إن فضيحة أبو غريب هي دون شك وصمة عار على الولايات المتحدة و خصوصاً على سمعة الجيش الأمريكي الذي كان و لا يزال مسئولاً عن إدارة هذا السجن السيء الصيت. ليس هناك عراقي لم يسمع باسم هذا السجن المخيف والذي ظل مسرحاً لأحكام الإعدام الرسمية وغير الرسمية خلال ثلاثة عقود من حكم البعث وإستمر عمل هذا السجن ولكن بشكل مختلف بعد سقوط النظام ودخول القوات الأمريكية الى العراق.
لا أعتقد أن أي جهاز إعلامي عربي كان قد ذكر إسم هذا السجن خلال تلك العقود السوداء من تأريخ العراق ولم نسمع أصوات إخواننا العرب يدافعون عمن كان يعتقل أو يعذب أو يعدم في هذا المكان قبل سقوط نظام البعث. أما بعد السقوط وعند كشف الأدلة عن الممارسات اللاإنسانية من إهانة للسجناء وتعريضهم الى إعتداءات بشعة من قبل بعض منتسبي القوات الأمريكية فقد تلقفت الأجهزة الإعلامية العربية هذه الأخبار باهتمام غير معهود حتى أصبح إسم أبو غريب (وإن لا يزال معظم العرب غير العراقيين يخطأون في لفظه) على كل لسان وأصبح الإهتمام بمصير السجناء فيه هو الشغل الشاغل لقطاعات واسعة من المواطنين في بلدان عربية مختلفة. و نحن كعراقيين ممتنين بالطبع لإخواننا العرب على هذا الإهتمام و إن جاء متأخراً بحوالي ثلاثين عاماً أو أكثر قليلاً.
فما هي الدروس التي من الممكن إستنباطها مما حدث في أبو غريب؟
بالطبع انا أدرك حق الإدراك أن هذا الموضوع قد أشبع بحثاً من قبل الفضائيات العربية والصحف العروبية و الإسلاموية وأن العبرة التي إستنبطها هؤلاء بالإجماع هي أن ما حصل في أبو غريب هو الدليل الدامغ الذي لا يقبل الشك على زيف الديمقراطية الأمريكية و على تصميم أمريكا على إذلال العراق والعراقيين والأمة الإسلامية. لقد وجد أعداء الليبرالية والديمقراطية ظالتهم في فظائح أبو غريب فهي في نظرهم الدليل الدامغ لصحة نظريات المؤامرة التي يلوكونها ليل نهارعن الخطط الصليبية الصهيونية الخ...
لكن دعنا ننظر قليلاً الى الوقائع. لا شك أن أعداداً كبيرة من العراقيين قد تعرض الى إنتهاك لحقوقهم كبشر وهذا إنتهاك لمعاهدات جنيف والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولكن كيف عرفنا بكل هذا؟ كيف تأكدنا من أن هذه الإنتهاكات قد حصلت فعلاً وإن مرتكبي هذه الإنتهاكات هم أفراد وضباط الجيش الأمريكي؟ الجواب هو أننا نعرف كل هذا لأن أعداداً كبيرة من منتسبي الجيش الأمريكي ذاته رفضوا رفضاً قاطعاً المشاركة في هذه الممارسات وكذلك رفضوا السكوت على ما يحدث في هذا السجن. لذا فإنهم أخذوا على عاتقهم جمع الأدلة الفوتوغرافية للإنتهاكات و تقديمها الى الصحافة والى قيادات الجيش الأمريكي والبنتاغون والكونغرس. والذي حصل بعد ذلك هو أن أجريت تحقيقات جنائية تفصيلية على أعلى المستويات في الجيش الأمريكي والكونغرس لمعرفة الجناة وقد نتج عن هذا إدانة عدد من منتسبي الجيش كان آخرهم برتبة عقيد في الجيش الأمريكي. ولا زالت التحقيقات جارية على قدم وساق بعد سنتين من إفتضاح أمر الإنتهاكات ومن الممكن أن نشهد المزيد من الإدانات في المستقبل.
هكذا تعامل الجيش والكونغرس الأمريكي مع هذه الفضيحة ، فلنقارن بين هذا وما يحصل في البلدان العربية.
إن الجيوش العربية قد شهدت عدداً كبيراً من الحروب الداخلية والخارجية على مدى الخمسين سنة الأخيرة منها على سبيل المثال لا الحصر أربعة حروب مع إسرائيل، حربين أهليتين في اليمن، حرب العشرين عاماً جنوب السودان، الحرب العراقية الإيرانية، حرب الخليج الثانية الخ..
فهل سمعنا يوماً في أي من هذه الحروب وغيرها الكثير أي دولة عربية تعترف يوماً ما بأن أي من وحداتها أو حتى أفرادها قد أرتكب إنتهاكاً ضد الأعداء يوجب إقامة تحقيقات لمعرفة الجناة و تقديمهم للمحاكمة؟ الجواب بالطبع هو النفي. هذا مع العلم أن بعض هذه الحروب دامت لسنين طويلة أو حتى عقود و راح ضحيتها الملايين بين قتلى و جرحى وأسرى لكن دون أن يرفع جندياً أو ضابطاَ عربياً واحداً صوته ولو لمرة واحدة لفضح إنتهاكات لحقوق المدنيين أو العسكريين من الطرف الآخر. ما هو تفسيرهذا اللغز المحِّير؟ هل كان الجنود العرب في كل هذه الحروب الطاحنة عبارة عن مجموعة من الملائكة مقارنة بالوحوش الأمريكيين؟
ثم ما هو تفسير أن يقوم أفراد من الجيش الأمريكي ذاته مدعومين من قبل صحافيين أمريكان بفضح الإنتهاكات التي حصلت وبهذا العمل تسببوا في هدر كرامة جيشهم و حكومتهم وأساءوا أبلغ إساءة الى سمعة الولايات المتحدة؟ فعندما إنكشف أمر هذه الإنتهاكات إضطر الجميع بمن فيهم رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم الى الوقوف مطأطئي الرأس أمام الكاميرات و الإعتراف بإن أخطاءاً قد حصلت وأن يعلنوا على رؤوس الأشهاد أن يسعوا لمعاقبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
التفسير هو بالطبع هو أن الولايات المتحدة بلد ديمقراطي تخضع حكومتها لرقابة الناخبين من خلال الصحافة الحرة والكونغرس المنتخب من قبل الشعب. ولولا ذلك لما إكتشفنا الحقيقة الا بعد سنين أو حتى عقود من الزمان. لذلك ففي رأيي أن هنالك مجموعة من الدروس التي من الممكن تعلمها من إنتهاكات أبو غريب قد تختلف قليلاَ عن تلك التي يكررها العروبيون و دعاة الإسلام السياسي و منها:

1 . لن تتقدم مجتمعاتنا ما لم نربي أطفالنا وشبابنا على الوقوف بوجه الظلم و فضحه حتى وإن كلف ذلك إثارة سخط وغضب من هم في السلطة. تماماَ كما فعل الضباط والجنود الأمريكان الذين وقفوا بشجاعة ضد إنتهاكات رفاقهم في أبو غريب.
2 . لا ديمقراطية بدون صحافة حرة و نزيهة. الصحافة المقيدة هي الضمان الأكيد لأنتهاك حقوق المواطنين.
3 . يجب أن يكون ولاء منتسبي الجيش والدولة للدولة والدستور وليس لإفراد مهما علا شأنهم. لذلك ليس هناك من هو فوق القانون.
4 . القضاء النزيه والمستقل ركن أساسي لدولة المؤسسات.
5 . المؤسسة التي لا تعطي منتسبيها هامشاَ يسمح لهم بالنقد البناء وفضح الأخطاء مصيرها الفشل والإنحطاط.

إن توفر هذه الشروط هي التي أدت الى فضح الإنتهاكات الأمريكية في أبو غريب والى معاقبة الجناة. كذلك فإن غياب معظم هذه الممارسات في بلدان العرب قد أدى الى إستحالة فضح ما هو أعظم.