لقد تميز القرن العشرين في التأريخ السياسي العربي بهيمنة الفكر القومي العربي الذي إكتسح عددا كبيراَ من البلدان العربية وأدى الى سقوط وتحطم الكثير من الأنظمة العربية الشبه ليبرالية والتي تشكلت بتأثير من دول أوروبا التي كانت مهيمنة على مقدرات المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين. وقد أدت هذه الحركة التي تميزت بالمحتوى الشوفيني الكاره والمحتقر للآخر الى إقامة عدد من الدول البوليسية التي تفاوتت في مدى إستهانتها لحقوق الإنسان وفي غياب حكم القانون. والنموذج الأمثل لهذه الدول ذات الميول الفاشية هو بالطبع دولة البعث بشقيها العراقي والسوري وإن كان النموذج الليبي لا يقل عنهما فاشية وإنتهاكاَ لحقوق الإنسانَ.
و من المثير للإنتباه أن البلدان التي إستطاعت أن تحافظ على أنظمتها الشبه ليبرالية كالأردن والمغرب وعلى الرغم من تمتّع مواطنيهم بحقوق وحريات تفوق نسبياَ ما كان متاحاَ لمواطني الدول الثورية ذات الحكومات القومية إلا أنها بقيت في موقف الضعيف أمام الآيديولوجية القومية العربية الكاسحة. وإستمر المواطن العربي العادي في تمجيده للدول العربية الفاشية دون أن تحركه الإنتهاكات المريعة التي تمارسها هذه الدول ضد مواطنيها. لقد بقي المواطن العربي يعيش هذه الإزدواجية التي تجعله يمجّد أنظمة فاشية تحتقر أبسط حقوق الإنسان ولكن دون إبداء أي رغبة في المعيشة تحت هذه الأنظمة وفي نفس الوقت النظر باحتقار وإزدراء الى البلدان العربية الشبه ليبرالية ومع تفضيل العيش فيها قدر المستطاع. كذلك نلاحظ بإن على العكس من الشعوب الأوروبية التي أنتجت أنظمة فاشية والتي مرت بعد سقوط تلك الأنظمة بعملية مراجعة للذات مؤلمة ومضنية (كألمانيا و إيطاليا) لمحاولة فهم الجذور الإجتماعية لهذه الآيديولوجيات فإن الشعوب العربية بقيت تمجّد فاشيتها دون أدنى شعور بالذنب للجرائم البشعة التي إرتكبتها. لذلك نرى بأن رجل الشارع العربي لا زال يعتبر بأن العرب هم ضحية بريئة لقوى عالمية غاشمة (صهيونية، إمبريالية...الخ) دون أدنى إلتفات الى حقيقة أن ضحايا الأنظمة والآيديولوجيات الفاشية العربية يفوق أضعافاَ مضاعفة ضحايا أي قوى خارجية.
ومع أفول الفاشية القومية العربية كفكر ونظام برز الى السطح معالم فكر سياسي جديد أخذ يهيمن تدريجياَ على عموم الشعوب العربية الا وهو الإسلام السياسي. وكما أشرت في مقال سابق فإن الإسلام السياسي ما هو الا نسخة مركّزة من الفكر القومي العربي. فإن هذا الفكر يحتوي على كافة المكونات السلبية للفكر القومي من النزعة العدوانية نحو الآخر وتمجيد الذات وإنكار حق الآخر في الوجود الى جانب تبرير إستخدام العنف المفرط لتحقيق أهدافه السياسية دون أي إعتبار للقيم الإنسانية. لقد برز هذا الفكر العدواني الفاشي على أثر الصحوة الإسلامية الخمينية-البن لادنية وتحاول هذه الحركة الآن بشقيها السني والشيعي الإستيلاء على السلطة في إي بلد عربي كخطوة للهيمنة على المنطقة بإسرها. ومع ظهور الفكر الفاشي للإسلام السياسي الحديث ظهر معه عرّابو هذا الفكر من أمثال هيئة علماء المسلمين و مقتدى الصدر والخالصي في العراق و نصرالله وفضل الله في لبنان وأمثال خامنئي في إيران. أما على المستوى العربي السني فإن العرّاب الأكبر للحركة الفاشية الإرهابية الجديدة هو الدكتور يوسف القرضاوي دون منازع. إن هذا المنظّر الديني الساكن في دولة قطرعلى بعد كيلومترات قليلة من أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط هو اليوم أكبر داعية لهذا الفكر الفاشي الخطير وذلك من خلال قناة الجزيرة المملوكة من قبل العائلة الحاكمة القطرية. إن القرضاوي بفتاويه بدعم وتبرير الإختطاف وقتل الرهائن في العراق من خلال شرحه لquot;فقه الإختطافquot; قد أعطى الضوء الأخضر للكثير من المجرمين أن يمارسوا هواياتهم السادية و أذن لأي مجرم ساقط أن يمارس القتل والإختطاف وهتك الأعراض ثم يبرر هذا كله بدعوى الجهاد ضد المحتل. وأدعو القاريء الكريم أن يزور موقع الجزيرة على الإنترنت لكي يطلع على ما يدعو له هذا العالم الديني من قتل وترويع للأبرياء في العراق.
http://www.aljazeera.net/channel/archive/archive?ArchiveId=101377

إن الكثيرمن الشيعة العراقيين يتوهمون بأن الإرهاب هو ظاهرة سنية تنبع من الحركات السلفية التكفيرية والحقيقة أن لافرق في بين تلك الحركات وبين إرهاب الميليشيات الشيعية الا من حيث التكتيك. ففي حين يمارس التكفيريون السنة القتل الجماعي بالمفخخات فإن الميليشيات الشيعية تمارسه بالبنادق والسكاكين. كذلك فإن كلتيهما حركات غيبية معادية للحداثة بكافة أشكالها ومعادية للديمقراطية. كما أن قوى الإسلام السياسي في معظم أشكالها هي في الأساس قوى ظلامية تنظر بإزدراء الى العلم والمعرفة الى حد تمجيد الجهل والأمية. فنجد قادة هذه الحركات هم من أمثال مقتدى الصدر و أبو مصعب الزرقاوي وهما بالكاد من حاملي الشهادة الإبتدائية.

لذا فإننا أمام حقيقة مؤلمة تحتاج الى تفسير وتحليل وهي أن المنظومة السياسية والإجتماعية العربية الحديثة قد تمكنت من إنتاج حركتين فاشيتين خطيرتين خلال قرن من الزمان الأولى تمكنت من الإستيلاء على نظام الحكم في عدة بلدان عربية وتسببت في قتل وتشريد الملايين من خلال سياساتها الرعناء. لكن على الرغم من مساويء الفاشية القومية العربية فقد كانت حركة محلية لها أهداف تخص المنطقة دون غيرها . كذلك فإن الحركة القومية العربية كانت تهدف الى التعايش مع النظام الدولي والى التأقلم مع الحداثة بشكل من الأشكال. أما الفاشية الجديدة (الإسلام السياسي) فهي حركة عابرة للحدود ولها طموحات عدوانية غير محددة ولا نية لديها للتعايش مع النظام الدولي أو مع الحداثة. كذلك فإن الإسلام السياسي بالأساس حركة ظلامية نهلستية تهدف الى تدمير الغير ولا تبالي بموت الأبرياء ، مسلمين كانوا أم غيرهم طالما كان ذلك في خدمة أهدافهم الطوباوية وأحلامهم في هزيمة الكفار وبناء إمبراطوريتهم الموعودة.
والسؤال هنا: مالذي جعل الحضارة العربية المعاصرة مغرمة بهذا الشكل المهووس بإنتاج حركات فاشستية إرهابية هدفها الأوحد هو الدمار وسفك الدماء؟
إن الخراب البشري الذي كتب عنه الزميل د. عبد الخالق حسين فيما يخص الشعب العراقي هو دون شك عامل مهم. لكن بإعتقادي هناك أسباب أخرى تتعلق بالمضمون الحضاري للفقه الإسلامي المعاصر وتأثيره على عقول ونفوس العوام. إن الفقه الإسلامي الحديث هو فقه الحرب الدائمة داخلياً وخارجياَ. هو فقه عدواني، فقه الويل والثبور همّه الأوحد هو عسكرة المجتمع وتحريض الشباب على معاداة كل ما هو أجنبي. إن هذا الفقه الطاغي في المجتمعات الإسلامية هو الذي وفر الأرضية الخصبة التي أنتجت الآيديولوجية الإرهابية للإسلام السياسي الحديث بشقيها السني والشيعي.
والسؤال هنا لعلماء المسلمين في كل مكان: أين هو فقه المحبة والسلام؟ أين فقه السعادة والرفاهية وحقوق الإنسان؟ لماذا أهملتم فقه الرحمة والتسامح؟ أين هو فقه طلب العلم وحرية الرأي؟
لقد أصبح الإسلام بفضل فاشية الإسلام السياسي يعني الإرهاب وسفك الدماء في أذهان الكثير من غير المسلمين. أما حان الوقت للعقلاء في هذه الأمة أن يوقفوا هؤلاء الجهلة الأوغاد قبل فوات الأوان؟