رمزا للوحدة الاسلامية

حمل تفجير مرقد الامامين العسكريين في مدينة سامراء دلالات عديدة، خصوصاً فيما يتعلق بارادة المجرمين ومن وراؤهم بجر العراقيين الى حرب أهلية تلقي بهم جميعاً في مهالك خطيرة وتدمر مسيرة البناء المتعثرة أصلاً بسبب الارهاب اليومي وآثار التوافق والمحاصصة التي زرعت الألغام في النظام السياسي الوليد. الا أن هذا المقال يهتم بشكل خاص بالجانب الاجتماعي/التاريخي لمدينة سامراء ورمزيتها بما تعنيه من مبادئ يريد السلفيون التكفيريون هدمها ليتسنى لهم تكريس عقيدة الاقصاء ونشر الكراهية بين البشر، رغم ما في الرسالة الاسلامية من نزعة انسانية (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) اعترف بها الغربيون وأنكرها بعض أبناء الاسلام من أمثال هؤلاء المارقين التكفيريين وأسيادهم.

الوحدة حول الأئمة وضد الاستبداد
تتميز المدن المقدسة في العراق بأنها تكونت حول مراقد الأئمة مما يدل على قوة محبة الناس لهم وتمسكهم بمكانتهم الدينية، ولا سيما اذا تذكرنا ما تعرض له المعنيون من اضطهاد على يد السلطة المستبدة وأعوانها. فالنجف تأسست حول مرقد الامام علي الذي أوصى بدفنه على أرض وعرة لا نبات فيها (على بعد 10 كلم تقريباً من عاصمته الكوفة)، وكربلاء المقدسة تكونت حول مرقد الامام الحسين بن علي وأخيه العباس على أرض كانت مقفرة حين مقتلهما، أما مدينة الكاظمية العامرة فقد تشكلت حول مرقد الامامين الكاظمين اللذين دُفنا في مقابر قريش شمال بغداد. وتمتع هؤلاء الأئمة بتقديس السنة والشيعة لهم، وطالما تقرب هؤلاء الى الله بنحر الذبائح محبة لهم ورغبة في الحصول على شفاعتهم. وتنطبق نفس القاعدة على سامراء ولكنها تميزت، كمدينة مقدسة، بأن غالبية سكانها من السنة، وهم من محبي الأمامين والقائمين على خدمة المرقد. وقد ظهر الكثير من أبناء السنة على التلفزيون وهم مفجوعون بجريمة الارهابين الذين تطاولوا على الأئمة من أحفاد الرسول، وكان منهم فلح النقيب (وزير الداخلية السابق) الذي أبدى عميق حزنه أثناء زيارته لمرقد سامراء وذكر بأن جده كان كليداراً لمقام الامام الثاني عشر، أي ما يسمى بسرداب الغيبة وهو موجود في موقع جانبي الى جوار الحضرة الرئيسية للامامين.

هذا الواقع لتكوّن المدينة، بالاضافة الى وقائع أخرى سأذكرها على الصعيد الاجتماعي/التاريخي، يؤشر حقيقة دامغة وهي أن السنة كمسلمين وكأي بشر واعين لدينهم ودنياهم (مصالحهم) ميزوا الخبيث من الطيب وعرفوا من جهة من هم الطغاة المستبدون الذين طغَوا في الأرض على حساب المحكومين (مسلمين وغير مسلمين)، وأحياناً على حساب أقرب المقربين لهم، ومن جهة أخرى من هم القادة الروحيون والفكريون الذين واجهوا هؤلاء الحكام دفاعاً عن القيم الاسلامية الانسانية، وفي طليعتهم أئمة أهل البيت ومعهم علماء أجلاء ساروا على نفس النهج، كما سأذكر ذلك. هذه الحقيقة عن سنة العراق وتعايشهم بل وتعاطفهم مع قضية الأئمة، بالاعتراض على الاستبداد وما ينتجه من تبديد لثروات الأمة البشرية والاقتصادية، جعلهم طبعاً قريبين من المسلمين الشيعة مقابل هؤلاء الحكام. وأعتقد أن هذا لعب دوراً في تبني العراقيين بشكل عام لروح النقد السياسي وتقبلهم للاختلاف الديني والعرقي فيما بينهم، رغم وجود النزعات البدوية وتأثيراتها أيضاً. لقد ساهم ذلك على كل حال، وضمن عوامل أخرى، في تكوين ظاهرة عراقية جديرة بالاهتمام وهو أن غير المسلمين في العراق ينتمون الى أديان وطوائف عديدة، ويشكلون في مجموعهم أقلية صغيرة (5 الى 7% فقط)، يمارسون حياتهم وطقوسهم ويبنون معابدهم وكنائسهم (على المذاهب المسيحية المختلفة) بحيث يبدون للناظر الآتي من الخارج وكأنهم أكثر من تلك النسبة الضئيلة بكثير.

وأذكر هنا بعض الوقائع التي تكرس هذه الحقيقة (ابتعاد سنة العراق عن الحاكمين باسم سنة الرسول الأكرم وتعاضدهم مع أئمة أهل بيته)، وتسهَل المقارنة بالمسلمين في البلدان الأخرى ممن لم يتسنّ لهم هذه المعايشة التاريخية:
1- ان أصل المدينة كان عاصمة المعتصم العباسي التي أنشأها للتخلص من المشاكل التي نشبت بين أهل بغداد وجنده الأتراك، وقد سميت في حينه سُر من رأى. وعندما تركها الخلفاء العباسيون قافلين الى بغداد، سميت هذه المدينة ساء من رأى لما أصابها من اهمال. ومدينة سامراء التي نعرفها اليوم نشأت في أطراف المدينة القديمة ولكن منفصلة عنها، لبعدها عن مركز العاصمة القديمة وبسبب التخطيط المستقل لها. حيث نلاحظ من خارطتها أنها نشأت كأي مدينة اسلامية جديدة حول المسجد الجامع، وهو هنا الجامع الكبير الذي يضم مراقد الأئمة الذي فجره المارقون التكفيريون.
2- ان الذين اختاروا العيش الى جانب مرقد الامامين هم من سكان المدينة القديمة وانضم اليهم آخرون سكنوا حول المرقد بدل الاستمرار في العيش في أي جانب آخر منها، وهذا خيار له دلالاته كما هو واضح.
3- ان اهمال قبور الخلفاء العباسيين مثل المعتصم والمتوكل والمعتمد مثل بقية الخلفاء العباسيين في العراق يدل على أنهم لم يحظوا بمحبة واحترام العراقيين، بينما نلاحظ اهتمامهم واحترامهم، سنة وشيعة، بذكرى أئمة أهل البيت ومراقدهم. وهذه الملاحظة تصلح أكثر على بغداد، حاضرة الخلافة العباسية لخمسة قرون، حيث لا يوجد مقام أو مزار أو قبر لخليفة عباسي. وفي نقاش لي مع أحد الباحثين الفرنسيين الذين يركزون كعادتهم على الفوارق ويرون أن السنة يعتبرون الخلفاء حكامهم الشرعيين والشيعة على العكس من ذلك فذكرت له هذه الحقيقة واتفق معي على مضض بعد أن حاول تفسير ذلك بعدم ايمانهم بالقبور فذكرته بمرقد الامام أبوحنيفة ومرقد السيد عبد القادر الكيلاني واهتمام السنة بهما كمثل على أضرحة كثيرة منتشرة في بغداد وفي انحاء أخرى من العراق.
4- ويجب التذكير هنا بأن الامام أبو حنيفه وقف مع ثورات العلويين ضد الطغيان الذي بدت بوادره على السلطة العباسية، وقد عاقبه المنصور من خلال الالحاح عليه بقبول منصب قاضي القضاة، ولكن أباحنيفة رفض ذلك لوعيه بما يعنيه من شرعنة لسلطة الحاكم المستبد الذي أمر بايداعه السجن ومات فيه. كذلك الامام مالك ابن أنس الذي أفتى بالانضمام الى الثورة العلوية ضد المنصور ودفع ثمن ذلك السجن والتعذيب (بتعليقه من كتف واحدة حتى استطالت كتفه). هذه الحوادث الجسام تدفع في نفس الاتجاه وهو أن الخلفاء المستبدين لم يضمنوا تأييد السنة ولا مراجعهم، وكان ذلك من أسباب غلق المتوكل لباب الاجتهاد ليتخلص من خطر الفقهاء الكبار (وقابليتهم على تحريك المجتمع ضد السلطة) وارتكب بذلك واحدة من أخطر الجرائم بحق الاسلام وبحق العقل المسلم.
5- أما الفترة العثمانية فتعج بالأمثلة على مناهضة سنة العراق للسلاطين (الخلفاء منذ القرن 16) العثمانيين. ومنها التأرجح المستمر للامارات الكردية في التحالف مع ايران ضد السلطة العثمانية، أو العكس. ثم تحالف قبيلة شمر مع نادر شاه ومشاركتها لحصار بغداد في القرن 18، وتحول القبائل القربية من الدولة الى مذهب الشيعة لاسيما تلك التي استقرت بتشجيع من الدولة في الجنوب من بغداد لتكوين quot;حزام سنيquot; يساهم في تأمين بغداد، مثل شمر طوكة التي انفصلت عن القبيلة الأم، ثم أخيراً وليس آخراً نقمة السنة (كما الشيعة) من أهالي المدن ضد سياسة الدولة الاستبدادية وساهم ذلك فيما بعد في تبني الكثير من المثقفين لفكرة القومية العربية.

ان هذه الوقائع لا تعني أن العراقيين كانوا متحدين دائماً وبدون مشاكل، كما يروج البعض، انما عاشوا كأبناء مجتمع طبيعي عرف الاختلافات والمشاكل، وكأي مجموعة بشرية تعيش حالات التصارع والتوحد. الأهم هنا هو أن الاصطفاف الذي عرفه العراق، في حياته اليومية وطوال تاريخه الحديث، لم يكن بين السنة (ومعهم الحكام) من جهة والشيعة من جهة أخرى. بل كان الاصطفاف غير واضح على الدوام ولكنه وقع غالباً، وعلى أرض الواقع، بين السلطة ومن تعاون معها أو عمل في أجهزتها من جهة، مقابل المحكومين من السنة (بمثقفيهم ورؤسائهم) والشيعة (تحت لواء الأئمة وتوجيه المراجع)، من جهة أخرى. أي أنهم كانوا عموماً مقابل أو ضد السلطة العثمانية. ولم أذكر علماء السنة لأنهم كانوا قد اصطفوا مع الوقت مع السلطة العثمانية، وتم ذلك مع تكريس مؤسسة دينية في خدمة السلطة. وقد حصل تطور مع أحداث الحرب العظمى وأيام مناهضة الاتتداب البريطاني فاصطف الكثير من مثقفي السنة ورؤسائهم بشكل صريح مع مراجع الشيعة الذين قادوا الحركة الوطنية ولا سيما أيام ثورة العشرين. أما علماء السنة فلم يشاركوا في الحرب العظمى الى جانب العثمانيين، أولياء نعمتهم، ولا اشتركوا في ثورة العشرين، الا نادراً مثل السيد عبد السلام الحافظ في الحلة. وفي المقابل، كان السيد عبد الرحمن النقيب (الذ أصبح أول رئيس وزراء قبل وصول الملك!) والشاعر المعروف محمد صدقي الزهاوي على رأس مستقبلي برسي كوكس في محطة قطار بغداد، خريف عام 1920، ودماء الثوار لم تجف بعد، على حد تعبير المؤرخ الاستاذ عبد الرزاق الحسني.


الوضع الحالي
أعتقد جازماً مع الكثيرين بأن معرفة الماضي تساعد حقاً في معرفة الحاضر لأن الأخير نتاج القرون الماضية، ثم أن ذلك سينفعنا في معرفة أفضل لآفاق المستقبل. لكن هذا لايتم بشكل ميكانيكي بل يجب استخلاص الآليات السياسية والاجتماعية الماضية لتشخيص درجات وأشكال ظهورها على المشهد الاجتماعي الراهن. واذا أضفنا ما مرّ بالعراق منذ الملكية، ثم أيام العسكر والبعث الصدامي الفاشي، عند ذاك سنشخص ظاهرة متجذرة تتمثل في غياب مرجعية سنية حقيقية ومتجذرة في جماهيرها. ولن يغير هذا الواقع التاريخي وجود عناصر لم يعرفها العراقيون قبلاً وقد اصطفت تحت واجهة جديدة سموها quot;هيئة علماء المسلمينquot;، فالكل يعرف أنها واجهة تبرر للارهاب ولا مصداقية لها. وقد سألت الكثير من أبناء السنة من الأصدقاء والأقرباء في العراق وأكدوا لي أنهم لم يسمعوا مطلقاً بأسماء هؤلاء. لذلك يجب على الجميع أن لايسيئوا الى سنة العراق ويتصورا أن هؤلاء يمثلوهم، ولا زلنا ننتظر علماء السنة الحقيقيين أن يبرزوا على الساحة، انهم موجودون ولكنهم خائفون لأن الوضع الأمني والارهاب بالخصوص يمنعهم من منافسة الهيئة المذكورة.

من جهة أخرى، ان وجوهاً سياسية برزت بعد سقوط صدام، لم تكن هي الأخرى معروفة وقد غطت بنفس الطريقة، أي بقوة السلاح، على أبناء السنة من أصحاب المصداقية في أوساطهم ومن المعروفين بتربيتهم وثقافتهم واعتدالهم. لأن السيد مثال الآلوسي ليس مثالاً سائداً وهم عموماً غير قادرين على تأمين الحماية المطلوبة ولا مستعدين للتعرض لما تعرض له حيث أدت احدى محاولات الاغتيال التي استهدفته الى قتل ولديه.

نعم، يقوم هؤلاء الصداميون بقيادة أوركسترا مقيتة تهدف الى تضييع الانسان العراقي وتزييف وعيه، نعم يريدون تبرئة التكفيريين المارقين، كما فعل الضاري والدليمي والهاشمي ومطلق يومي 23 و 24 شباط، وهم يشككون في أبسط القيم في سبيل تبرئة المجرمين. وما أردت أن أبينه هنا هو أن الارهابيين القتلة (ومن وراؤهم) يريدون من خلال ضرب المرقد الشريف تهديم سامراء الرمز، سامراء الوحدة وعراق التآخي. لذلك فان الصراع يتجدد اليوم، كما هو عبر التاريخ، بين الانسان وأعداء الانسانية. وجاء قتلهم للصحفية النبيلة أطوار بهجت تكريساً لقتل الرمز المُوَحّد، حيث كانت من أبوين مختلفين في المذهب، وطنية معتدلة وكانت من سامراء !

لكل ذلك يمكن القول أن الشعب العراقي يعيش اليوم مخاضاً صعباً وفترة حرجة لأن هؤلاء الصداميين الممثلين لخط الاستبداد وانتهاك القيم الانسانية يطرحون أنفسهم كممثلين للسنة ودخل الأمريكان على الخط لايصالهم الى السلطة وقدم القادة الأكراد الاطار المطلوب لهم وأسموه quot;مجلس الأمن القوميquot;، ويصرون على ادخال هؤلاء الصداميين فيه كممثلين للسنة. لذلك يجب في نظري على جميع المخلصين سنة وشيعة وكل العراقيين أن يهبوا ويتحركوا لتقرير مصيرهم ويدفعوا القادة السياسيين ومنهم قادة الائتلاف الى تأليف حكومة وطنية حقيقية مع نواب مخلصين لمسيرة البلد الديمقراطية. لأن الحكومة الوطنية لا تعني تجميعاً على طريقة السفير الأمريكي وأمنه القومي، بل على أساس وحدة وطنية شعبية لعراقيين متفقين على برنامج وطني يؤكد قيم الحرية والعدالة ويحافظ على المكاسب الديمقراطية، ونتوقع أنهم سيشكلون الأغلبية المطلوبة. ان الشعوب هي التي تتحرك لصنع مستقبلها والا فمحكوم عليها بالتقهقر والموت. ان جرح سامراء أصاب العراقيين لأنه استهدف تاريخهم ووحدتهم وعليهم أن يكونوا بمستوى التحدي لتصبح مأساة سامراء الرمز مناراً لتأكيد ثوابت المستقبل.

د. محمد سعيد الشكرجي/ باحث أكاديمي - باريس
[email protected]