يملأ الأقباط الساحة المصرية والعالمية بالشكوى والصراخ، تفعل ذلك قيادات الكنيسة، ويفعل المثقفون الأقباط في داخل مصر وخارجها، ويتضامن في التأييد والصراخ مع هؤلاء مثقفو مصر وأحرار العالم من المسلمين وغير المسلمين، يصور كل هؤلاء الأمر على أنه مواجهة بين أقلية تفتقد لحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، وبين تيار التعصب المتأسلم الجارف، والذي يستبعد الآخر، ويحرض ضد أخوة الوطن والإنسانية، ورأينا ونرى جميعاً كيف يتعرض الأقباط والمتبنون لقضيتهم لمدفعية ثقيلة، يوجهها لصدورهم سدنة الكراهية والشمولية والتعصب، ومن المهم هنا استعراض أهم القذائف التي اعتاد هؤلاء إطلاقها على أخوة الوطن الساعين للحصول على حقوق إنسان الألفية الثالثة:
middot; الاتهام بالكفر، وما يستتبعه من ضرورة التضييق عليهم ومحاصرتهم ليعودوا عن كفرهم، أو يعشوا أذلاء في وطنهم.
middot; الادعاء بأن وجودهم وعلو صوتهم في حد ذاته يهدد الوحدة الوطنية.
middot; الادعاء أن توسعهم في بناء الكنائس فيه تطاول وانتقاص من سيادة الأغلبية.
middot; أن الوطن يجب أن يسوده ويسيطر على جميع مجالات الحياة فيه فكر واحد، هو فكر الأغلبية المستمد من دينها، وأن ظهور أي فكر آخر هو طعن في دين الأغلبية، وفتنة للأمة في دينها وهويتها.
middot; اتهام قادة الكنيسة ومثقفي الأقباط - وبالذات أقباط الخارج ndash; بالاستقواء بالخارج على أبناء وطنهم.
middot; اتهام الرموز المنادية بحقوق الأقباط بالخيانة الوطنية، وبأنهم ذيول لمؤامرة أمريكية صهيونية، تستهدف الوطن والمنطقة، كما تستهدف دين الأغلبية.
middot; استخدام نعوت وألفاظ تدخل في نطاق السباب الصريح، في وصف الأقباط والمدافعين عن قضياهم.
تصور الجميع ndash; ومنهم كاتب هذه السطور ndash; أن القضية مواجهة بين دعاة الرجعية والظلامية، وبين دعاة الحداثة والتحرر الإنساني، مواجهة بين فلسفة العبودية والكراهية والقتل، وبين فلسفة الحرية والمحبة والسلام، ظل الأمر لا يمكن أن يوصف إلا بهذا الشكل حتى ظهر على المسرح الأنبا مكسيموس ومجمعه الأرثوذكسي لمنطقة الشرق الأوسط، فتصدى له الأقباط وكنيستهم، من كانوا قبل سويعات يلعبون دور الضعفاء المستضعفين والباحثين عن الحرية، فكيف كان تصديهم؟
قبل أن نتعرض لأداء الجانب القبطي في هذه المعركة المستعرة ndash; ربما ستظل كذلك لشهور وسنوات قادمة ndash; ينبغي أولاً أن نوضح بعض النقاط:
middot; لا نلوم أو نتوقع من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية العريقة، أن تقف صامتة أو مستسلمة للوافد الجديد ومجمعه المقدس، فمن حقها بل وواجبها أن تتصدى له، حماية لشعبها وعقيدتها، لكن الدهشة واللوم يتركز على أسلوب المواجهة، وطبيعة الأسلحة التي قررت استخدامها في هذه المواجهة.
middot; يتركز اللوم والدهشة من أسلوب الحرب التي تشنها الكنيسة ومثقفوها على الوافد الجديد، انطلاقاً من حقيقة أن الحرب الضروس بين الكنيسة والاتجاهات المتطرفة في الوطن هي بين طرفين تفصلهما مسافة جد واسعة في الأفكار والمعتقدات، وبالتالي فإنه من المتوقع ndash; وإن كان من المستهجن ndash; أن تكون الاتهامات المتبادلة بينهما من العيار الثقيل، أما المسافة بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التقليدية والكنيسة أو المجمع الوافد، فهي مسافة ضئيلة فكرياً وعقائدياً، وتكاد لا تتعدى الهوامش، والخلاف الحقيقي الجاد في الأمر لا يعدو أن يكون صراع كيانات، صراع على السيطرة على الشعب القبطي المقهور - مع سائر مكونات الأمة المصرية ndash; سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً، وربما لهذا الأمر بالذات تأخذ المعركة هذه الحدة، فالذين يحتكرون ألقاب أسياد الأقباط دون منازع، وجدوا فجأة مجموعة جديدة، هبطت عليهم من السماء أو من أمريكا، تريد أن تنازعهم في السيادة على الأقباط المساكين، ولتشاركهم في استنزاف أموالهم لشراء أحدث ماركات السيارات، وبناء الاستراحات بالملايين.
الشعب المصري وعلى رأسه أخوة الوطن من المسلمين يراقب الأقباط الآن كيف يواجهون الآخر المختلف عنهم في أمور هامشية، وهم من كانوا قبل لحظات دعاة تسامح ومحبة، أو هكذا على الأقل كانوا يقولون أو يدعون، فلنر ماذا فعلوا، وكيف يدافعون عن قضاياهم حينما يكونون هم الأقوى، فما أيسر ارتداء مسوح التسامح والمحبة حين تكون الطرف الأضعف، أما حين تستشعر القوة فإن أخلاقك الحقيقية تظهر بلا مواربة في أدائك:
middot; انهال على الوافد الجديد (الأنبا مكسيموس) سيل اتهامات بأنه ذراع لمؤامرة أمريكية على مصر.
middot; اتهامات بالخيانة والعمالة لإسرائيل لمجرد أنه صرح بتنظيم رحلات للقدس، في تملق رخيص للتيار المعادي لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، متاجرين بالموقف الذي كان البابا شنودة قد اتخذه، وتعدى فيه سلطاته التي هي دينية محضة، فخلط بين الدين والسياسة، سائراً بعكس الاتجاه الذي من المفترض أن يسعى فيه الأقباط وكل قوى التنوير في المجتمع، وهو فصل الدين عن السياسة.
middot; تحريض الدولة ضد المجمع الأرثوذكسي الجديد، والصراخ بأن التصريح له ببناء كنائس يهدد أمن الوطن والسلام الاجتماعي، في تبن عجيب ومدهش لمنطق الظلاميين الذين يدعون أن بناء الكنائس يهدد من الوطن!!
middot; قام مدع لتبني حقوق الإنسان المصري ومعه آخرون برفع قضايا أمام المحاكم لمصادرة حق الوافدين في الوجود، مع ادعاءات بأن الأنبا مكسيموس قد سب البابا شنودة، متعامين عن البون الشاسع بين السباب أو التجريح الشخصي، وبين النقد ولو القاسي لأداء شخص عام لمهام وظيفته، وإن كنا نعذرهم في هذا التعامي، حيث أن المسيطر على أفكارهم وعقولهم هو نهج التابوهات المقدسة، بما يعني أن القائمين على شئون المقدس لهم أن يفعلوا ما يحلو لهم، دون أن يتجرأ أحد على مسائلتهم.
middot; من يتهمون الآخر بالسباب يستخدمون بجدارة قاموس شتائم يعاقب فعلاً عليها القانون.
middot; يستخدمون أسلوب التكفير الديني، ويخدعون أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين، مدعين أن الأنبا مكسيموس يؤمن بعقائد تجعله خارجاً عن المسيحية، وليس مجرد فكر مختلف كسائر الاختلافات الطائفية، هو إذن ذات نهج التكفير وإلصاق التهم غير الحقيقية، لخداع من لا يمتلكون إمكانية التحقق علمياً من صحة تلك التهم، أي خداع أفراد الشعب العاديين من مسيحيين ومسلمين.
مشكلة قادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مع القادم الجديد تتلخص في رأيي في أمرين، أولها أنه أتى ينازعهم على السيادة الدينية على الأقباط، وما التحق بها في العقود الأخيرة من سلطان سياسي، وينسحب هذا الأمر على المستويين الشخصي والمؤسساتي، فالسيد الأوحد لأقباط مصر يجد فجأة من اختلف معه منذ سنوات طويلة، يأتي متسلحاً بعناصر القوة، لينازعه أو يشاركه السيادة على ملايين المستعبدين الخانعين، وعلى مستوى المؤسسة القبطية الأرثوذكسية، فإنها تجد نفسها في مواجهة مؤسسة أخرى تدعي لنفسها ذات الصفة ( الأرثوذكسية) لتشاركها السلطان الذي تفردت به لما يقرب من ألفي عام.
الأمر الثاني الذي يزعج قيادات الكنيسة من الوافد الجديد، هو أنه سيتيح للأقباط مهرباً مقنعاً دينياً، متى استبدت بهم الكنيسة، ومتى تجاهلت شكاواهم ومعاناتهم الدينية والاجتماعية، جراء ما يسود الفكر الكنسي من جمود وتسيب مالي وتجاهل لمصالح الشعب تستراً خلف المحافظة على عقائد الكنيسة المستمدة مباشرة من الكتاب المقدس، فالطائفة البروتستانتية لم تكن خياراً مفضلاً للأقباط للهروب إليها رغم إقدام الكثيرين على ذلك، فهي تحمل تسمية (بروتستانتية) نجحت الكنيسة في تشويهها في عقول رعاياها، علاوة على عدم استخدام هذه الكنيسة للطقوس الفخمة والطويلة التي أدمنها الأقباط، وقساوستها يرتدون الملابس المدنية العادية، ولا يمدون أيديهم للناس لتقبيلها، ويلقبهم رعاياهم بحضرة القس، أما الوافد الجديد فيحمل نفس التسمية (أرثوذكسية) ويرتدي كهنته ذات الملابس السوداء حيناً والمزركشة حيناً آخر، ولهم ذات اللحى الطويلة ويلقبهم أتباعهم بـ quot;سيدناquot;، هم بالاختصار نسخة مكررة من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بتمام أصوليتها وجمودها، ولا تتميز عنها إلا ببعض التسهيلات مثل تلك الخاصة بزواج المطلقين، والموضوعة خصيصاً ليس من القبيل تغيير التوجه بالحرص على مصالح الناس، وإنما كعامل إغراء وجذب للأتباع.
لم أقصد بتلك السطور الدفاع عن مجمع الأنبا مكسيموس الأرثوذكسي، وإن كنت أؤكد على حقه وحق أي فرد في تكوين ما يشاء من كيانات دينية أو غير دينية، لكنني أردت أن أوضح للأقباط ما آل حالهم إليه وقد تبنوا في مواجهتهم مع المختلف عنهم خلافاً طفيفاً، ذات النهج التكفيري التخويني المصادر للآخر، وهو ما ادعوا دفاعاً عن قضاياهم أنهم يقاومونه.
والآن بصفتي أحد أقباط مصر أقول لإخواني الأقباط وقادة كنيستي القبطية الأرثوذكسية:
middot; إما أن تتراجعوا أن أسلوبكم المنغلق الشمولي والمتعصب في مواجهتكم، وتنتهجوا نهجاً متحضراً هادئا موضوعياً، يتمثل في الإقرار بحق الآخر في الاختلاف، وفي نفس الوقت الدفاع عن كنيستكم ونظمها وقادتها.
middot; وإما أن تستمروا فيما أنتم فيه، على أن تكفوا عن مطالبة تيارات التعصب الرائجة بالوطن بأن تتحلى بالتسامح، فلن يقبل أحد منكم أن ترتكبوا الجريمة وتنهوا الآخرين عن الإتيان بمثلها.

[email protected]