تستمر تداعيات الرسوم العتيدة بين المسلمين، والعرب منهم خاصة. وفي باكستان، وقع منذ يومين قتلى وجرحى في فتنة جديدة للأصوليين الباكستانيين، الذين لهم مراكز ومواقع قوية في باكستان، وهي دولة تأتي في مقدمة الدول التي تنشط فيها الأصولية المتطرفة، وحيث الكتاتيب المبثوثة، التي تخرج سنويا عددا كبير من متطرفين، يتحول منهم الكثيرون للعنف ومهنة الإرهاب. والنظام الباكستاني مازال يلعب لعبة مزدوجة في التعامل مع هذا الخطر، وحتى في التعامل مع القاعدة التي لا تزال لها مواقع عديدة على حدود باكستان. وانضم الأصوليون الشيعة في البصرة، والأصوليون الأكراد في أربيل، لضجة الرسوم، حتى أن مجلس محافظة البصرة يطالب بانسحاب القوات الدانيماركية من المدينة. ونعرف مدى انتساب المجلس للتنظيمات السياسية الدينية، ولاسيما لتلك ذات الروابط بالأجهزة الإيرانية.
وقد تعدت ردود الفعل إلى قرار لاتحاد الأطباء العرب يدعو لمقاطعة الأدوية الدانيماركية، ومنها الاونسلين لمرض السكر وهذا ما فضحه الدكتور خالد منتصر في كلمته المركزة ليوم 16 شباط الجاري.

نعتقد أن هذا الجنون ذا الغايات السياسية، والذي تحول للمتاجرة بالدين الحنيف والمزايدات، سواء من الأحزاب الدينية أو من أنظمة كإيران وسوريا، سيظل يتصاعد؛ ومؤكد أن نشر صور جديدة هي قديمة لسجن أبي غريب، سيكون سلاحا جديدا للحملة، واستغلالها كل لمآربه. إن هذه الصور المقززة جدا والمدانة، والتي تم كشف أخواتها من جانب الإدارة الأمريكية نفسها، والتي نفذها عسكريون أفراد، لا الجيش ولا الدولة ولا الشعب الأمريكي، تعرضوا للمحاكمات في الولايات المتحدة نفسها.وهذه التجاوزات هي ضد القيم الغربية والقوانين الأمريكية. ونعتقد أن الصور الجديدة ـ القديمة لم يتم نشرها الآن صدفة بل لأسباب سياسية داخلية من جانب بعض القوى والأطراف الغربية من معارضي حرب تحرير العراق، وحيث يريد الديمقراطيون الأمريكان وكل الفصائل المعادية للحرب ولبوش وبلير، استثمارها في حملاتهم المستمرة لإدانة الحرب وتحقيق الانسحاب الأمريكي الفوري من العراق وإحراج الحكومتين الأمريكية والبريطانية. وهنا يلتقي الإسلام الأصولي السياسي مع جميع مناهضي الحرب وأعداء بوش في الغرب، ولاسيما قوى وتيارات اليسار الغربي المتطرف، التي تكره ما تعتبره quot;ديمقراطية بورجوازية.quot; وفي مقالات لنا عن كتاب quot;الإسلاميون هم هنا فعلاquot;، أوردنا بعض المعلومات عن التحالف غير الطبيعي بين تيارات أقصى اليسار الغربي والمتطرفين الأصوليين. ووردت الإشارة مثلا لتصريحات الإرهابية الإيطالية ناديا ديسمندي أمام المحكمة التي حكمت عليها مع اثنين من شركائها بعشرين سنة سجن بتهمة اقتراف جرائم قتل. قالت هذه الزعيمة من زعماء تنظيم quot;الألوية الحمراء الجديدة: quot; الجماهير العربية حلفاء طبيعيون للبروليتاريا.quot; وكانت بالطبع تقصد الحركات الإسلامية السياسية التي تشاركهم الموقف في كراهية أمريكا وسياسات الدول الغربية الأخرى. بالطبع إن الأصوليين يتميزون بكراهية القيم والمبادئ الديمقراطية العلمانية. ورغم ارتباط الإلحاد غالبا باليسار الغربي المتطرف، فإنه يرى في قوى الأصولية وشبكات العنف quot;والإرهاب الإسلامية حليفاquot; قويا في النضال ضد quot;الهيمنة الأمريكية وضد الرأسمالية.quot; نتذكر مظاهرات ما قبل الحرب في الغرب والتي تزامنت وترافقت مع تحركات الإسلاميين في الغرب والعالم العربي.
إن هذه النقطة الهامة أبرزتها أيضا مقالة لصحيفة quot; سنداي لندن تايمسquot; ليوم 12 شباط الجاري. والمقالة تتحدث عن أسباب الإفراط في تسييس الإسلام في الغرب، حتى أن الإسلام السياسي راح يغيّب الدين ومثله وروحه وقيمه الروحانية ويتحول إلى سياسة تتعرض للنقد بل وللإدانة عند وقوع عمليات الإرهاب. ولنا عودة لهذه المقالة الهامة.

وفي وجه الهيجان في العالمين العربي والمسلم، تنشر الصحافة الغربية ومنها الفرنسية من جانبها تعليقات ومقالات في الرد، وكشف مغزى الحملة ومراميها السياسية. فقد نشرت الهيرالد تريبيون في عدد16 الجاري مقالا للصحفي الإيندنوسي، كريم أرسلان، بعنوان quot; لماذا لم ينفجر المسلمون الآسيويون؟quot; ويرى المقال أنه، رغم استنكار الصور في بلدان كماليزيا وايندنوسيا، فلم تقح حوادث عنف وحرق ومقاطعة بضائع دانيماركية؛ بل إن رئيس جمعية المحمدية التي تضم 30 مليونا دعا أتباعه للهدوء بقوله:
quot;إنني ألح على المسلمين لعدم المبالغة في رد الفعل والتصرف بطريقة عنيفة وفوضوية، إذ أن هذه الأعمال مخالفة تماما للتعاليم الإسلامية.quot; وقد وقف الرؤساء الآسيويون المعتدلون في إندنوسيا وماليزيا لموقف نفسه. الرئيسان انتقدا الرسوم وقال أحدهما:
quot; إن الحق حرية الصحافة ليس مطلقا، ولكن، ومهما كان المعتقد، فيجب احترام تلك الحرية.quot; والرئيسان لم يدعوا لمقاطعة الدانيمارك أو سحب السفراء. ويرى الكاتب أن هناك فارقا كبيرا بين مسلمي آسيا عموما والمسلمين العرب والمتكلمين بلغة الأوردو، أي الباكستانيين. وأضاف: quot; أتذكر كيف شعرت بعدم الارتياح عند سفري للسعودية، محاطا بأناس وجدتهم معادين..quot; ويقول الكاتب إنه غير بعض قناعاته بعد 11 سبتمبر، فوجد أمريكا أكثر تدينا من أوروبا. ونعرف عن تدين بوش وغيره من المسؤولين، رغم علمانيتهم ودفاعهم عن القيم الديمقراطية، نعم هناك بعض الدوائر البروتستانتية المتطرفة هناك، تشكك في نظرية دارون وتعمل على منع تدريسها في المدارس، ولكن هذا التطرف لا يمارس الإرهاب، مثلما يمارسه الأصوليون الإسلاميون، بل على نطاق دولي وبشكل أعمى لا يعفي طفلا ولا شيخا ولا حاملا.

يقول مقال سنداي لندن تايمس، الذي يبدأ بما يلي:
quot; تبدو بطة، وتبطبط كبطة، وتطير كبطة، ومع ذلك يؤكدون أنها ليست بطة!quot; يقصد الكاتب أن الهائجين وكل المحتجين اشتطوا في استنكار الرسوم واقترفوا أعمالا عنيفة مدانة في احتجاجهم على رسوم في جريدة، فاعتبروها مؤامرة غربية، واتهموا كل الشعب الدانيماركي بمسؤولية تلك الرسوم المسيئة، وانتقلوا للنرويج، ففرنسا لأن بعض الصحف أعادت النشر. تتساءل المقالة:
quot;أليس المفترض أن يكون الإسلام دينا، وأن يهتم بقضايا أكبر تخص الوجود البشري، بدلا من التركيز على بضع رسوم كاريكاتورية، أو برنامج تلفزيوني هولندي، أو الحجاب بفرنسا، أو برواية كاتب بريطاني من أصل هندي؟quot;

أجل، إن البارز من الإسلام اليوم، والأعلى صوتا، هي الحركات السياسية التي تتقنع كدين. ثمة مساجد كثيرة في بريطانيا تحولت لنواد سياسية، حيث طغت قضايا كشمير والعراق وفلسطين، وquot;شرور الإمبريالية الأنجلو ـ سكسونيةquot;، على المسائل الدينية التي يجب أن تكون أساسية ولها الأولوية. يقول كاتب المقال:
quot; عندما سألت منذ زمن إمام جامع في لندن: لماذا لا يذكر في مواعظه اسم الله كثيرا، تصورت أنني تجاوزت الخط البياني، إذ أجابني:
quot;ما يهمنا اليوم هي معاناة إخواننا تحت الاحتلال.quot;، أي معنى ذلك quot;أن إسلام اليوم الأبرز quot;لا ينشغل بذكر الله بقدر انشغاله فلسطين وكشمير وأفغانستان والعراق. كما أن هذا الإسلام السياسي يحتج على بعض أوجه السياسة الداخلية البريطانية والأوروبيةquot;، وبطريقة لبس المرأة وزينتها ومجادلتها مع الرجال.. إنهم يدينون ما يرونه quot; الفساد والانحلال البريطانيينquot;، وquot;فقدان القوة الأخلاقيةquot; لوضع قيود على الحريات الفردية. وقد قال الباحث الإسلامي عزام تميمي، وهو من أنصار حماس:
quot; ليست عندنا هنا مشاكل حول ممارسة ديننا بحرية، هي أكثر من الحرية الموجودة في أي بلد مسلم، ولذلك طبيعي أن يتركز واجبنا على المسائل السياسية أكثر من الشؤون الدينيةquot;!!!
يرى الكاتب أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية للإمعان في تسييس الإسلام في الغرب. وهذا سيكون موضوع مقالنا القادم.