أثبت حزب البعث طوال تاريخه أنه يمتلك نخبة قديرة من مفكرين Think tank يتصفون بالعبقرية في الإجرام بكل امتياز. إذ يتميز هذا الحزب بقدرته الفائقة على خلق الرعب وبث الخوف في صفوف المجتمع المبتلى به مثل العراق وسوريا، سواءً كان في السلطة أو خارجها. ولذلك فلا غلو عندما أطلق سمير خليل (كنعان مكية) إسم (جمهورية الخوف) على العراق في عهد البعث. والبعثيون الحقيقيون، (وليس المرغم منهم على الانتماء) تجمعهم صفات مشتركة، منها النزعة السادية والقسوة المتناهية والرعونة في السلوك والاستعلاء في التعامل مع الآخرين، والتظاهر الزائف بالمعرفة، والأسوأ من كل ذلك، عدم احترامهم لحياة الإنسان كفرد أو كشعب، ولا يبالون بإتباع أخس الوسائل دناءة وخطورة في تحقيق مآربهم حتى ولو أدت إلى تدمير العالم.

فالحزب منذ تأسيسه في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، يميل على رفد المجرمين في صفوفه والاستفادة منهم في تسخيرهم للعدوان على الخصوم السياسيين. وهذه ليست تهمة مفترضة، بل يشهد بها الأستاذ حسن العلوي (بعثي سابق) في كتبه، إذ يبيِّن لنا كيف استثمر البعثيون المعتقلون في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم على تجنيد المجرمين من البلطجية والشقاوات في السجون. وفعلاً أنظم معظم المجرمين المعروفين في العراق إلى حزب البعث مثل يوسف قوجان وهوبي الأعور وغيرهما من حثالات المجتمع العراقي آنذاك. وقام هؤلاء بأعمال إجرامية منظمة مرعبة بقيادة الحزب بحق الوطنيين وبالأخص اليساريين. ومنذ ذلك الحين شهد العراق موجات متلاحقة من عمليات الاغتيال السياسي. ففي الموصل وحدها تم اغتيال أكثر من 800 مواطن عراقي بعد مؤامرة الشواف عام 1959 والتي مولتها ونظمتها المخابرات الناصرية، كما أكد ذلك أكرم الحوراني في مذكراته.

ولأول مرة سمع العراقيون على نطاق واسع بحزب البعث كان بعد ثورة 14 تموز 1958، حيث عملوا على إفشال الثورة، بطرحهم شعار (الوحدة الاندماجية الفورية) مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) ودخلوا في صراع دموي مع قوى اليسار، حيث استغلت القوى الخارجية المعادية للثورة حزب البعث ووظفته كأداة ضاربة لتنفيذ المؤامرة الدموية القذرة ضد ثور تموز بخلق الفوضى في البلاد وإرباك القيادة الوطنية وعرقلة تنفيذ أهداف الثورة، كما يجري الآن، ومن ثم اغتيالها، فتم لهم ذلك بانقلابهم العسكري الدموي يوم 8 شباط 1963 الأسود، حيث واجهوا جماهير الشعب المدافعة عن ثورتها بالقتل العشوائي. وخلال أسبوع واحد قتلوا نحو عشرين ألف من الوطنيين العراقيين، واكتظت السجون بعشرات الألوف من المعتقلين مما اضطر الإنقلابيون الشباطيون إلى تحويل النوادي وساحات الملاعب الرياضية إلى معتقلات وقاعات للتعذيب. فهل هناك قسوة أكثر من ذلك؟ وقد بلغ إرهابهم واستهتارهم حداً حيث طال حتى حلفاءهم القوميين، مما أضطر عبدالسلام عارف ومعه الضباط القوميون أن ينقلبوا عليهم في تشرين الثاني من نفس العام.

وبعد اغتصابهم السلطة ثانية عام 1968، اخترعوا سلسلة متواصلة من الوسائل الرهيبة لبث الرعب في المجتمع وإيذائه، منها لعبة الحنطة المسمومة التي وزعوها على الفلاحين والتي أدت إلى موت الألوف منهم فاشغلوا المجتمع أشهراً بالكارثة. وفي السبعينات اخترعوا شخصية (أبو الطبر) والذي كان يقوم بها صدام حسين نفسه، حيث كانت الأجهزة الأمنية البعثية تقوم بالغارات الليلية على بعض العائلات البغدادية الثرية ومن خصوم البعث، فتقتلهم ببشاعة لم يسمع بها العراقيون من قبل وذلك عن طريق ضربات قاتلة على رؤوس الضحايا بالفأس (الطبر، باللهجة العراقية). وبعد أشهر من عمليات الرعب هذه استخدموا قصة أبو الطبر ذريعة للسطو على جميع سكان بغداد في يوم واحد أعلنوا فيه منع التجول وقاموا بتفتيش البيوت بحجة البحث عن (أبو الطبر)، وكانت الغاية البحث عن أسلحة وكتب وأدبيات سياسية للمعارضة. وبعد أن حققوا مآربهم أعلنوا أنهم قبضوا على المجرم وكان ما كان من مشاهد تلفزيونية مضحكة لخدع الشعب والادعاء بالبطولة لأجهزتهم الأمنية quot;الواعيةquot; والعيون quot;الساهرةquot; التي استطاعت إلقاء القبض على المجرم أبو الطبر!!

أما عن زج الألوف من الوطنيين في السجون والمعتقلات بشكل عشوائي خلال حكمهم الأسود فحدث ولا حرج، إذ كانوا يختلقون مؤامرات وهمية ليتخذوها ذريعة لإعدام المئات من الأبرياء العسكريين والمدنيين الذين أجريت لهم محاكمات صورية في يوم واحد من عام 1969 ونفذ حكم الإعدام بحق العشرات منهم في نفس اليوم.
إن ما يجري في العراق الآن من إرهاب ليس غريباً على الشعب العراقي، فهو من حزب البعث وصناعته المعروفة، وما إسم الزرقاوي إلا اختراعاً جديداً على غرار (أبو الطبر) حيث يرتكب البعثيون جرائمهم بحق المجتمع وباسم شخص وهمي.

آيديولوجية البعث
لقد أثبت التاريخ خلال الخمسين عاماً الماضية أن حزب البعث هو حزب إرهابي بكل معنى الكلمة، يتبنى الإرهاب في تحقيق أغراضه والحفاظ على سلطته بأسوأ الوسائل دناءة وخسة ومهما كلف الأمر. إن أيديولوجية البعث هي نسخة مطورة من الفاشية والنازية شريرة ومعادية للإنسانية إلى أبعد الحدود. ونقولها مرة أخرى أنه يخطأ من يحاول تبرئة البعث وإلقاء جرائمه على صدام حسين وحده. فمعظم القادة البعثيين ساهموا في ارتكاب الجرائم بحق الشعب العراقي منذ ثورة تموز 1958 وإلى الآن. إذ أين كان صدام حسين في انقلاب 1963، حيث كان بعثياً قاعدياً مغموراً بدرجة نصير ليس غير؟ وهل يختلف علي صالح السعدي وصالح مهدي عماش وطه الشكرجي وغيرهم من فرسان كارثة شباط 1963، وناظم كزار أو طه ياسين رمضان الجزراوي أو عزت إبراهيم الدوري عن صدام حسين في الجرائم؟ وهل نعتبر ناظم كزار مناضلاً شريفاً لأنه أعدم على يد صدام حسين؟ نقولها للمرة العاشرة، أن الصراع الذي جرى بين مختلف أجنحة البعث لم يكن صراعاً بين الخير والشر بل، كان صراعاً بين الشر والشر. وفي هذه الحالة دائماً ينتصر الجناح الأكثر شراً والذي كان يقوده صدام حسين. لقد انتصر صدام حسين في الصراع البعثي- البعثي، لأنه كان الأكثر انسجاماً مع أيديولوجية البعث الشريرة وأكثر تأهيلاً لزعامة الحزب وquot;دولة المنظمة السريةquot;.

صدام حسين عبقري في الإجرام criminal genius بامتياز. بمعنى أنه سايكوباث وتنطبق عليه جميع الصفات السايكولوجية السايكوباثية، حسب دراسة قيمة كتبها الدكتور محمد صادق المشاط (سفير العراق في واشنطن إثناء غزو الكويت)، تفضل عليَّ المؤلف مشكوراً بنسخة مخطوطة من الدراسة في طريقها للنشر قريباً. لذلك فليس غريباً أن ينتصر صدام على منافسيه في الحزب ويتبوأ قيادة الحزب. نعم، أتعاطف مع أولئك الذين انظموا إلى هذا الحزب عن نوايا حسنة إيماناً منهم بالأهداف المعلنة (الوحدة والحرية والاشتراكية) وتأكد لهم فيما بعد أن المقصود منها هو العكس تماماً. ومن هنا تبرز عبقرية أعداء الإنسانية من مؤسسي البعث الفاشي في تبديد الطاقات البشرية في البلدان العربية والتي كان من الممكن توظيفها للخير وخدمة شعوبها فحولوها إلى أدوات شريرة للتدمير.

أعتقد جازماً، أن الزرقاوي أقرب إلى شخصية وهمية مثل شخصية أبو الطبر في السبعينات من القرن المنصرم، اخترعها البعث قبل سقوطه من أجل ارتكاب أبشع الجرائم باسمه. وقد أحاطوا هذه الشخصية بقدرات خارقة على التأثير على أتباعه وخدع أعدائه والتخلص من إلقاء القبض عليه وإلحاق أشد الأضرار بخصومه. وحتى لو كان هناك وجود مادي لمثل هذا الشخص وتنظيم (القاعدة في بلاد الرافدين) فإن هذا الشخص وتنظيمه لا يمكن لهما العمل في العراق ما لم يكونوا تحت قيادة وتوجيه البعث، لأن الجرائم البشعة التي ترتكب بحق الشعب العراقي يخطط لها بعثيون عراقيون غلاة وينفذها معظمها بعثيون أيضاً إذا ما استثنينا العمليات الانتحارية التي يقوم بها الإرهابيون الإسلاميون الوافدون من البلاد العربية. ويستخدم البعث اسم الزرقاوي وتنظيمه كواجهة لارتكاب جرائمهم ونشر بياناتهم باسمهما، لأنهم يعرفون أن هذه الجرائم مثل تفجير العتبات المقدسة وضرب دور العبادة، الشيعية والسنية والمسيحية، هي من الجرائم التي يندى لها الجبين وتدينها جميع مكونات الشعب العراقي.
ومما يؤيد هذه الفرضية دراسة نشرتها صحيفة (الحياة) اللندنية بعنوان (صدام أول من سعى الى جذب التنظيمات الأسلامية ثم ندم) من حلقتين في 25-26 شباط/فبراير 2006. والتقرير مطول وفيه يلقي الكاتب بعض الضوء على التنظيمات الإرهابية ومعظمها بعثية تحمل أسماءً إسلامية.

توافق العروبية مع الإسلاموية
والجدير بالذكر أن هناك انسجاماً وتناغماً بين الأيديولوجية القومية العربية والآيديولوجية الإسلاموية. ومزج الأيديولوجيتين يؤدي إلى مضاعفة تأثيرهما في التدمير synergism ، فعلى سبيل المثال، في السودان أعلن جعفر النميري، العروبي الهوى، تطبيق حكم الشريعة في السنوات الأخيرة من حكمه، كما جمع حزب حسن الترابي-البشير، بين القومية العربية والإسلاموية. وفي مصر استخدم الراحل أنور السادات quot;الرئيس المؤمنquot; الإسلام والإسلاميين في محاربة التيار العلماني الديمقراطي قبل أن ينقلب عليه الإسلامويون ويغتالوه. وفي التسعينات من القرن الماضي أعلن صدام حسين (الحملة الإيمانية) وخطط لبناء أكبر جامع في العالم باسم (جامع صدام حسين) يكلف المليارات من الدولارات في زمن الحصار، كما أعلن عن مسابقات لحفظ القرآن الكريم وإطلاق سراح كل سجين مجرم ينجح في هذه المسابقة. ويا للمهزلة، الآن يدخل صدام حسين وأعوانه قفص الاتهام في محاكمة القرن وهم يحملون نسخاً من القرآن الكريم. وهذا نفاق مفضوح، إذ لدي فيديو عن أحد مؤتمرات حزب البعث في بغداد، يرغم فيه أعضاء قياديون على سحب ترشيحهم للقيادة القطرية لأنهم متدينون. وقد حاول هؤلاء الدفاع عن أنفسهم بنفي quot;تهمة التدينquot; وبحضور صدام حسين ولكن دون جدوى!!!!

خلاصة القول
أن حزب البعث يتمتع بخبرة هائلة في الخبث والمكر والدهاء واختراع أساليب جهنمية في الإجرام. وهو يتلوَّن كالحرباء وفق متطلبات المرحلة ويتبنى مختلف الوسائل الخبيثة التي تلائمه لارتكاب جرائمه وتمرير مخططاته. فما يجري الآن هو ليس حرب أهلية بين السنة والشيعة كما يحلو للبعض الدق على الطبول، بل إنه حرب تشنه فلول البعث المتأسلم وحلفاؤه الإرهابيون الإسلاميون الوافدون من شذّاذ الآفاق، على الشعب العراقي بجميع مكوناته الأثنية والدينية والمذهبية. وأكرر ما قلته سابقاً، (فذكر إن نفعت الذكرى)، أن البعثيين السنة يهاجمون الشيعة تحت واجهة المنظمات الإسلامية الإرهابية وبقيادة الزرقاوي السنية، والبعثيون الشيعة انظموا إلى جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر، يهاجمون السنة ومساجدهم باسم الشيعة. وهذه لعبة بعثية قذرة بامتياز، القصد منها إشعال حرب أهلية بين السنة والشيعة، لا تبقي ولا تذر، على أمل إفشال العملية السياسية الديمقراطية في العراق وعودة البعث للحكم ثالثة. وهذا من أحلام العصافير، لأن في نهاية المطاف، لا يصح إلا الصحيح ولو بثمن باهظ يدفعه الشعب.