأسها أقباط مصر، هم أهل البلد القدماء، وهم من أسسوا الأوطان. وجاء العرب اليهم من الجزيرة العربية فاتحين، أو قُل مستعمرين تحت ستار الدين، وتحت مظلة الدعوة الى دين جديد. فهم الأنصار والعرب هم المهاجرون، وليس العكس القائم الآن. وهم الأكثرية بالأصل والتأسيس والفعل، والعرب الفاتحون (كان يطلق على المُستعمِر في الماضي فاتحاً ، والمعنى والهدف واحد) هم الأقلية في هذا. والأقليات هم الأقلية عدداً لأسباب حضارية ودينية، حيث أن القبطي مثلاً ، لا يستطيع الزواج بأكثر من إمرأة واحدة، وانجاب العشرات من الأبناء. فتكاثر العرب المسلمون، وقلّت الأقليات، فسُموا أقلية.

-4-
نعم، الحرية تؤخذ ولا تُعطى. والحقُ يُعرف بالرجال، ويُنصر بالرجال، وينبري للدفاع عنه الرجال، كما قال فرج فودة.

والحرية والحق لهما ثمن غالٍ وعزيز. وإذا كانت الأقليات تنتظر الكرم السياسي الحاتمي العربي، لكي يمنحهم يوماً حقوق المواطنة الكاملة، فهذا (في المشمش)، أو من سابع المستحيلات، فيما لو علمنا أن كافة quot; الرعاياquot; العرب الذين يساقون كالأنعام في زرائب وليس في أوطان، لم يصبحوا مواطنين بحقوق مدنية كاملة، كباقي خلق الله وكشعوب الأرض السعيدة، لأنهم ـ وبكل بساطة ـ لم يدفعوا ثمن حريتهم بعد، أو لا يريدون أن يدفعوا ثمن هذه الحرية. وينتظرون زمناً مستحيلاً ، يحصلون فيه على حرية (بلوشي) مجانية دون ثمن. لذا, فهم مضهطدون هم الآخرون منذ قرون طويلة، وإلى قرون طويلة قادمة، بانتظار حرية دون ثمن. أي حرية المكرُمات وليست حرية التضحيات. وهي حرية حتى وإن تحققت، فما أسرع ما يستردها مانحها ومُكرمها ومُعطيها.

-5-
لا أريد أن أن أزيد من كآبة وإحباط الأقليات في الوطن العربي، وعلى رأسهم الأقباط، وأقول لهم: إن السجون التي أنتم فيها، بنيتموها أنتم وبأيدكم لأنفسكم، وأنتم وحدكم التي تنسفوها وتهدموها، وتخرجوا منها أحراراً.
لا تنتظروا من الحكام أن يهدموا سجونكم. الحكام لا يهدمون سجوناً، وإنما يبنون المزيد من السجون.
فهل سمعتم بحاكم عربي هدم سجناً غير السادات، لأسباب كلنا يعلمها؟
إن عظمة الحكام العرب تُقاس بمدى ما يبنون من سجون، وبمدى ما يزجّون في هذه السجون من أحرار وأصحاب حق.

-6-
لقد كتب أخي وصديقي الدكتور أحمد أبو مطر مقالاً قبل أيام بشّر فيه بقرب قيام quot;مؤسسة للدفاع عن حقوق الأقليات في العالم العربيquot;، بحيث يكون 100 مليون من الأقليات الدينية والعرقية في العالم العربي على سطح من الصفيح الملتهب وليس الساخن فقط. يسمعون صوتهم للضمير العالمي، ولمنظمات حقوق الإنسان. وسوف يتولى المثقفون الليبراليون وغير الليبراليين قيادة هذه المسيرة الحضارية، جنباً إلى جنب مع مسيرة الحرية والديمقراطة عامة. فالاستحقاقات الديمقراطية واستحقاقات الأقليات صنوان، وتوأمان لا يختلفان. وهما يولدان في وقت واحد، ويشبّان تحت سقف واحد. وتلك هي الخطوة السياسية والعلمية الواقعية لتحقيق ذلك، بعيداً عن انشغال الجميع في مشاكل الأقليات الجانبية اليومية كالمطالبة باصلاح مرحاض كنيسة في قرية مهجورة، أو الصراخ الى حد تقطّع حبال الصوت في مسائل زواج روز من أحمد، أو هروب كريستين مع محمود.

السلام عليكم.