نشر السناتور الأمريكي الديمقراطي جوزيف بايدن (Joseph R. Biden Jr) بالإشتراك مع لزلي غلب (Leslie H. Gelb ) الرئيس المتمرس لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، في صحيفة نيويورك تايمس في عددها الصادر يوم 1 أيار/مايو الجاري، مقالاً بعنوان (الوحدة من خلال الحكم الذاتي في العراق Unity Through Autonomy in Iraq)، أطرح أدناه موجزاً لما جاء فيه ومن ثم مناقشة أهم نقاطه.

يقارن الكاتبان العراق ببوسنيا، حيث طبقت فيها هذه خطة مماثلة في التسعينات من القرن المنصرم بعد حروب أهلية طاحنة، وحققت نجاحاً كبيراً إلى حد أن مكونات شعب بوسنيا بعد سنوات من هذا الحل، صارت تتقارب وتميل إلى الألفة فيما بينها. ويضيف الكاتبان، أنه طالما كانت القوات الأمريكية موجودة في العراق فلا يفوز المتمردون ولا يخسر الأمريكان. كما زعما أن هذه الخطة البديلة للوضع الراهن (لا فوز ولا خسارة) تقدم أفضل حل للمعضلة العراقية لإنهاء التمرد المسلح وتحقيق خروج مشرف وسريع للقوات الأمريكية.

مكونات الخطة:
تتكون الخطة من خمس نقاط:
أولاً، إقامة ثلاث مناطق فيدرالية، تتمتع كل واحدة منها بالحكم الذاتي، تكون حكومة كل إقليم مسؤولة عن إدارة الشؤون الداخلية وإصدار القوانين والأمن الداخلي للإقليم. والحكومة المركزية مسؤولة عن حماية الحدود والشؤون الخارجية وموارد النفط. ومدينة بغداد تصبح منطقة للحكومة الفيدرالية، بينما المناطق المزدحمة بخليط من عدة طوائف وأثنيات يحصلون على حماية من شرطة وطنية متعددة الطوائف مع شرطة دولية.
ثانياً، استمالة السنة العرب بإغرائهم في المشاركة في النظام الفيدرالي وذلك بمنحهم امتيازات لا يمكنهم رفضها، مثل، حقهم بإدارة مناطقهم بأنفسهم بدلاً من نظام مركزي يهيمن عليه الكرد والشيعة، أو حرب أهلية يكونون هم معظم ضحاياها. كما ويجب منحهم حصة من ريع النفط تتناسب مع نسبتهم السكانية.
ثالثاً، حماية حقوق المرأة والأقليات العرقية والدينية بزيادة المساعدات المالية الأمريكية للعراق مع وجوب ربطها بإلزام السلطات باحترام هذه الحقوق وإلا توقف هذه المساعدات.
رابعاً، يجب على الرئيس (الأمريكي) إصدار أمر للجيش لوضع خطة انسحاب من العراق عام 2008، (مع إبقاء قوات قليلة ولكن فاعلة ومؤثرة لمكافحة الإرهاب وإبقاء الجيران نزيهين).
خامساً وأخيراً، الدعوة لعقد مؤتمر دولي لدول الجوار تحت مظلة الأمم المتحدة، تتعهد باحترام حدود العراق ونظامه الفيدرالي.

مناقشة الخطة
في الحقيقة إن مشروع الفيدرالية العرقية-الطائفية كان مطروحاً قبل نشر مقال بايدن وغلب بزمن طويل، بل يرجع إلى فترة تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بحدودها الجغرافية الحالية. وكان العراق يتكون من ثلاث ولايات إبان الحكم العثماني. وبعد الحرب العالمية الأولى، أقر الحلفاء في البداية حق الكرد في قيام دولة خاصة بهم كما جاء في معاهدة سيفر في 10/8/1920، ومن بين بنودها نصت على قيام دولة كردية بموجب المواد 62، 63، و64. ولكن رفض الإنكليز بعد ذلك هذا الحق، فألغيت هذه البنود وفق معاهدة لوزان عام 1923 التي حلت محل معاهدة سيفر. كما وطرح السيد عبدالعزيز الحكيم، رئيس (الإئتلاف الوطني العراقي) مشروع ثلاث فيدراليات، شمال ووسط وجنوب. كما وهناك مواد في الدستور الدائم الأخير مع هذه الخطة بشكل وآخر.

وقد تناولنا هذا الموضوع الخطير في مقال لنا بعنوان (هل الفيدرالية هي الحل؟ ) بتاريخ 3/4/2006، جاء فيه: quot; ... أود التوكيد على إني مع الفيدرالية من حيث المبدأ، فهي أرقى أنواع الحكم في الأنظمة الديمقراطية. فكلما خفت قبضة سلطة المركز واتسعت صلاحيات سلطات الأطراف، تعمقت الديمقراطية وتقوَّت الرابطة وتتماسك الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب الواحد وعم الخير الجميع. فهناك دول ديمقراطية عديدة في العالم تتكون من فيدراليات، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وبريطانيا، وألمانيا وسويسرا والنمسا والهند وماليزيا واستراليا وغيرها. وفي البلاد العربية فشلت الوحدة الاندماجية الفورية بين مصر وسوريا، بينما نجح الاتحاد الفيدرالي في اتحاد الإمارات العربية. وعليه فأنا مع الفيدرالية في العراق... ولكن!!quot; وسبب اعتراضي على الفيدرالية في الوقت الراهن يعود إلى ظروف العراق حيث أن أحد أسباب الصراع الدائر في الوقت الراهن هو رفض السنة العرب لنظام الفيدرالية على أسس طائفية، حتى ولو ظهرت على أسس مناطقية، فهي تفسر طائفية وتعمل على تكريس الطائفية في العراق إلى مستقبل غير منظور. كما يعترض العرب السنة على الفيدرالية في المناطق العربية لخوفهم من أن تصبح خطوة بداية لتقسيم العراق إلى دويلات ومن ثم ابتلاعها من قبل دول الجوار. لذلك فمن الحكمة تأجيل هذا المشروع إلى أن يتم حل جميع المشاكل الأخرى التي لها الأولوية ويتحقق الأمن وتهدأ النفوس وتعود الثقة بين مكونات الشعب العراقي، وعندها لكل حادث حديث.

لذلك فنقطة الضعف في مقال السناتور بايدن وزميله، تتمثل في كون الكاتبان يعتقدان خطأً أن التمرد المسلح ضد الوضع الجديد، هو من أجل الحكم الذاتي. ومع الأسف الشديد، أخذ هذا التمرد طابعاً طائفياً، وتفشى الاعتقاد بأن القائمين به هم العرب السنة فقط وبدوافع الاستقلال بمناطقهم. بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماماً.

أولاً، هناك جهات مختلفة حملت السلاح ضد الوضع الجديد ولأهداف مختلفة، لم تكن فيدرالية هدفاً من بينها أي من عصابات التمرد. فهدف المسلحين البعثيين هو إعادة حكم البعث البائد وإجهاض العملية الديمقراطية. أما هدف السلفيين والتكفيريين بقيادة الزرقاوي، فهو إقامة إمارة إسلامية في العراق على غرار إمارة طالبان في أفغانستان سابقاً، وذلك كما أعلنه الزرقاوي في بيانه الأخير. والهدف الأبعد للسلفيين التكفيريين القادمين من الخارج، هو أخذ العراق نقطة انطلاق ضد دول الجوار لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، ومن ثم محاربة العالم وإخضاع البشرية كلها للدين الإسلامي وفق تقسيم العالم إلى (دار الكفر ودار الإسلام).

ثانياً، أما القيادات العربية السنية المتمثلة في جبهة التوافق والحوار الوطني والحزب الإسلامي..الخ، والتي شاركت مؤخراً في العملية السياسية، فهي ترفض فكرة الفيدرالية من أساسها. وقد طرح في اجتماع البرلمان العراقي يوم الأربعاء 3 أيار/مايو الجاري مقترح لمناقشة مشروع فيدراليات الوسط والجنوب، ولكن أصر النواب العرب السنة بشدة على حذف هذه الفقرة من جدول أعمال البرلمان. وهذا يدل على أن فكرة فيدرالية الوسط والجنوب لم يؤيدها، لا المتمردون المسلحون ولا القيادات السياسية السنية المعتدلة التي وافقت على المشاركة في العملية السياسية بالطرق السلمية. ومن هنا نعرف أن فكرة الفيدرالية هي بحد ذاتها مشكلة. وبذلك فخطة بايدن، رغم وجاهتها، لا تقدم حلاً للمشكلة العراقية الراهنة، بل تزيدها تعقيداً.

ثالثاً، صحيح أن التوزيع الجغرافي لسكان العراق يشير بوضوح إلى أغلبية شيعية عربية في الجنوب وسنية عربية في الشمال الغربي، إلا إن هناك حواضر وأحياء وجيوب كثيرة في العراق خليط من السنة والشيعة إضافة إلى أقليات أخرى. ومعنى هذا أن تقسيم العراق وفي هذا المنعطف التاريخي العاصف، يعني ستظهر مأساة بشرية أخرى ألا وهي التطهير العرقي والديني والطائفي. وهذه المأساة لا يمكن إيقافها حتى مع وجود شرطة متعددة الطوائف والشرطة الدولية في هي المناطق المختلطة، كما اقترح الكاتبان.

وبناءً على ما تقدم، أعتقد أن الوقت الراهن غير مناسب لطرح موضوعة فيدرالية الوسط والجنوب ويجب التركيز على حل المشاكل الأخرى التي لها الأولية مثل الأمن والخدمات وإلحاق الهزيمة بالإرهاب. والجدير بالذكر أن الموجة الطائفية التي نشاهدها الآن، هي مؤقتة وليست من صنع العراقيين الذين تعايشوا قروناً معاً بسلام وتصاهروا حتى كادت تختفي معالمها من المجتمع العراقي. لذا يجب عدم أخذ قرارات لها آثار مدمرة دائمة كحل لمشاكل وقتية نعرف أنها ستزول بزوال أسبابها.