الأيقونة موجود من موجودات الواقع. لكنها أكيداً ليست سوى جزء صغير منه. الأيقونة مِثال أو بعض مِثال. هي رمز ما في شيء متعيّن. شيء، على الأغلب، نحبه ونحترمه بل ونبجّله، لكننا مع ذلك، نضعه على حائط غرفة أو جدار كنيسة، بهدف مُتعارف عليه، وهو تجاهله ونسيانه! فحياتنا المعقّدة المركّبة، جدّ صعبة في الأزمنة الحديثة، وفيها من الأعباء، ما لا يُخلي مكاناً لعبء الأيقونات. وكثيرة وعديدة هي الأيقونات في حياة البشر الفانين. أيقونات دينية واجتماعية وسياسية وثقافية الخ. أيقونات من جميع الأشكال والأنواع. أيقونات أيقونات. حتى صرنا نحن البشر أيقونيين أو أيقانيين، في السواد الأعظم منا. أيقونيّون بقصد، أو بدون قصد. أيقونيون نتبع هذه الأيقونة أو تلك. وحتى صار لنا [ وعي ] الأيقونة، وثباتها الاستاتيكي، وكأنما تاريخ البشر منذ كانوا، وإلى يوم الأيقونة هذا، هو مجرد تبعيّات للأيقونات! في القديم، كان أسلافنا الأوائل، يقدّسون الطواطم. كل قبيلة كان لها طوطمها، الذي هو عبارة عن حيوان ما، أما الآن، فقد تقدمت البشرية تقدمها المظفر بالطبع، وعليه، فقد انتقلت من طور تقديس وعبادة الطواطم، إلى طور تقديس وعبادة الأيقونات. استبدلنا طوطم الحيوان بأيقونة الإنسان، وكفى الله المؤمنين بالتقدم شرَّ التقدم الحضاري الحقيقي. وكعرب، نحن أيضاً لنا أيقوناتنا. سواء في السياسة أو الاجتماع أو الفن. وكفلسطينيين، لا تنقصنا الأيقونات. فنحن، والحمد لله، لدينا الكثير منها. أبو عمار أيقونتنا في السياسة. محمود درويش أيقونتنا في الشعر. عزالدين القسام أيقونتنا في الجهاد. حسن البنا أيقونتنا في الدين. وهكذا دواليك. كل عقد يمرّ على الفلسطينيين، غالباً ما يُسفر عن تصنيع أيقونة جديدة. في العقد الأخير مثلاً، صار لدينا أحمد ياسين أيقونةً. ولا نعرف عمّا ستتمخّض العقود القادمة من أيقونات. هذه مقدمة مبسّطة، قبل الدخول إلى الموضوع، وهو : حماس ووعي الأيقونة. فحماس، وخلال ثلاثة شهور مرّت على تشكيلها للحكومة الفلسطينية الجديدة، أثبتت بما لا يدع مجالاً لشاكّ، أنها غير قادرة، أو في أحسن الأحوال والنيّات، أنها متعثرة في الخروج من مثاليتها الدوغمائية _ الاعتقادية، والنزول إلى أرض الواقع والدخول في وحْله الدّبِق، وما يستتبعه هذا من مرونة وتعاط مع المتغيّرات. فحماس ما زالت تصدر عن مثالية، في تفكيرها وتدبيرها، رؤاها ومقترباتها،مثالية هي في عرف كل السياسيين : لا شيء. نعم : لا شيء. فآخر شيء ممكن أن تحتمله وتتحمّلهُ السياسةُ هو quot; المثالية quot;. بل إنّ المثاليةَ في حقيقة أمرها إنما هي مطرودةُ السياسة : مطرودتها لا طريدتها. ولاحظوا فارق المعنى في تغيير الحروف : فالطريدةُ مطلوبة ومرغوبة، بينما المطرودة مُلغاة ومُقصاة وغير مرغوب فيها من الأصل. لماذا هذا؟ لأن السياسة، وكما قيل حقاً، هي فنّ الممكن. بينما المثالية، مُفارِقة بطبيعتها الفكرية وبتعاليها على المحسوس، طمعاً وحلْماً وشغفاً ربما ب ما وراء المحسوس. إن مأزق حماس الأكبر، أنها تتمتّع بوعي الأيقونة لا بوعي الممكن والواقع. والأيقونة، في تعاليها الباذخ عن المعيش، لا تصنع التاريخ، للأسف أو لسوء الحظّ. إنها تتعالى عليه، من قبيل الوهْم، بينما هو يتعالى عليها، يقيناً وواقعاً. لقد قيلَ لحماس عشرات المرات، إن المثالية مكانها حقل الأخلاق، أو فضاء الميتافيزيقا، لا ساحة السياسة. وإن حداثتها في العمل السياسي، لا تشفع لها، مهما كانت المنطلقات نزيهة وبريئة، بأن تتلكأ أكثر من اللازم. فالوقت ليس في صالحنا أبداً، وبالأخص في عالم اليوم : العالم الذي لا يرحم. لكن حماس لا تسمع. وإن سمعت، وهو أمر مشكوك فيه، لا تتغيّر. فالتغيير بحاجة إلى وقت طويل، وبخاصةٍ إذا كان من يُطلب منهم مثاليين بنزعات أيقونية مثل قادة وقواعد حماس. إن مأساتنا هي مع quot; الشيء في ذاته quot;، ولا يعنينا ما خلفه، إلا من قبيل التوثيق ونزعة الأرشفة، على حين متسع من الوقت والتحرير والهدوء. حماس ماضية في طريقها، طريق السُبات الأيقوني. ولا يهمّها ما يعانيه شعبُها، من مذلات فوق طاقة الكائن البشري عموماً، وفوق احتمال المواطن الفلسطيني بالخصوص. إنها تعاند، ولا أعرف مَن! تظنّ أنها سوف تنتصر في معركتها مع الحصار الدولي. ولا ترى له من حلول سوى [ صبر ساعة ] وكأننا حقاً في حلبة قروسطوية لرياضة عضّ الأصابع! إنّ وعيها المنغلق، الثنائي، التبسيطي، هو وعي الكارثة : وعي الأيقونة. الوعي الذي يحتقر الحقائق الدامغة على الأرض، متشبثاً بأوهام ما فوق أرضية. وكما يخيّل إليّ، فإنها، وعبر كل تصرفاتها وسياساتها، قبل وبعد الصعود إلى سدّة الحكم، معنية أولاً بإثبات صوابية ما في خطابها الأيديولوجي الديني من استيهامات، ومن نرجسيات، حتى لو تمّ ذلك على حساب البشر، وآلام البشر. ناسية ومتجاهلة أن ألم الكائن البشري، بما هو إنسان، فوق كل ألم، وأنه الأقدس والأعلى قداسة من جميع المقدسات. قبل أيام، ذهب إيهود أولمرت إلى مجلسي النواب والشيوخ الأمريكييْن، وقال هناك إنه [...برغم كل الألم، فقد تعلّمنا، نحن شعب إسرائيل، أن نغيّر من وجهة نظرنا.. لا بد لنا أن نساوم من أجل السلام : أن نتنازل عن أجزاء من أرض الميعاد، التي تشهد كل تلّة ووهَد فيها على التاريخ اليهودي (...) علينا أن نتخلّى عن جزء من حلمنا، من أجل إفساح المجال أمام حلم آخرين، حتى نستطيع جميعاً التمتع بمستقبل أفضل. ] وأيضاً قال في مكان آخر من خطابه : [ من أجل هذه المهمة المؤلمة، ولكن الضرورية، انتُخِبت حكومتي، وهذا ما سأكون ملتزماً تجاهه بكل جوارحي (...) إن ما نأمله، ونتمناه، هو أن يصحو جيراننا الفلسطينيون أيضاً، وأن يميّزوا بين الأفكار التي تمنحنا الإلهام في بناء واقع أفضل، وبين الأوهام التي من شأنها فقط أن تقودنا إلى غياهب الظلمة ] انتهي ما يخصّنا من كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي، ولن نعيد على قرّاء إيلاف المحترمين، خطاب أولمرت كاملاً. فلا شكّ أن المُتابع ومن يهمّه الأمر قد سمعه أو قرأه بحذافيره. لكنني أودّ لفت نظركم إلى أن هذا الخطاب، أُعتُبِرَ من قِبل عضو كونغرس أمريكي مخضرم [ كأهمّ خطاب أجنبي أُلقيَ أمام أعضاء مجلسيْ الكونغرس، خلال نصف قرن!] وبالطبع، علامة التعجب من عند كاتب هذه السطور، لا قائل تلك العبارة! فانظروا إذاً، كيف تتكلّم الضحية بين ظهرانينا، وكيف يتكلّم الجلاد بين ظهراني أهله والعالم! خطابان مختلفان تماماً بل نقيضان، وكل ما في الأمر، أن ثمة أمراً جد بسيط، كان يجب أن يحدث : وهو : إن خطاب أولمرت كان يجب أن يكون خطابنا نحن الضحايا، والعكس صحيح. بمعنى، ما كان يجب أن نقوله نحن الضحايا، ونمتنع عن قوله إلى الآن، يقوله جلادنا، ناسبه إليه! ألا يذكّركم خطاب أولمرت، بخطاب عرفات في حديقة البيت الأبيض! يومها تكلّم رابين بلسان الفلسطينيين، لا بلسان شعبه المحتل. وهكذا، وهكذا، يعيد التاريخ نفسه الآن، ولا يهمّنا تكراراً أم مأساةً أم مهزلة! يحدث هذا في الوقت الذي تطلق فيه إسرائيل يدَ إرهابها إلى أبعد مدى، وفي الوقت الذي تحاصر فيه أية بادرة جدية لسلام مقبول مع الفلسطينيين. ففضلاً عن حصارهم وتجويعهم على نحو مرعب، تتجاهل أيضاً دعوات رئيسهم محمود عباس الصادقة والمتكررة إلى إعادة عجلة المفاوضات بين الجانبيْن. مدعية أنه لا يوجد شريك فلسطيني جديّ كي تجلس معه وتفاوضه على تسوية ما. لماذا؟ لأن الرئيس الفلسطيني في نظر ساسة إسرائيل، هو [ مجرد رئيس هشّ وضعيف وعاجز، ولا كلمة مؤثرة له على شعبه ]! مع أن ثلاثة أرباع العالم على الأقل تعرف بأن أبو مازن رجل عقلاني وجاد، ومخلص في بحثه عن وضع نهاية لمأساة شعبه التي طالت أكثر مما يجب! إن إسرائيل، التي لا تعوزها المبررات أصلاً، في رفضها لأية بادرة سلام حقيقية، لتستغل الآن والآن بالأخص، صعودَ حماس إلى سدة السلطة، وتطرّف خطابها السياسي والإعلامي، كي تثبُت صحة مقولتها بأن لا شريك. وللأسف الحارق، فإن حماس، سواء بسذاجتها في العمل السياسي، أو بتطرفها الأيديولوجي، أو بكليهما معاً، وهو ما هو حقيقة في الواقع، لّتخدمَ إسرائيل دون أن تدري! فإسرائيل بحاجة وجودية، قبل وبعد الحاجة السياسية، إلى عدو وخصم تاريخي ذي خطاب متطرف وعنيف. فذلك يغطّي على كل ما تريد دولة الاحتلال تنفيذه من جرائم ومخططات. وإلى اللحظة، فإن حماس تكابر وتناور، ناسية أن ما سبق، هو حقيقة بديهية لا تحتاج إلى جدال بيزنطي، ولا جدال أرسطوي! فإسرائيل الآن في أوج قوتها، وفي أوج رضا العالم عنها. بينما نحن ذاهبون إلى الكارثة، وإلى شفير حرب الميلشيات، و إلى شفير تصفية قضيتنا الوطنية، وإلى تحويلنا من شعب له حقوق سياسية إلى شعب من الجائعين [ غير الراكعين! ]. وكل ذلك لماذا؟ لأننا نخشى ونجبن من مواجهة أزماتنا وتشخيصها ووضع الحلول الرشيدة لها، بما يليق بشعب متعلّم مسيّس مثقف، عانى طويلاً وآن له أن يلتقط نفَسه ويرتاح. إسرائيل ماضية في تنفيذ مخططاتها للإجهاز تماماً علينا، ونحن ماضون في سُباتنا الأيقوني، وفي دفن رؤوسنا في الوحل، وفي الهروب إلى الأمام. فالمهم هو الأيقونة، وصواب أفكارنا عنها، وأما الوطن المتناقص مساحةً كل يوم، وأما ملايين الناس الذين بدأوا مجازاً يطبخون لأولادهم حصى عمر ابن الخاطب، وسوف يطبخونه واقعاً لو استمر الحصار، فكل هذا لا يهمّ. ذلك أننا موجودون على أرض الرباط، وذلك أن صراعنا مع اليهود صراع وجود لا حدود : صراع إلى يوم قيام الساعة. وذلك أن فلسطين هي [ أرض وقف إسلامي ].. إلخ إلخ، من هذا الكلام الهذياني، الذي لا يطعم جائعاً ولا يحرر شبراً ولا يقي من ركوع!
إن إسرائيل الآن تعيش أزهى عصور يقظتها : انتباهها وصعودها، وأما نحن، وبالأخص حركة حماس، فما زلنا في مرحلة السُبات الأيقوني، وكما أرى، فإن مرحلة الاستيقاظ من وخم هذا السُبات لم تحن بعد. وعلى ما يبدو، فإنّ دماً كثيراً سوف يسيل، سواء بيننا داخلياً، أو مع إسرائيل خارجياً، قبل أن نستيقظ... فوا أسفاه يا عقلي ويا قلبي، حين لا يجدي الأسف ولا ينفع التأسّف!