قبل ان ندخل الى موضوع المعركة وتفاصيلها يحسن بنا ان نسلط مزيداً من الضوء على جيش ابن زياد، سواء على صعيد الكم ام على صعيد الهوية، وذلك انّ االاقوال في هذين المجالين متضاربة، ويشوبها الكثير من المفارقات.
لقد تضاربت الاخبار حول عدد جيش عبد الله بن زياد لمقاتلة الذي أُعد لمقاتلة الحسين وبدرجة فائقة ومدهشة، فقد وصل به صاحب أسرار الشهادة إلى آلاف فارس والف الف راجل، وفي هامش تذكرة الخواص مائة ألف، وفي تحفة الأزهار لابن شدقم كان ثمانين ألفا 231 ــ مقتل الحسين للمقرم 2 / 6 ــ

كانت المجموعة الأولى قد وصلت كربلاء من جيش ابن زياد هم فرسان ابن سعد، وعددهم أربعة آلاف، وذلك في 3 محرّم سنة 61 للهجرة. وهذه المجموعة نصّ عليها كل المؤرخين بلا خلاف تقريبا، ويوجزها صاحب انساب الاشراف بقوله (فشخص عمر بن سعد الى الحسين في أربعة آلاف حتى نزل بإزائه ـ الحسين ــ) 232 ــ المصدر ص177 ــ ولكنّنا نعرف إن ابن زياد سبق وارسل الحر لاستقدام الحسين في الف فارس، وقد وافاه بـ (ذي حسم) قادماً من القادسية، وقد سايره حتى كربلاء، وذلك في 2 / محرم، كما نصّ عليه الطبري والكامل وأنساب الاشراف والارشاد للمفيد، وفي 3 محرّم قدم عمر بن سعد من جهة أُخرى، فهل هي خطّة ابن زياد ان يحارب الحسين في كربلاء؟ أم ان المسألة كانت خاضعة لعفوية الاحداث؟ أعتقد ان عبيد الله بن زياد كان حريصاً على مواجهة الحسين خارج الكوفة، وذلك خوفا من استثارة تناقضاتها وأمكاناتها المتعاطفة مع الحسين، ومهما يكن من أمر فإنّ الذي نستفيده من الروايات السابقة ان عدد جيش ابن زياد في كربلاء أزاء الحسين كان خمسة آلاف في يوم 3 محرّم، ولكن الغريب في الامر هو غياب الحر الى اليوم العاشر، حيث لم يُسنَد له أيّ دور خلال هذه الفترة الحسّاسة المتحركة بالحوار والوفود والترقّب! في هذ ه الأثناء أخذ ابن زياد يزوّد ابن سعد بقطاعات متتالية من العسكر، وهذا يستوجب جمعهم في نقطة معينَّة، وتشير المصادر الى انّ عبيد الله بن زياد (لما سرّح عمر بن سعد... أمر الناس فعسكروا بالنخيلة) 233 ــ نفس ا لمصدر ص 188 ــ ومن (النخيلة) بالذات شرع ابن زياد بارسال القطعات تباعاً، ونريد الآن استقصاء هذه القطعات، ومراجعة شاملة لهذه القطعات سوف نراها وفق المسلسل التالي: ــ
bull;شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلا ف فارس.
bull;زيد أو زيد بن ركاب الكلبي في ألفين.
bull;الحصين بن نمير في أربعة آلاف.
bull;المصاب الماري في ثلاثة آلا ف.
bull;نصر بن حربة او حرشة في ألفين.
bull;شبث بن ربعي في ألف.
bull;كعب بن طلحة في ثلاثة آلاف.
bull;حجار بن أبجر في ألف.
bull;مضاير بن رهينة المازني في ثلاثة آلاف.
هذه هي القطاعات العامّة التي أرسلها ابن زياد خلفا لابن سعد الذي كان ينتظره الحرّ في ألف فارس، وبذا يكون عدد العسكر الذي تجمّع في عرصات كربلاء ثمانية وعشرون الفا 234 ــ انساب الاشراف 178، فتوح ابن الاعثم 5 / 89، ابن شهراشوب 2 / 215 ــ
أن أوّل ملاحظة تردُ في هذا المجال هو أنّ بعض هذه القيادات لم نجد لها ذِكراً في المصادر المتقدمة، فهذا (مضاير بن رهينة المازني) و (كعب بن طلحة) لم نقرأ عنهما في الطبري وابن عساكر والبداية والنهاية واليعقوبي وانساب الاشراف الذي كان حريصاً على ذكر القيادات والزعامات التي الحقها ابن زياد بعرصة كربلاء، بل لم نقرأ عنها حتى في (فتوح) ابن الاعثم المعروف بطابعه السردي الحكاواتي، فهل يمكن إغفال هذين القائدين من قِبل الرواة المعروفين وهما على هذه الجموع في ساحة كربلاء؟ لقد اوردهما ابن شهراشوب في (مناقب آل أبي طالب) والكتاب ليس من المصادر التاريخية المشهورة او المعتبرة، ورواياته مراسيل في اكثر الاحيان.
ونواجه شيئاً من الغموض ونحن نقرأ مقتل الخوارزمي في صدد تلكم القيادات التي جهّزها زياد بأعداد ضخمة لمقاتلة الحسين، فهو في معرض استقصائهم يقول (... فأول من خرج الى عمر بن سعد شمر بن ذي الجوشن... وفلاناً المازني، في ثلاثة آلاف، ونصر بن فلان في آلفين...) 235 ــ مقتل الخوارزمي 1 / 222 ــ مع العلم انّه ينقل ذلك عن الفتوح! وتجهيل الاسماء في مثل هذه الحالات نقطة ضعف في الخبر. ومثل هذا الابهام يساهم في تعقيد مهمّة استكشاف الحقائق التاريخية، والمشكلة نفسها مع أسماء آُخرى، وذلك مثل (زيد أو يزيد بن ركاب الكلبي، والمصاب الماري، ونصر بن حربة) 236 ــ الفتوح 5 89 ــ نعم هناك (زيد بن رقاد الجنبي) وهذا رجل لعب دوراً في قتال الحسين ولكن لم تذكر المصادر انّه كان قائدا! فقد غابت هذه القيادات في المصادر الاخرى، وهذه المفارقة تثير القلق، وتشجع على اتخاذ الموقف الحذر،لانّ المؤرخين والرواة العرب شغوفون باستقصاء جزئيات الحروب والمقاتل، خاصّة على صعيد القيادات العسكرية، وعدد الجنود والقتلى! وكما قلنا انّ أبن اعثم لا يُعرَف كمؤرخ دقيق بقدر ما هو سردي، ويميل الى المبالغة في تأصيل وتوكيد مأساة كربلاء، والغريب في الامر أنّ غياب هذه الاسماء ليس على صعيد الدور القيادي فحسب، بل ليس لهم ذكر على الاطلاق في اسفارنا التاريخية المهمة!
موضوع الشمر في آلافه الاربعة هو الآخر محل نقاش، فلم نجده على لسان الرواة المعروفين، فهذه الرواية لم نجدها الاّ عند ابن الاعثم، والاخرون نقلوها عنه تباعا، ونحن إذا تتبعنا دور الشمر في قضية الحسين سوف نجده جوهريا، فالرجل من الذين كاتبوا الحسين، ولكنه التحق بعبيد الله بن زياد في القصر، وكان من جملة الذين كلّفهم بتخذيل الناس عن مسلم بن عقيل، وكان هو الذي حمل الرسالة من عبيد الله بن زياد الى عمر بن سعد يُعلمُه فيها انزعاجه من تردّده في حرب الحسين، ومن محاولته لحقن الدماء، وسعيه لأقناع الحسين بمجانبة القتال بأي شكل من الاشكال، ومن جملة ما جاء في الرسالة (...أنْ انت مضيت لامرنا فيه جزيناك فيه جزاء السامع المطيع، وانْ ابيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر، فإنّأ قد أمرناه بأمرنا...) 237 ــ الطبري 6 / 341 ــ ومن هنا نفهم ان الشمر كان في الكوفة ثم التحق بعمر بن سعد، في أواخر أيام الطف، لان الطبري يقول انّ ابن سعد نهض لحرب الحسين بعد وصول هذه الرسالة، وذلك (عشية الخميس لتسع مضين من المحرّم) 238 ــ نفس المصدر 342 ــ
لقد بعث عبيد الله بن زياد الشمر بن ذي الجوشن من (النخيلة) التي تمركز بها ابن زياد بالجموع الحاشدة بعد وصول ابن سعد الى كربلاء في 3 / محرّم 61 للهجرة، ومع هذه المقتربات يكون من الصعب جداً ان يهمل رواة الطف هذا العدد الضخم من الفرسان والرجال الذين سار بهم شمر بن ذي الجوشن الى ساحة كربلاء، كما قلنا انّ هذا العدد بقيادة الشمر لم يرد الاّ عند ابن أعثم.
يقول الدينوري (ثم وجّه ـ أبن زياد ـ الحصين بن نمير ـ تميم ـ وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وشمر بن ذي الجوشن ليعاونوا عمر بن سعد) 239 ــ ص254 ــ و(وجّه ايضا الحارث بن يزيد بن رويم) 240 ـ ص 254 ــ وكان ذلك بعد التجمّع الاول في النخيلة، كما ينص الدينوري وغيره، ولم يبيِّن صاحب المصدر المذكور عدد الفرسان والرجال الذين صحبوا كل قائد من هذه القيادات، ولكن البلاذري فصّل هنا، والغريب في هذا التفصيل أنّه لا يشمل الآلاف الأربعة الذين أدّعى أبن اعثم انهّم كانوا بإمرة الشمر، وهذا دليل آخر على أن خبر ابن اعثم بهذا الخصوص محل نظر. ومهما يكن من أمر لا بدّ أن نتتبع تفصيلات البلاذري.

يقول (ثم خرج ابن زياد فعسكر وبعث الى الحصين بن تميم ـ ويرد احيانا نمير ــ وكان بالقادسية في أربعة الاف، فقدم النخيلة في جميع من معه... وسرّح ابن زياد أيضا حصين بن تميم في الاربعة الاف الذين كانوا معه الى الحسين بعد شخوص عمر بن سعد بيوم أو يومين) 241 ـ 178 ـ وهنا ملاحظة مهمة، ذلك ان ابن زياد كان قد ارسل على الحصين لمحاصرة الحسين، ففي الطبري (ولما بلغ عبيد الله بن زياد اقبال الحسين من مكّة الى الكوفة بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حتى نزل القادسية، ونظم الخيل ما بين القادسية الى خفَّان، وما بين القادسية الى القطقطانة والى لعلع...) 242 ـ 6 / 326 ــ وهذه المسافة الطويلة المتشعّبة تحتاج الى عدد كبير من المتمرسين باعمال الرصد والمتابعة، وذوي خبرة بممارسة هذه المهمات، وهم شرطة ابن زياد أصلا، وقد اختارهم بعناية فائقة، وأدوا ادوارهم الارهابية بجد، فهم الذين لقوا مبعوث الحسين قيس بن سهر الصيداوي، وبعثوا به الى عبيد الله بن زياد ليقتله في الكوفة 242 ــ الطبري 6 / 331 ــ وضبطوا المراصد و الطرق، على انّ الشيئ المهم هنا، إنّ البلاذري نفسه يقول (وكان مجيء الحر اليه ـ يعني الى الحسين ــ من القادسية، قدمه الحصين بن تميم بين يديه في الف، فلم يزل الحر موافقاً الحسين) 243 ـ البلاذري ص 170 ـ
ان شرطة ابن زياد بقيادة وامرة (الحصَّين) هم من الحميراء كما هو معروف أي من بلاد فارس، فهم فرس، وبالتالي هناك اربعة الاف من هذه الشرطة ساهمت في معركة كربلاء حسب هذه المعطيات التاريخية، ومنهم من شارك باستقدام الحسين مع الحر، بل كانوا قبل الحر في القادسية!
يقول البلاذري وهو يحصي العسكر الذي بعثه ابن زياد لمعاونة عمر بن سعد (ووجّه حجار بن ابجر العجلي في الف، وتمارض شبث بن ربعي فبعث إليه فدعاه، وعزم عليه ان يشخص الى الحسين في الف، ففعل ... ووجّه ايضا يزيد بن الحرث بن يزيد بن رويم في الف... ثم جعل ابن زياد يرسل العشرين والثلاثين والخمسين ال المائة، غدوة، وضحوة، ونصف النهار، وعشية من النخيلة يمدّ بهم عمر بن سعد...) 244 ــ انساب الاشراف ص 178 ــ ومن الطبيعي ان يقف الانسان حائراً أمام هذا الجمع الهائل، ولكن من حقنا أن نسال كم وصل من هؤلاء الى كربلاء؟

الجواب نجده عند البلاذري نفسه (... وكان الرجل يُبعَث في الالف فلا يصل الاّ في ثلاث مأة، وأربع مأة، وأقل من ذلك، كراهة منهم لهذا الوجه) 245 ــ انساب الاشراف ص 179 ــ وفي الاخبار الطوال (كان ابن زياد اذا وجّه الرجل الى قتال الحسين في الجمع الكثير يصلون الى كربلاء، ولم يبق منهم الاّ القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين، فيرتدعون ويتخلّفون) 246 ــ ص 254 ــ تُرى كم هو(القليل) نسبة الى الالف مثلاً؟ حتماً ليس هو الثلث أو الربع، وإلاّ لجاءت التسمية بهذه النسب، فالقليل يُستعمل في الندرة، فان قليل الالف من نسبه الصغيرة، ويبدو انّ عبيد الله بن زياد اضطرب إزاء هذه الحملة، لذا أمر بالتطواف في الكوفة، وتفتيش أزّقتها 247 ــ انساب الاشراف 179 ــ حقاً انّ هذا الاجراء يكشف عن ان هذه البعوث العسكرية كانت متعثرة، ولم تجر حسب الرغبة التي صمّمها ابن زياد، بدليل انّه اعدم رجلاً من همدان، ليس كوفيِّاً، جاء يطلب ميراثاً له 248 ــ المصدر 179 ــ أن هذا العمل ليس لارهاب الناس بالتوجّه الى كربلاء، بل لقطع الطريق على تخلّفهم وتعثّرهم وهروبهم، وينبغي التمعّن في عبارة الدينوري (... فيرتدعون، ويتخلّفون).

كان الدكتور عبد الله الفياض رحمه الله تعالى يقصر عدد الذين قاتلوا الحسين على ثلاث آلاف مقاتل، كما أن الشيخ أسد حيدر يقصرهم على الآلاف الأربعة الذين كانوا مع عمر بن سعد وهم من الحميراء، أي فرس، ومهما قيل في هذه القضية فإن هناك مبالغات كبيرة في تعداد هذا الجيش، وهناك أهداف مبيتة وراء هذه المبالغات، منها الإساءة لأهل الكوفة والعراقيين، ومنها شغف المؤرخ العربي بالمبالغة في مثل هذه الأمور،ومنها من أجل تعميق الموقف المعادي لبني أمية،ومنها الطمع في الإثارة والتشويق لغايات لا تخرج في بعضها عن أغراض مادية رخيصة، خاصة لدى بعض قراء المنبر الحسيني، وسوف نتعرض بالتفصيل ــ فيما بقيت حيا ــ إلى هوية هؤلاء المقاتلين العرقية والعشيرية، وسوف نرى أشياء جديدة في هذه القضية الحساسة.
غالب حسن الشابندر