الحالة التي تمر بها الشعوب العربية فعلا (لا تسرّ صديقا ولا تغيظ عدوا)، ويسهم في ضبابية هذه الحالة تدفق الفتاوي من شيوخ الدين الإسلامي، التي تتعلق بكافة جوانب حياة المواطن المسلم بما فيها أدق التفاصيل التي لا تمسّ روح الدين الإسلامي ولا أساسيات الإيمان الحقيقي، ويزداد الأمر صعوبة وخلطا عند المواطن العادي بسبب شيوع الأمية التعليمية والدينية، حيث ترتفع نسبة الأمية التعليمية في عموم الأقطار العربية إلى ما يزيد على خمسة وستين في المائة حسب تقارير التنمية البشرية العربية التي أعدها خبراء و مختصون عرب، وكذلك بسبب ما يمكن تسميته (الفتوى والفتوى المضادة)، إذ من النادر أن تصدر فتوى من شيخ دون فتوى مضادة من شيخ آخر، وبالتالي ماذا يفعل المسلم العادي وأية فتوى يتبع ؟؟. وضمن هذا السياق أصدر مفتي مصر الدكتور علي جمعة قبل أيام قليلة فتوى حملت الرقم 68، حرّم فيها تزيين المنازل بالتماثيل، واستند في ذلك إلى حديث الرسول (ص) الذي رواه أبو طلحة: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)، وحديث آخر رواه ابن مسعود (إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصورون). وقد أثارت هذه الفتوى جدلا واسعا خاصة في الأوساط الثقافية والصحافة المصرية، شارك في هذا الجدل عدد كبير من الكتاب والمثقفين والفنانين، خاصة أن الصحفي المصري سعد هجرس، طلب من المفتي رأيه في موقف ابنته المتزوجة من نحات، فأجابه: (لا تطلق ابنتك من زوجها وساير العصر)، دون أن يبين المفتي هل مسايرة العصر تنطبق أيضا على التماثيل التي يصنعها زوجها النحات، وإن كان ذلك فلماذا أصدر الفتوى أساسا ليحدث كل هذه البلبلة والخلاف ؟. خاصة أن موقفه بعد إصدار الفتوى المذكورة لم يكن ثابتا، ففي ندوة عقدت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من مارس الماضي، أعاد تمسكه بالفتوى معززا رأيه بأن هناك فتاوي لمفتين سبقوه حرموا التماثيل، لكنه في الندوة ذاتها بدأ بالتراجع عن الفتوى إذ قال: (تحريم التماثيل استنادا إلى أن الرأي الغالب لدى الأئمة هو تحريم التماثيل، وأن هناك رأيا ضعيفا بعدم تحريمها). وفي برنامج تلفزيوني لاحق مساء الثلاثاء الثامن والعشرين من مارس الماضي، تراجع بشكل واضح عن فتواه المثيرة للجدل، عندما قال: (إن هناك أراء تحرم التماثيل وأخرى تبيحها ونحن نأخذ بفكرة الإباحة)، مبررا أخذه بفكرة الإباحة (لأنه الحل الأمثل للخروج من الخلاف وضرورة التعايش مع مقتضيات الظروف التي يفرضها الواقع). والسؤال المهم هو: مادام المفتي سيصل أخيرا إلى تغليب رأي التحليل على رأي التحريم ن فلماذا إصدار الفتوى من أساسها ؟ خاصة في ظل الأمية التعليمية والدينية السائدة في مصر وعموم الأقطار العربية. ويصبح من المنطقي القول أن أصحاب الفتاوي يصدرون بعضها، وينتظرون ردود الفعل الشعبية والرسمية، فإن نالت الرضا تمسكوا بالفتوى، وإن قوبلت بردود فعل عنيفة مستهجنة مفندة تراجعوا عنها، خاصة أن موضوع الشريعة الإسلامية فيما لا يتعلق بأمور الإيمان والتوحيد، يعطي مجالا واسعا للاجتهاد من الأمر إلى نقيضه، وما يجعلني أميل إلى هذا الرأي هو أن تراجع مفتي مصر جاء بعد انتقادات شديدة ورفض كامل من مثقفي مصر المشهورين وبعض المسؤولين كوزير الثقافة فاروق حسني الذي هو أيضا فنان تشكيلي، وتذكيره كذلك بفتاوي سابقة قبل ما يزيد على قرن للإمام محمد عبده الذي حسم الأمر مبيحا النحت والتماثيل، على اعتبار أن التحريم قد انقضى عهده بزوال عبادة الأصنام، وبدليل أنه في زمن سيدنا سليمان عندما لم يتعلق الأمر بعبادة الله و توحيده، كانت التماثيل من نعم الله على سيدنا سليمان، كما جاء في سورة سبأ (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) الاية 12 و 13.

والمشكل في الأمر أن موضوع هذه الفتوى خطير للغاية، لأسباب عديدة منها:
الأول: ليس لأنها تتناقض مع فتاوي سابقة فقط، ولكنها تتجاوز مسيرة وسلوك التاريخ الإسلامي في مصر بالذات، إذ لم تتعرض كل الحكومات الإسلامية في مصر منذ عصر الخليفة عمر ابن الخطاب وقائده عمرو ابن العاص لتماثيل مصر، لأنه لو حدث هذا التعرض الناتج عن رأي تحريم التماثيل، وتم تدمير نسبة من هذه التماثيل في عهد كل دولة إسلامية من الطولونية إلى الفاطمية إلى الأيوبية إلى المملوكية إلى العثمانية، لما بقيّ في مصر تمثال من عشرات الالآف التي تعج بها ميادين مصر ومتاحفها، حيث يقال أن مالا يقل عن ثلثي التماثيل في العالم موجودة في مصر.

الثاني: وهو الأخطر في ظل نسبة الأمية التعليمية والدينية، وتصاعد التعصب الذي يؤمن بالتكفير دون التفكير، فمن يضمن أن لا يفخخ الجهلة أنفسهم لتدمير تماثيل رمسيس و طه حسين و نجيب محفوظ وطلعت حرب وجمال عبد الناصر و عبد المنعم رياض وغيرها الالآف في الميادين والمتاحف المصرية !!. خاصة أن فكر التعصب التكفيري هذا، له قدوة في ملالي طالبان الذين حاولوا قبل سقوط نظامهم عام 2002 أن يدمروا تماثيل بوذا التاريخية، ورفض محاولتهم تلك كافة علماء المسلمين من كافة الطوائف، وقام وفد من علماء الدين من العديد من الأقطار العربية والإسلامية من بينهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بزيارة أفغانستان لإقناع ملالي طالبان بالعدول عن فكرة تدمير التماثيل.

وقد عالج الدكتور القرضاوي الموضوع في كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) من ص 96 إلى ص 113 موضحا حالات التحريم والتحليل، بتفاصيل من الصعب على المسلم غير المتعلم أن يلمّ بهذه التفاصيل ليضع يده على مواطن التحريم والتحليل، في حين أن الدكتور محمد عمارة ومنذ محاولات طالبان تلك، وضّح الأمر بطريقة سهلة تناسب عقلية البسطاء من العرب حيث قال: (التماثيل حطمها الصحابة عندما كانت شبهة للعبادة، واستخدموها عندما لم تكن شبهة للعبادة.....وقد أجمع العلماء على أن التماثيل إذا أدت إلى منفعة فإنها تكون حلالا، واستدلوا بالحديث الصحيح الذي جاء عن السيدة عائشة أنها كانت تلعب وهي زوج لرسول الله (ص) لعبا منها تماثيل خيل، أي تماثيل لأحياء، وكانت تسمى خيل سليمان، وكانت لها عرائس و تماثيل ودمى تلعب بها، وعندما دخل رسول الله (ص) وهي تلعب مع صواحبها بهذه التماثيل لم يغضب منها ولم ينه عن ذلك، بل عندما خجلت صواحبها منه قربهن إليها ثانية كي يلعبن معها). إزاء كل هذه التفاصيل الفقهية السابقة لفتوى مفتي مصر، وهي تفاصيل يلم هو بها أكثر منّا، نستغرب هذا التسرع في إصدار فتواه تلك، وأقول التسرع بدليل تراجعه عنها كما أوضحت، ولكن الجهلة المتعصبين كعادتهم، سمعوا بالفتوى ولن يسمعوا تراجعه عنها، لأن كلمة ونداء الخير من الصعب أن ينتشر بين العامة بعكس نداءات العنف والقسوة، فضمن هكذا أجواء تم اغتيال الكاتب فرج فودة ومحاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ، وضمن الأجواء نفسها هرب الدكتور نصر حامد أبو زيد من مصر إلى هولندا، وتم حرق ومصادرة رواية (وليمة لأعشاب البحر) للروائي السوري حيدر حيدر بعد مرور أكثر من عشرين عاما على صدورها وتداولها في غالبية الأقطار العربية، وتوقف الدكتور سيد القمني عن الكتابة....لذلك فإن هذه الفتوى تستحق كل هذا الشجب والإدانة التي قوبلت به في مصر، وهي المرة الأولى التي تواجه فيها فتوى من مفتي بهذا التفنيد والإدانة والرد عليها من التاريخ والحديث والقرآن، خاصة أننا تعودنا في الأقطار العربية على الخوف من التعرض لمفتي البلاد حتى وإن كانت فتواه واضحة الخطأ كما في فتوى مفتي مصر المذكورة...وهذا ما يوضح خطورة الفتوى والفتوى المضادة في تضليل المواطن العادي الأمي المسلم بالوراثة فقط، ولا يعرف إلا أساسيات الدين وأحيانا ليس بفهم وإتقان.....والله المستعان !.
[email protected]