إنالمواضيع التي تتناولها المقالات التالية والتي أعددناها على شكل حلقات لتكون المدخل إلى تاريخ العراق منذ القرن الثامن عشر ميلادي، تأتي ضمن إطار بحث أوسع يشمل: تكوين وادي الرافدين والجزيرة العربية، والعوامل المناخية التي أدت إلى تصحرها، وهجرات الإنسان والكائنات الحية إلى وادي الرافدين، والعوامل التي ساهمت في تحول الإنسان إلى مرحلة الإنتاج الزراعي في وادي الرافدين، وساعدته في إقامة أول حضارة زراعية في التاريخ. وفي الجزيرة ظهور العرب في البوادي القاحلة، وتأهيل الجمل، وقيام تجارة البخور التي جاءت بهم إلى وادي الرافدين. استقرار العرب على ضفاف الفرات وظهور الحيرة، وتعامل العشائر العربية مع خصوصيات وادي الرافدين، في الزراعة الحوضية ومشاكل أدارتها، وعلاقة ذلك بقيام الملكية الجماعية للأرض المزروعة، وأثر ذلك في حياة العشائر العربية، والتاريخ الذي صنعته منذ أن حلتّ بذلك الوادي الخصيب.

1- تكوين وادي الرافدين وظهور شبه الجزيرة وتصحرها

منذ حوالي عشرين ألف عام، تعرضت الكرة الأرضية إلى تحولات مناخية كان من نتائجها انتهاء العصور الجليدية، وبداية عصر دافئ لازال مستمراً إلى يومنا هذا.
وقد أدت تلك التحولات إلى ظهور السهل الرسوبي الخصيب في بلاد الرافدين، جراء ترسب الغرين الذي حملته مياه السيول الهائلة الناتجة عن ذوبان الجليد. وقد أدى ذوبان الجليد على الكرة الأرضية كذلك، إلى ارتفاع مستوى سطح المحيطات والبحار المتصلة بها، فتكونت جغرافياً ما نطلق عليه اليوم quot;شبه الجزيرة العربيةquot; من رقعة الأرض التي كانت ترتبط بالبر الأفريقي، والتي عزلتها المياه المرتفعة عن ذلك البر بعد تكوين البحر الأحمر، وعن البر الآسيوي بعد تكوين الخليج.
وبينما كانت السيول تغمر بمياهها وادي الرافدين، الذي كان في بداية تكوينه عبارة عن وادي مقعر عميق، وترسّب غرينها في وديانه وفجواته العميقة، كانت الأمطار تشح وتنحسر عن شبه الجزيرة، بعد أن زحف حزام الأمطار الذي كان يمر بها نحو الشمال، فتسبب في تحول مناطق واسعة منها إلى صحارى جرداء. وهكذا اختفت منها بالتدريج النباتات وبقية الكائنات الحية. ومع تفاقم ظاهرة التصحر وانكماش مقومات الحياة، بدأت هجرات البشر والكائنات الحية من شبه الجزيرة باتجاه الشمال نحو وادي الرافدين
ومن المعروف إن جميع الأقوام الذين هاجروا من شبه الجزيرة واستقروا في وادي الرافدين قبل الهجرات العربية، قطعوا علاقتهم بالجزيرة العربية وانهمكوا في التعامل مع بيئة وادي الرافدين النهرية وأقاموا في ذلك الوادي أول حضارة زراعية في التاريخ وبالنظر لأهمية تلك الظاهرة النهرية التي كانت العامل الرئيسي في رسم مسيرة مجتمعات وادي الرافدين وتطورها، والتي لم تنل حسب اعتقادي، ما تستحقه من اهتمام من قبل الباحثين في تاريخ العراق، كان لابد لي أن أواصل دراسة أبعاد تلك الظاهرة النهرية الفريدة خاصة الاقتصادية منها والاجتماعية، وبالنظر لطول تلك الفترة التاريخية وتداخل أحداثها التي لازال الغموض يشوبها ويحجب عنا الكثير من حقائقها، رأيت أن أتناولها على مراحل مترابطة، ففي التاريخ من عوامل الاتصال والاستمرار، ما يجعل التجزئة غير ممكنة وما يجعل كل فترة منه متممة لما قبلها، ونتيجة طبيعية لظروفها.
ظهور العرب وتأهيل الجمل وقيام تجارة البخور
بالرغم من تلك الهجرات التي سببتها التحولات المناخية، ظلت مجموعات صغيرة من البشر معزولة في بعض الوديان التي كانت تتوفر فيها الينابيع وغيرها من مصادر المياه مع قليل من مقومات الحياة. وفي خضم صراع تلك المجموعات البشرية من أجل البقاء في تلك البيئة الصحراوية، أخذت تصطاد حيواناً فريداً في خصوصياته، صمد هو الآخر في تلك البيئة القاحلة، إذ كان قد تكيّف لحياة الصحراء قبل دخوله شبه الجزيرة قادماً من صحارى آسيا الوسطى.
ذلك الحيوان هو الجمل، الذي أخذت أعداده تتزايد في وديان شبه الجزيرة بعد اختفاء الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور والذئاب والضباع من تلك البوادي بسبب ظاهرة التصحر.
بمرور الزمن أهّلت تلك الجماعات البشرية ذلك الحيوان الفريد، أي الجمل، واستخدمته في التنقل بين الوديان والواحات المتباعدة التي تتوفر فيها مصادر المياه، إضافة إلى الاستفادة من لحمه ولبنه ومنتجاته الأخرى.
لقد فتح تأهيل الجمل، آفاقاً جديدة للحياة أمام تلك الجماعات المتفرقة المعزولة عن بعضها، إذ أصبح بإمكانها التنقل والوصول إلى الواحات ومصادر المياه الأخرى، وكذلك إلى شواطئ البحر التي كانت من مصادر الغذاء المهمة. وهذا ساعد على تواصل تلك الجماعات وتوحيد جهودها في الصراع من أجل البقاء، وهكذا كانت كما تشير البحوث، البدايات لظهور مجتمع أسلاف العرب في تلك البوادي، بوجود ذلك الحيوان الذي ساعدهم على البقاء وعلى الانتشار في أنحاء الجزيرة.
بعد تأهيل الجمل طور أولئك العرب الأوائل، تجارة برية فريدة في ذلك الزمن القديم، إذ استعملوا الجمل في تجارة نقل البخور والطيب من وديان جنوب الجزيرة العربية إلى أسواق العالم القديم المتحضر الذي كان يستعمل سكانه البخور والطيب في معابدهم بصورة واسعة.
فالجمل بإمكانياته، كان واسطة النقل الوحيدة التي يمكنها حمل تلك البضائع عبر الوديان والصحارى من جنوب الجزيرة والوصول بها حتى أسواقها الرئيسية. وهذه كانت البداية لقيام أقدم وأهم طريق تجاري بري ربط جنوب شبه الجزيرة ووديانها، بأسواق وادي الرافدين وبقية العالم القديم، وعبر السنين تمكن أولئك العرب الأوائل من وضع معالم ذلك الطريق التجاري البري وتحديد مراحله ومحطاته، في مواقع ملائمة تتوفر فيها مصادر كافية للمياه.
ومع نمو وتوسع تلك التجارة العالمية نمت تلك المحطات والمراكز التجارية، وتحول بعضها إلى مستوطنات مأهولة بالسكان، كان يسكنها التجار والعمال والعبيد وغيرهم ممن يقدمون مختلف الخدمات للقوافل التجارية.
قد يصعب على الباحث تحديد نقطة البداية لقيام ذلك الطريق التجاري، غير أن الشواهد التاريخية تشير إلى أن البخور كان ينقل إلى وادي الرافدين وحواضر العالم القديم عبر وديان الحجاز المحاذية لسواحل البحر الأحمر، في حدود الألف الثانية قبل الميلاد. وهذا يشير إلى بداية احتكاك العرب بسكان وادي الرافدين، وتعرفهم على حضارات العالم القديم. وإن شعوب العالم القديم أطلقت على الجماعات التي كانت تأتي من أعماق الصحراء على الجمال اسم quot;عربوquot; أي راكبي الجمال، وأطلقت على مواطنهم الصحراوية اسم quot;عرباياquot;. وهكذا ارتبط أسم العرب بشبه الجزيرة التي انتشروا فيها وسادوا بها كسكان.
ومع اتساع تجارة البخور كانت مراكز العرب التجارية تزحف من جزيرتهم نحو الشمال، وينتشر وجودهم في البوادي الشمالية القريبة من الأسواق الرئيسية. وبالنظر لملاءمة الأحوال المناخية في تلك البوادي الشمالية وتفوقها على مثيلاتها في جنوب الجزيرة العربية، من ناحية توفر المراعي الواسعة وكثرة مصادر المياه الجوفية، أخذت أعداد العرب تتضاعف في تلك البوادي، وتتسع مراكزهم السكانية وتزداد قرباً من وادي الرافدين.
غير أن اغلب المصادر التي تناولت تاريخ العرب وثرواتهم ومنعة صحاريهم، لم تلتفت إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في المجتمعات العربية التي قامت على طول طريق تجارة البخور. تلك التحولات التي غيرت طبيعة تلك المجتمعات، وفتحت لها آفاقاً جديدة في ميادين الفكر والمعرفة الإنسانية.
فقد ظهرت في تلك المراكز التجارية (التي لم تكن مناطق زراعية) مجتمعات تجاوز اقتصادها مرحلة البداوة وجمع القوت. إذ كان سكانها يعتمدون في معيشتهم على التجارة وما يرتبط بها من خدمات، ويستفيدون من مياه الآبار للشرب، ولحملها على ظهور الجمال عبر الصحراء.
وفي إطار ذلك الاقتصاد المنتج الغير زراعي، ظهرت في مجتمعات تجارة البخور، الملكية الفردية وما تحمله من سلبيات وإيجابيات اقتصادية واجتماعية، وظهرت فيها فئات اجتماعية تتباين في معيشتها ومصادر رزقها، وفي اختصاصاتها ومهاراتها في العمل. فكان منهم التجار الأثرياء، والحرفيون والعمال الأحرار وغيرهم من فقراء الناس، والعبيد الذين يخدمون الأسياد في ذلك المجتمع التجاري.
تلك الحقائق التاريخية التي لم يلتفت إليها أولئك الكتاب، تؤكد أن مجتمعات العرب التجارية التي ظهرت على طول طريق تجارة البخور بلغت مرحلة اقتصادية متقدمة، وفي إطار ذلك التطور التجاري ظهرت مكة التي أصبحت بمرور الزمن من أكبر وأهم المراكز التجارية على طريق تجارة البخور.
العرب وحضارة الشمال
كان العرب بحكم مصالحهم التجارية يتنقلون بين السواحل الجنوبية للجزيرة العربية وأسواق العالم القديم، وأهمها أسواق بابل التي كانت تعد مركز التجارة العالمية وعاصمة العالم القديم. وفي بابل كان العرب يحتكون بالسكان المحليين ويتعرفون على أحوالهم وعقائدهم الدينية وتراثهم الفكري. إضافة إلى احتكاكهم بالتجار والجماعات القادمة من مختلف الأنحاء. كل ذلك أكسبهم تجارب ومعارف واسعة. وبمرور الزمن أخذت تلك التجارب والمعرفة بأبعادها الفكرية طريقها جنوباً إلى مجتمعات العرب على طول طريق تجارة البخور، مما كان له أبلغ الأثر في إغناء تراثهم الفكري وتطورهم الحضاري
بمرور الزمن أحدثت تلك التطورات تحولات سكانية واقتصادية مهمة في مجتمعات العرب بصورة عامة. إذ نجد مع استمرار هجرات القبائل العربية نحو البوادي الشمالية، أخذت كفة أولئك العرب تَرجح سكانياً واقتصادياً، على كفة عرب الجنوب. فمن الناحية السكانية تحول عدد من محطات ومراكز العرب التجارية في الشمال إلى مستوطنات ومدن استقر فيها التجار ومختلف الشرائح الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بتجارة البخور.
أما اقتصادياً فإن ازدهار تلك التجارة مكن أولئك التجار العرب من جني أرباح كبيرة وتحقيق ثروات هائلة لم يسبق لها مثيل. يضاف إلى ذلك أن عرب الشمال بحكم احتكاكهم بسكان العالم القديم وتعرفهم على حضاراته، اكتسبوا تجارب ومعارف لم تكن متوفرة لعرب الجنوب.
مع ازدياد ثروات عرب الشمال ونفوذهم، ازدادت سيطرتهم على تجارة البخور، وبالتالي على طريق تلك التجارة. وأخذ نفوذ عرب الشمال يمتد نحو الجنوب اقتصادياً وسكانياً وحضارياً، ومن المرجح أن ذلك التفوق، رجح كفة لهجاتهم العربية في لغة التخاطب اليومية، خاصة في المراكز التجارية والمستوطنات المستقرة. وبازدياد أعدادهم ونمو نفوذهم سادت لهجاتهم الشمالية على طول طريق تجارة البخور في الحجاز وحتى جنوب الجزيرة العربية، بينما كانت لهجات عرب الجنوب تتقلص وتذوب في لغة الأكثرية من عرب الشمال وتختفي بالتدريج من الاستعمال في الحياة اليومية. ولعل تطور تلك الظاهرة اللغوية ساهم في ظهور النظريات التي قسمت العرب تاريخياً إلى quot;عرب بائدةquot; و quot;عرب عاربةquot;.
إن البحث في تطور تاريخ العرب ولغتهم يبرز أهمية العوامل التي ساهمت في ذلك، ومن أهمها عوامل البيئة الجغرافية التي فرضت ظروفاً اقتصادية واجتماعية أدت بالعرب الأوائل إلى تأهيل الجمل، وإلى تطوير تجارة البخور، التي جاءت بهم إلى البوادي الشمالية من شبه الجزيرة، حيث أقاموا مستوطناتهم ومراكزهم التجارية التي كانت القاعدة الأساسية لوجودهم في تلك المناطق ومن ثم توغلهم في وادي الرافدين.

(يتبع)

[email protected]
http://www.geocities.com/kutub_alrufaiy/kutub-alrufaiy-main.html

عبد الأمير عبد الوهاب الرفيعي
- ولد في النجف الأشرف عام 1930م.
- تخرج من إعدادية النجف سنة 1948م.
- في سنة 1950م، سافر إلى المملكة المتحدة لدراسة علوم الاقتصاد في جامعة لندن.
- عاد إلى العراق وتفرّغ لأعماله الخاصة ثم عمل في حقل التأمين وإعادة التأمين.
- عاد إلى لندن سنة 1973م لمواصلة دراساته العليا، والتحق بجامعة City university of London.
وحاز على شهادة .M. Phil في علوم الاقتصاد.
- للمؤلف اهتمامات خاصة في دراسات وادي الرافدين في حقول الاقتصاد والتاريخ والأنثروبولوجي بما في ذلك خصوصيات الزراعة الحوضية في أنهار هذا الوادي الفريد، وتأثير تلك الخصوصيات في تاريخ عرب العراق.