ملحمة التحريف الذكوري المقصود لجنس الآلهة

بين كتاب (يوم كان الرب أنثى) للفنانة/ الأركيولوجية (مارلين ستون)، والذي يتحدث عن التحريف المقصود الذي قامت وتقوم به الثقافة الذكورية للتأريخ البشري، وبالتحديد لجنس الآلهة فيه، وبين كتاب أصل الفروق بين الجنسين، للكاتبة (أورزولا شُوي)، والذي يتحدث عن التحريف الذكوري المقصود لواقع الأنثى الراهن، عن طريق مسح الملامح التلقائية لها واستبدالها بملامح مقصودة تكرس لمجتمع ذكوري، لا تؤدي فيه الأنثى غير دور التابع الذليل، أو في أحسن الأحوال التابع الذي يتطلع نحو الأعالي باحثاً عن المساواة. بين هذين الكتابين كانت لي رحلة من الانتقالات (الفكرية/ الاعتقادية/ السلوكية). ففي الكتاب الثاني تقيم الأنثى أدلتها القوية على أنها لم تخلق بهذا الشكل التابعي (الضعيف والسلبي) بقدر ما أننا ـ الذكور ـ نقوم وباستمرار بجرها نحو مستنقعنا الآسن، مستنقع التمييز والإقصاء.

ثقافتنا بعمومها مليئة بكل ما يدعم الذكر، ويحيِّد الأنثى، وهكذا ومنذ الطفولة يجد الجنسين نفسيهما أمام أَسْهُم مختلفة وحظوظ متفاوتة. منذ الصغر ونحن نتعلم بأن لعب الذكر مع الأنثى منقصة بحق ذكوريته وشرفها العالي، منذ الصغر ونحن نلقن بأن ألعاب الأنثى وتسريحة شعر الأنثى وملابس الأنثى طريقتها في المشي، كل هذه الأشياء مما لا يليق بالذكر فعله، وهي حتماً مما ينزل به من عال رفيع إلى دان وضيع!!
هذا ما نُلَقَنَه منذ البواكير الأولى. لكن ماذا يمكن لمثل هذا التلقين أن يزرع في شخصيتي الجنسين (أو بالأحرى النوعين)؟
كيف يمكن للأنثى أن تكون طبيعية وسط منظومة تنشئة، تقوم على التمييز. والغريب أن منظومة التمييز هذه والموجهة ضد الأنثى وصل بها النجاح لدرجة أنها كسبت حتى الأنثى (الأم) لصالحها وحولتها إلى مسوق بارع للثقافة الذكورية ومدافع باسل عنها، والفضل يعود طبعاً للمراس طويل الأمد، للتاريخ الممتد بالأغوار السحيقة، وأيضاً للقساوة الذكورية المفرطة.
إذا كانت الثقافة الاجتماعية هي المسؤولة المباشرة عن صياغة الملامح الثابتة لشخصية الفرد، فكيف يمكن للأنثى وسط جوٍ ذكوري تمييزي بشع، أن تُكَوِّن شخصيتها باستقلال؟ كيف يمكن لها أن تكون ما هي عليه، إذا كان المجتمع الذكوري يدفع بها لتكون ما يريد لها أن تكون عليه؟ كانت هذه هي حالتي مع الكتاب الثاني.

أما بالنسبة للكتاب الأول فقد كان أكثر تأثيراً في نفسي ومزاجي، حقاً لقد جعلني ذلك الكتاب أكره ذكوريتي، وأمتعض من فرط ما لوثنا وخلال تاريخنا الطويل كل الأشياء التي حولنا، حتى الأنثى شريكتنا في الحياة لم تسلم من عبثنا ولهاثنا وراء السيادة والتسلط. فليس من المعقول أن يقوم الذكور، ومن مستوى الفلاسفة والمفكرين ـ وكما نجحت المؤلفة بأثباته ـ بالتشويه المتعمد لتاريخ الأنثى، لكن لماذا كل هذا الخوف منها، أو ربما الكره لها، أيعقل بأن الذكور ولهذا الحد لا يحتملون الشراكة في الوجود؟ حقاً لقد دفعتني قرائتي لهذين الكتابين لأن أتساءل: كيف كانت ستكون الأنثى لو أننا لم نعبث، لا بتاريخها، ولا بمعالم شخصيتها، ولو أنها كانت ستكون مختلفة، فما هو الشكل الذي سيكون عيه المجتمع عندما تمارس فيه الأنثى الحقيقية شراكتها بصنعه وبحرية تامة؟

خلال مسافة الزمن التي تفصل ما بين قراءتي لهذين الكتابين، أدهشتني العديد من التصرفات، وآلمتني الكثير من المشاهد، ففي أحد البيوت التي أتردد عليها بكثرة قمت بمراقبة نمو طفلة وسط بيت يضج بالأطفال ذكوراً وإناثاً، وهكذا تسنى لي أن أراقب وعن كثب، وأقارن بين تلك الأنثى (الطفلة) وبين طفل (ذكر) كان يتقاسم معها الحق في العيش في تلك البيئة. شاهدت كيف تنموا الأنثى وسط جو يغلب عليه التجاهل، ويفعل الذكر وسط حالة من الإعجاب والتهليل والتكبير، الجميع يترقب محاولاته الأولى للمشي، والجميع أيضاً مستعد لتقديم المعونة المعنوية (بالهتاف والتشجيع) والمادية (بالمساندة والتعليم المباشر). أما الأنثى فقد كانت تراقب من بعيد، وبكل براءة.
على مرأى ومسمع مني حدث ذلك، نعم، كنت شاهداً على الإهمال المتعمد الذي تعرضت له تلك الصغيرة، حقاً لقد كانت تُركَن في الزوايا والباحات الصغيرة، وحقاً لقد راقبت كيف أنها كانت تجهد نفسها وهي تسعى لشد انتباه الآخرين. لم تكن تعي العلة المختفية وراء إهمالها والاهتمام بشريكها، ولذلك وجدتها مضطرة للكفاح، نعم، تعلمت الحبو دون رعاية من أحد، وانتقلت وببراءة تامة نحوا خطوات المشي الأولى.

وفي يوم ما، دَخَلت البيت فكانت بمواجهتي، جالسة على الأرض تنظر ببراءة مخيفة، تقدمت منها ورحت ألاعبها بصدق وعفوية، وكانت المفاجئة مهينة بالنسبة لي، لقد جنت هذه الصغيرة وفرحت كما لم يشاهدها أحد من أفراد البيت سابقاً، ضَحِكَت بجنون وصرخت بعنف، وإزاء دهشة الآخرين من تصرفها ذاك، سألتهم عامداً: لماذا هي فرحة بهذا الشكل؟ فكان الجواب سهلاً ومباشراً: لأنها لم تعتد على الاهتمام والملاعبة.
أي جناية نمارسها بحق الأنثى؟ أي إصرار على الجريمة نقوم به نحن الذكور، ومنذ آلاف السنين؟ أنا حقاً أتساءل عن حقيقة أننا ككائنات قد تجاوزنا المرحلة البدائية في سلم تطورنا الاجتماعي والإنساني.
لقد بدأت أظن أن الأنثى كائن غير موجود في أغلب مجتمعاتنا، وأن ما موجود بيننا ليس إلا نسخة محرَّفة عنها، مكتوبة من قبل الذكور ومن أجلهم فقط.
يوم كان الرب أنثى، كانت الإناث بشكل آخر مختلف وكان للمجتمع يومها ــ وكما أجزم ــ طعم مختلف. وفي يوم ما، اعتلى الذكور خيولهم، وتسلحوا بفحولتهم، وهجموا بكل وحشية ونزق على التاريخ، كل التاريخ، وهكذا تمكنوا من ذبح جميع الآلهة الإناث، ليس لشيء آخر غير الثأر لطبيعة نوعهم العنيف والنزق، من براءة ونعومة واختلاف النوع الآخر.