محاولة تشخيص الظاهرة

لو افترضنا أن مراقباً لتحركات الزرقاوي ورجاله ودون أي معرفة بما يضمرونه من أفكار وغايات، تسنى له متابعتهم عينياً في العراق وهم يتنقلون في هذه المدينة أو تلك، متنكرين بملابس الناس المحليين، ثم لاحظهم وهم يتركون قنابلهم المفخخة في الأسواق والساحات وأماكن أخرى يكتظ فيها الناس البسطاء أو الفقراء الباحثون عن العمل وبقية القائمة المعروفة مما فعلته هذه المجموعة لقال بكل بساطة أن هؤلاء أناس متمرسون بالاجرام لأنهم يقتلون البشر quot;دون حساب ولا كتابquot;. ثم انهم جبناء بمعنى الكلمة لأنهم لا يواجهون أعداءهم بل يغدرون بهم، دون الكلام عن الانعدام الكامل للتكافؤ (البدني أو العسكري) بينهم وبين ضحاياهم. وأخيراً فهم يتميزون بعدائهم للانسانية في أقدس مظاهرها، أي في الضعفاء والفقراء والأطفال والنساء والشيوخ ، تلك الانسانية التي كرمها الله وغرس احترمها في الفطرة quot;التي فطر الناس عليهاquot;، وقد بدأ الرسل أعمالهم الفذة بانقاذها من وحل الضعف واليأس الى عالم الأمل والوعي بكرامة الانسان وعزته.

ان هذا المشهد هو جوهر الموضوع: الجريمة الجبانة ضد الانسانية والغدر الموجه ضد الضعفاء. أما الموجهون والممولون فموجودون كما في معظم الجرائم المماثلة. وأما المبادئ والنصوص ومهما كانت درجة سموها وعظمة منطلقاتها، فقد استعملت عبر التاريخ من قبل الطغاة وquot;خرافيشهمquot; لتبرير التسلط والاستبداد، وكانت النصوص تستند مرة الى الدين ومرة الى الأفكار العلمانية. وحتى فلسفة التنوير (الغربية) استخدمت لتكريس استعلاء الغرب على quot;الآخرquot; وفي تبرير الحروب الاستعمارية التي شنتها القوى الغربية لاقتسام العالم فيما بينها. وكذلك الماركسية استخدمت بشكل فظ في شرعنة الاستبداد الستاليني وغيره. وقد نهض العديد من المفكرين الأحرار من داخل هذه المجتمعات لادانة الجرائم اللا إنسانية التي ارتكبت باسم هذه الأفكار والمبادئ. وفي عالم اليوم المتجرد من القيم الفلسفية والثوابت الأخلاقية ترتكب جرائم اجتماعية وجنسية واقتصادية شنيعة لم تكن معروفة من قبل وتشهد هذه الجرائم تصاعداً نوعياً خطيراً في اطار المجتمعات الغربية كما نشهد تصاعداً مماثلاً ولكن تحت مظاهر مختلفة في المجتمعات الأخرى. لذلك لا تشكل ظاهرة الارهاب المتبرقع بالاسلام كما يدعي بعض الكتاب تطوراً للفكر الاسلامي بقدر ما هو ثمرة أخرى غريبة في quot;غابةquot; هذا العالم الحديث المتقدم من جهة والمتدهور قيمياً (مع حدة صراعاته) من جهة أخرى. حيث تراكمت في عالمنا العربي الإسلامي المتميز بروح التحدي ورفض الخنوع هزائم الحكومات وإحباطات الذات الجريحة. هذه العوامل وغيرها أنجبت لدى البعض هذه الظاهرة اللقيطة والتي تسمى اليوم تعسفاً بالارهاب quot;الاسلاميquot;، وهي لا تمت في نموها الى الاسلام بصلة، حيث لا يمثل في أحد صوره الا البيئة الفكرية التي نشأ فيها. كما تشكل الليبرالية الغربية البيئة الفكرية التي نشأت فيها ظاهرة الاعتداء الجنسي على الأطفال الصغار، منذ الثمانينات، في فرنسا وألمانيا وبريطانيا.

من جهة أخرى، إذا كانت بعض وسائل الاعلام المشبوهة في أغراضها قد أقامت مأتمها على هذا المجرم الارهابي الجبان، ومعها بعض quot;المثقفينquot; العرب، فان الشعب العراقي قال كلمته منذ مشاركته المتصاعدة والمتكاملة في الانتخابات، ثم في تشكيل الحكومة الجديدة. وقد أكد صلابة هذا الموقف من خلال تعاونه مع القوى الأمنية ومساهمته في محاصرة الارهابيين منذ شهور وصولاً الى محاصرة وقتل الزرقاوي. ورغم أن الارهاب المستشري في العراق على أيدي هؤلاء quot;الجهاديينquot; المشوهين وفلول صدام حسين ومخابرات الدول لن ينتهي بين ليلة وضحاها فان الضربة موجعة وتؤرخ لانعطافة مهمة في انتصار العراقيين، كل العراقيين، على أعدائهم، لا سيما اذا استمرت العملية السياسية في التجذر على الساحة العراقية.

وأخيراً، نتمنى أن تنتبه شعوبنا العربية الى أن هذا الارهاب القائم على اقصاء الآخر وشرعنة سفك دمه هو سرطان بمعنى الكلمة، وعليها أن ترفض محاولات البعض لربطه بقيم التحرر ورفض الاحتلال وعدم الانبطاح أمام الغرب فان هذا الخلط سيعود على هذه القضايا بالضرر البالغ وسيرتد على الشعوب نفسها حيث سيفتك بعضها بالبعض الآخر، والعياذ بالله. ثم اذا كان الاسلام أمانة في أعناق المسلمين فما أحراهم بادانة كل من يخلط بين الجريمة والاعتداء على الكرامات وبين القيم الدينية وبالخصوص رسالة نبي الرحمة والوسطية، لأن هذا الخلط يشوه صورة نبي الاسلام (ص) ويضر بمصالح أتباعه.

[email protected]