لا شك أن للغرب ومثقفيه وقياداته السياسية دوراً في وقوع صدام حضاري بين الشرق والغرب ndash; فيما لو حصل - كما تنبأ من قبل صموئيل هنتنجتون، واستنكر هذا التوقع وتلك الرؤيا ادوارد سعيد الذي أطلق على هذا المسمى quot;صراع جهالاتquot; وليس quot;صراع حضاراتquot;، مستنكراً وقوع مثل هذا الصدام ، خاصة بين المسلمين والغرب، حيث لا قوى متكافئة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية التي غربت شمسها منذ ما يزيد على خمسة قرون، ومنذ أن غزا العثمانيون العالم العربي عام 1517 وظلوا محتلين له حتى عام 1918. ورغم هذا، فإن مجموعة من الفقهاء وزعماء الجماعات والأحزاب الدينية السياسية، ما زالت تتحدى الغرب ليس عسكرياً أو ثقافياً أو اقتصادياً، ولكن حضارياً، وتطالب كل يوم النـزال معه في ميدان الحضارة، وفي ميدان القيم الأخلاقية على وجه الخصوص. وترمي هذا الغرب بالمادية المطلقة، وبخلو مجتمعاته من القيم الروحية والأخلاقية، والتي هي قيم نسبية في كل أمة من الأمم، وفي كل عصر من العصور.
لقد صوّر بعض قادة ومفكري الأحزاب الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين الغرب، بأنه مادة بلا روح، وبأنه مادة بلا عواطف، وبأنه يعمل بلا لذة ولا متاع، وبأن الحياة فيه قاسية وجافة وخالية من التأمل الهادئ، وهو ما ينادي به الإسلام، الذي يجعل الحياة متوازنة بين الجد واللهو، ويعطي للجد نصيبه وللحياة نصيبها. وفي هـذا يقول سيّد قُطب مثلاً: quot;أمريكا لا تعرف إلا العمل والكدح. ولا تؤمن إلا بالعمل والكدح . ولا تزن الأفكار والمعاني إلا بميزان العمل والكدح. ولا تعرف الرجال العباقرة إلا بمنظار العمل والكدح. وأمريكا لا تعرف الحياة إلا كدحاً في العمل المادي وارتشافاً للذة الحسية حتى الهمود. حتى التفكير يكاد يكون جهداً عضلياً. وأن امريكا هي النبت الخبيث النكد للمادية الجاهليةquot; (صلاح الخالدي، أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب، ص 48،49).

السؤال الكبير
والسؤال هنا هو:

- ما بال الفلسفات والنظريات والأفكار الجديدة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب والتاريخ وعلوم الإنسان والحيوان والطبيعـة تخرج كلها من الغرب الآن، وفي السابق، وهي الفلسفات والنظريات التي تحتاج إلى تأمـل هادئ، وإعمال عقلاني، وجو روحاني؟

- ثم ما هو تفسير هذا الإقبال الكبير على أداء الطقوس الدينية، وبناء المزيد من المعابد للأديان الثلاثة في الغرب، وفي أمريكا على وجه الخصوص، وزيادة ساعات وعدد البرامج الدينيـة في التليف ـ زيون الأمريكي، وتدفق أموال التبرعات على الهيئات الدينية، بحيث أن أكبر نسبة من التبرعات الخيرية (14بالمائة) التي يق ـ وم بها رجال الأعمال تذهب لصالح الجمعيات الدينية في أمريكا، في حين أن الجمعيات العلمية والبحثية تحظى بنسبة تبرعات أقل من ذلك بكثير؟

-ثم ما هو تفسير اهتمام الجامعات الأمريكية بدراسات الأديان المقارنة، والتركيز على الدراسات الإسلامية في معظم الجامعات الأمريكية، ورصد الأموال الطائلة لهذه الأقسام، والتي هي أكبر من ميزانية كافة المعاهد الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وأقوى منها علمياً وبحثياً، وتنتج في كل عام مئات الرسائل الجامعية في الماجستير والدكتوراه، وذات قيمة دينية وتاريخية علمية أكثر بكثير من آلاف الكتب الدينية والتاريخية التي تصدر في العالم العربي، والتي في معظمها اجترار للأفكار السابقة، وغرغرة بمعطيات سالفة.

- ثم ما هذا التناقض بين قول سيّد قُطب من أن أمريكـا لا تعرف إلا الكدح والعمل، وأنها في الوقت ذاته لا تعرف اللذة والمتعة؟
فمن أجل ماذا إذن يعمل الإنسان، ويكدح؟
أليس من أجل أن يوفّر أكبر مقدار ممكن لنفسه من اللذة والمتعة؟
وهل يوجد شعب على ظهر الأرض مستهلك للمتاع واللذات، كما هو عليه حال الشعب الأمريكي مثلاً الآن، صاحب السيارات الفارهة، والبيوت الفخمة، والمأكل والمشرب والملبس الباذخ، كما يرى كل زائر إلى أمريكــا، إلى الحد الذي وُصف معه الشعب الأمريكي، بأنه شعب مستهلك من الدرجة الأولى لكل لذات الحياة، وأقل شعوب العالم توفيراً واكتنازاً للمال، وأكثر شعوب العالم انفاقاً في ملذات ومتع الحياة إن الأحزاب والجماعات الإسلامية لم تبُقِ حجراً من حجارة الغرب إلا وكشفت عنه وفضحته وسفهته بشكل إعلامي خطابي حماسي، بعيداً عن العقل والحقيقة والمنطق. فهم لكي يسفِّهوا الشعب الأمريكي مثلاً ويحطّوا من قدره، يقولون بأن أصل الأمريكيين quot;مجموعة من المغامرين اللصوص القتلة والمغامرين من طلاب الثراء والمتعة والمتاع. وكل شخص من أولئك الأجداد إما أن يكون مجرماً مغامراً، أو قد يجمع بين الصفتين الخبيثتين معاًquot; (صلاح الخالدي، المصدر السابق، ص50).
والحقيقة التاريخية تقول، أنه صحيح أن قسماً من المهاجرين الأوروبيين إلى أمريكا كانوا على هذا النحو، وتلك نصف الحقيق ـ ة. والنصف الآخر من الحقيقة يقول، بأن قسماً آخر من هؤلاء كانوا من العلماء والمخترعين وأساتذة الجامعـات الذين استطاعوا أن يبنوا خلال مائتي عام من التاريـخ الأمريكي أكبر وأقـوى وأعرق جهاز تعليم في العالم حتى الآن. وأن الجامعات الأمريكية الآن أصبحت مدرسة العالم، حيث ترى فيها طلبة من كافة أنحاء العالم، حتى غدا التعليم صناعة من الصناعات الأمريكية، وكاد أن يشكل قبل كارثة 11 سبتمبر 2001 حوالي أربعة بالمائة من الدخل القومي الأمريكي. كما أن النهضة العلمية والتقنية العالية والمتفوقة التي تتمتع بها أمريكا، هي من نتاج هؤلاء العلماء والخبراء الذين أنكر هجرتهم إلى أمريكا سيّد قُطب، والذي يعود ليقول عن أمريكا كلاماً مخالفاً لما قاله من قبل، على إثر زيارته لها في العام 1948 في بعثة علمية للتعرّف على أساليب التربية الحديثة، بأنها quot;تلك المصانع التي لم تعرف لها الحضارة نظيراً، وتلك المعامل والمعاهد والمتاحف المبثوثة في كل مكان. عبقرية الادارة والتنظيم التي تثير العجب والاعجاب. وذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عُرفquot; (صلاح الخالدي، المصدر السابق، ص97)

والسؤال مرة أخرى هو:
من الذي بنى كل هذا، هل هم المجرمون من المهاجـرين وقطّاع الطرق، كما سبق ووصفهم قُطب؟
إن قُطب في عدائه الأعمى للغرب، واعتباره جوهر الصراع مع الغرب صراعاً دينياً صليبياً، وليس صراعاً اقتصادياً أو سياسياً ،كما قال في كتابه quot;العدالة الاجتماعية في الإسلامquot; ، وتحريضه للمسلمين على معاداة الغرب ونبذه، لا يتوانى أن يترك تناقضاً حتى يدخل في تناقض جديد، ومن هذه التناقضات قوله : quot;أخشى أن لا يكون هناك تناسـب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا وعظمة الإنسان الذي ينشئ هذه الحضارةquot; (صلاح الخالدي، المصدر السابق، ص98). وقوله أيضاً quot;إن الباحث في حياة الشعب الأمريكي ليقف في أول الأمر حائراً أمام ظاهرة عجيبة، وهي شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء بينما هو في عالم الشعور والسلوك البدائي، لم يفارق مدارج البشرية الأولىquot; (صلاح الخالدي، المصدر السابق، ص99).


من الذي يصنع الحضارة؟
والسؤال الآن هنا أيضاً:
كيف يتأتى للحضارة العظيمة أن لا يكون وراءها إنسان عظيم؟
فمن الذي يصنع الحضارة العظيمة إذن؟
وهل الحضارة العظيمة تُخلق من لا شيء، أو من العدم؟
إن الإنسان العظيم هو خالق الحضارة العظيمة.
ثم كيف يمكن لانسان الغابة الأمريكي الذي لم يفارق مدارج البشرية الأولى - كما وصفه قُطب هنا - أن يبلغ قمة النمو والارتقاء في العلم والعمل؟
وللعلم، فإن آراء قُطب هذه كانت الثدي الدافئ المدرار، الذي رضعت منه معظم الجماعات الإسلامية في النصف الثاني من القـرن العشرين - وهي جماعات شبه أميّة في الدين والسياسة في معظمها ndash; وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم quot;القاعدةquot;، وأخذت تدعو إليها في أدبياتها، وتستعملها في هجومها وصدامهـا مع الغرب ذي quot;الجاهلية الماديةquot; - كما قال قُطب ndash; الذي يجب محاربتها، وإعادتها إلى حظيرة الإسلام .

أوروبا والإسلام سفينتان لا تلتقيان!
يرى بعض المفكرين الإسلاميين من غير العـرب كالهندي أبي الحسن الندوي quot;أن أوروبا نهضت حين سقطت الأمة الإسلامية، وأنه لكي تنهض الأمة الإسلامية فلا بُدَّ من سقوط أوروباquot; ( أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ص179) . كما يرى مفكر باكستاني آخر كأبي الأعلى المودوديquot; أن أوروبا والإسلام عبارة عن سفينتين، كل منهما تتجه اتجاهاً مخالفاً للآخرquot; (أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية، ص 24). ويردد الكتّاب الإسلاميون من العرب هذا القول كذلك، وعلى رأسهم سيّد قُطب وزعماء الجماعات الإسلاميـة التي ظهرت في السبعينات من القرن العشرين. كذلك مازال اسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي يرددون هذا الكلام كالببغاوات من كهوف افغانستان ومستنقعات العراق . ولعل هذه الأفكار ما زالت متجذرة حتى الآن في الأجيال التالية، ومنها جيل الشباب الآن، الذي أدت هذه الأفكار وغيرها من الأفكار إلى جنوحه إلى العنف وممارسة الارهاب على النحو الذي نشاهده الآن، وكانت آخر مظاهرة ما جرى في الشوارع العربية ضد الدنمارك والنرويج على إثر نشر رسوم كاريكاتورية سخيفة، وغير ذات قيمة، منذ خمسة أشهر مضت. ولكنه الثأر الدفين في صدور التيارات الإسلامية ضد الغرب، منذ زمن طويل.
إن أبرز ما تطالب به الجماعات الإسلامية الغرب، وتلحّ عليه، هو اعتدال قيم الغرب الأخلاقية التي تلزمه وحده، ولا تلزم الآخرين الأخذ بها. فهم معجبون بكل ما في الغرب من صناعة، وثقافة، وتعليم، وعلم، وتقدم، ونظام، وضبط للشارع، والمكتب، والمدرسة، وخلاف ذلك. ولكنهم غير راضيين عن أخلاق هذا الغرب النابعة من تكوينه الاجتماعي والثقافي، وذات الخصوصية الخالصة. هذا من ناحية، ومن ناحية، فإن في الغرب من القيم الأخلاقية ما نحتاج اليه، ونفتقر اليه في العالم العربي، كقيم احترام العمل، واحترام المواعيد، واحترام سلوكيات الشارع العام، والصدق في القول، والأمانة في الشهادة، والعدالة في الأحكام، واحترام حقوق المرأة، وغير ذلك من القيم التي تنقصنا، ويسبب نقصانها في تخلفنا. والجماعات الإسلامية كعادتها تخلط بين القيم الأخلاقية والقيم الثقافية. ومن هنا نقرأهم يقولون: quot;إن نظرة الغرب إلى الحياة تجعل الأولوية للانتاج والاستهلاك، لا للأخلاق وما يتصل بها من قيم إنسانية. ونظرة الغرب للإنسـان تجعل الأولوية للجسد وحاجاته الغريزية، لا للروح ومتطلباتها التي لا تقف عند حدود الجسد والتراب، بل تتجاوزها إلى عالم الحق والخير والجمال والاتصال بالمطلقquot; ( مصطفى التواتي، الحركة الإسلامية في تونس، ص207، نقلاً عن راشد الغنوشي، طريقنا إلى الحضارة، ص24). وقد كان هذا المطلب، هو المطلب الأساسي للجماعات الإسلامية من الغرب لكي تتصالح معه. وهو العيب الأساسي الذي ترمي به الجماعات الإسلامية الغرب. في حين أن هذه الأخلاقيات المادية الخالصة والخالية من الروح كليةً ndash; كما تدعي الجماعات الإسلامية منذ العام 1949 عندما كان سيّد قُطب في أمريكا في بعثة تعليمية، وكتب هذه الأفكار نفسها - هي مقولة خاطئة. فلا مجتمع إنسانياً يخلو من الروح. وأن المجتمع المادي الصرف لا يقوم، حتى في أعتى الدول المادية، وهي الدول الشيوعية السابقة. فقد كانت الكنيسة في الاتحاد السوفياتي السابق محاصرة رسمياً، ولكن الدين كان في قلوب الناس. فما بالك أن لا حصار للكنيسة في الغرب، ولا حرباً عليها الآن. وأن المجتمع المادي الصرف لم يُوجد لا في الغرب، ولا في الشرق الأوروبي، وإنما وُجد في أدبيات الجماعات الإسلامية، وفي خيالهم الواسع. فالدين ما زال في قلوب البشر عامة، وأن الإنسان متدين بطبعه، وعابد بطبعه، منذ الأزل، وإن لم يجد ما يعبده عبد نفسه!
هذا غيض من فيض لما تقوم به الجماعات الإسلامية وفقهاؤها لتأجيج نار المواجهة والصدام مع الغرب، واستعمالها لأسلحة خشبية متآكلة في هذا الصراع المختَلق والمبتدع، والقائم على فرضيات وهمية خادعة هي أقرب إلى أضغاث الأحلام منها إلى حقيقة الواقع على الأرض. ولم تدرك الجماعات والأحزاب الإسلامية بعد، بأن مستقبل العالم العربي مرتبط بمدى استعداده وتقبله للعيش بسلام، وليس بصدام مع الآخرين. فالحضارة هي قصة نجاح الانسان ليعيش بوئام مع الآخرين. أما العداء للآخر فهي من سلوكيات المجتمعات البدائية.