سلسلة الجرائم المرتكبة من قبل السلطة الصدامية في ما سميت بحملات الأنفال، لم تكن ضمن حملة واحدة، ولم يكن ارتكابها ضمن فترة زمنية واحدة، وهي لم تكن جريمة قتل في مكان واحد وعملية واحدة فقط، وطبقاً لنطاق تطبيق القوانين العقابية على مرتكبي هذه الجرائم، فأن القانون النافذ الذي يتم تطبيقه ويسري على الجرائم، القانون النافذ وقت ارتكابها، ويرجع في تحديد وقت ارتكاب الجريمة الى الوقت الذي تمت فيه أفعال تنفيذها دون النظر الى وقت تحقق نتيجتها.وتبدو سهولة التطبيق واضحة في الجرائم التي تتكون من فعل واحد، بمعنى وقوع فعل واحد تتكون الجريمة منه وينتهي بنتيجتها، أي بوقوع النتيجة الأجرامية، كأطلاق الرصاص على مجني عليه ، الا أن الأمر يكون أكثر صعوبة مع أمتداد حالة الأستمرار بأرتكاب جرائم القتل، والإبادة الجماعية مع استمرار العمل بهذا المنهج الأجرامي اليومي والمستمر لينطبق عليها حالة يطلق عليها القانون (الجرائم المستمرة).

في العام 1987 بدأت الأجهزة المعنية بتنفيذ قرارات الطاغية صدام في انهاء قدرة شعب كوردستان على رفع السلاح ومعارضة السلطة، حيث تم الإيعاز الى مكتب شؤون الشمال لحزب البعث البائد و بمساندة فعالة من القوة الجوية والقوات المسلحة وقوات الحرس الجمهوري ومديرية الاستخبارات العسكرية ومديرية الامن العامة وما يلحق بها من المفارز الخاصة بالجحوش الكورد وقوات الطوارئ وجحافل الدفاع الوطني ولجنة استقبال العائدين واللجان الأمنية ولجان مكافحة النشاط المعادي بالإضافة الى لجان المتابعة، للعمل على ما أطلق عليه أسم (تطهير القرى) كتعبير لإبادة المقاتلين الكورد من البيش مركه وغوائلهم ومسانديهم ، جرى ترتيب أمر التنفيذ بالتهيئة والتعيين الضروري، وإصدار القرارات التشريعية وفتح مقرات مساندة، ومنح وفق ذلك علي حسن المجيد الملقب بعلي الكيمياوي سلطات مطلقة ودون الرجوع الى اية جهة كانت في القرار والأوامر الصادرة منه حيث صدر القرار المرقم 160 في 29 اذار 1987، والذي منح علي المجيد بموجبه جميع صلاحيات مجلس قيادة الثورة المنحل وتولي مسؤولية جميع شؤون المنطقة، وتعزز ذلك الأمر حين وضع ميزانية خاصة للمجيد لتنفيذ حملات الأنفال دون الرجوع الى المالية أو الخزينة أو ضوابط حسابات الدولة.
أطلق الطاغية بنفسه كلمة ( الأنفال ) على الحملة التي يريد بها تنفيذ ما تراكم من أفكار في وجدانه المتهتك وضميره الأخرق، حين راودته فكرة القضاء على مجاميع بشرية معزولة من السلاح ولاستطيع واجهة قوة السلطة والقوات المسلحة ولا تستطيع القيام بأي رد فعل لما سيحدث لها لكونها واقعة تحت رحمة السلطة وقوتها وهيمنتها ، مما يجعل وصف الجرائم المرتكبة وفق هذا المقياس أنها ارتكبت بباعث دنيء مع استغلال الجناة لضعف المجني عليهم وكونهم مذعنين لأوامر القوات المسلحة المنتشرة في المنطقة، لاحول لهم ولاقوة لكون السلطة تملك السلاح والقوات المسلحة والمنفذين لقراراتها، بالاضافة الى تحويل المنطقة الى منطقة عمليات عسكرية وتطبيق القرارات الاستثنائية على الموجودين فيها .

بالإضافة الى استغلال الجناة في ارتكاب الجرائم صفاتهم الوظيفية ومناصبهم ونفوذهم من اجل ايقاع اكبر الضرر في ارتكاب جرائم القتل بأكبر شريحة ممكنة من الكورد.
وإذا كان الدافع الذي عالج صدام بموجبه هذا الأمر بالانتقام من عوائل المقاتلين البيش مركة والعصاة على سلطة الدكتاتور بزعم قطع الإمدادات والمعونات والمساندة الشعبية، فأن الأمر شمل حتى الأطفال الرضع والشيوخ والنساء الذين لايرتبطون بأي رابطة بهؤلاء المقاتلين.
ومع أن الآية القرآنية ((من أهتدى فأنما يهتدي انفسه * ومن ضل فأنما يضل عليها * ولاتزر وازرة وزر أخرى * وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ))، الا إن الطاغية صدام أنى له إن يفهم نصوص القرآن التي استعملها في المجازر والمسالخ الإنسانية.
الأنفال سورة من سور القرآن الكريم، اراد بها الطاغية إن يقول للناس أن الله هو الذي أمره بأن يأمر بقتلهم، والله جل شأنه هو الذي أمره بأن يستولي على ممتلكاتهم، وانه مكلف بأمر رباني ليقلعهم من الحياة ولو دون ذنب.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
والْقَوْل فِي تَفْسِير السُّورَة الَّتِي يُذْكَر فِيهَا الأنْفَال اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى الاَنْفَال الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ الْغَنَائِم , وَقَالُوا : مَعْنَى الْكَلام : يَسْأَلك أَصْحَابك يَا مُحَمَّد عَنْ الْغَنَائِم الَّتِي غَنِمْتهَا أَنْتَ وَأَصْحَابك يَوْم بَدْر لِمَنْ هِيَ , فَقُلْ هِيَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
رَوَى عن عُبَادَة بْن الصَّامِت قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْر فَلَقُوا الْعَدُوَّ ; فَلَمَّا هَزَمَهُمْ اللَّه اِتَّبَعَتْهُمْ طَائِفَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُونَهُمْ , وَأَحْدَقَتْ طَائِفَة بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاسْتَوْلَتْ طَائِفَة عَلَى الْعَسْكَر وَالنَّهْب ; فَلَمَّا نَفَى اللَّه الْعَدُوَّ وَرَجَعَ الَّذِينَ طَلَبُوهُمْ قَالُوا : لَنَا النَّفْل , نَحْنُ الَّذِينَ طَلَبنَا الْعَدُوَّ وَبِنَا نَفَاهُمْ اللَّه وَهَزَمَهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْتُمْ أَحَقّ بِهِ مِنَّا , بَلْ هُوَ لَنَا , نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَنَال الْعَدُوّ مِنْهُ غِرَّة. وَقَالَ الَّذِينَ استولوا عَلَى الْعَسْكَر وَالنَّهْب : مَا أَنْتُمْ بِأَحَقّ مِنَّا , هُوَ لَنَا , نَحْنُ حَوَيْنَاهُ وَاسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : quot; يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَال. قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

ومع الأيام الأولى بدأت هجمات عسكرية متفرقة على القرى صاحبها التهجير القسري للسكان المدنيين، بالأضافة الى الحجز غير القانوني في القلاع المتروكة والنائية وفي معسكرات ومجمعات مسيجة، بالأضافة الى الحجز في سجون رسمية ومقرات لقواطع الجيش الشعبي بعيدة عن اماكن سكناهم، ومصادرة الأموال المنقولة.
وضمن خطوط البداية التي سبقت عمليات الأنفال، أصدر علي الكيمياوي الحاكم العسكري العام أوامره باستعمال الأسلحة الكيمياوية المحرمة، حيث القيت القذائف التي تحمل الرؤوس الكيمياوية على وادي بالسيان وشيخ وسان جنوب راوندوز، كما لم يتوان قادة الفرق والفيالق حسب أوامر علي الكيمياوي من استعمال الغازات السامة، نتج عن كارثة بشرية في أصابة العديد من المدنيين وموت اعداد كبيرة منهم بتأثير هذه السموم ، واستلمت المستشفى 500 جثة نتيجة الإصابات الكيمياوية التي سجلها الأطباء وقيدتها سجلات الأمن (وسجلت الوفيات تحت باب دفتر تسجيل الأشخاص المقتولين في أربيل )، كماتم تسليم المستشفى 300 جثة بأوامر جهاز الأمن كانت عليها جميعها اثار إصابات باطلاقات نارية متعددة، كانت قسم من الجثث مربوطة العينين برباط قماش كما انتزعت منها الساعات والهويات والمقتنيات الشخصية حيث تم تقييدها أرقام دون أسماء.
في ربيع 1987 تم مسح 711 قرية كوردية، منها 219 قرية في منطقة أربيل، و122 منها في السهول المحيطة بكرميان، و320 قرية في مناطق السليمانية وفي مناطق بهدينان، و50 قرية في دهوك، بواسطة قوات المشاة والبلدوزرات.

في 10 نيسان 1987 أصدر علي الكيمياوي بأمر من صدام أوامره بإعدام أقارب الدرجة الأولى للمقاتلين الأكراد، تمت المباشرة بتنفيذ الأمر بموجب رسالة مديرية أمن منطقة الحكم الذاتي المرقمة 106309 السري والشخصي والمؤرخة في 1 مايس 1987 فيما يتعلق بتصفية أقارب المقاتلين، ووفق هذا الأمر الغريب تمت تصفية عشرات الآلاف من الأبرياء بجريرة أنتساب أولادهم ورجالهم الى قوات البيش مركة. كما أصدر علي الكيمياوي أمراً أخر بضرورة إعدام الجرحى بعد التأكد من عدائهم للسلطة الصدامية وتم تنفيذ الأمر فعلياً.
وتمت محاصرة القرى بمنع وصول المواد الغذائية منها أو اليها، كما منع انتقال الأشخاص ووصول الاليات والتراكتورات، وجرى تهجير السكان لأسباب زعم أنها أمنية وخططت مناطق موت وقتل في المنطقة تحكمها القطعات العسكرية والقرارات الأنفعالية. ضمن الفترة بين 23 شباط الى 19 آذار من العام 1988 يفصل 24 يوم في الانفال الاولى لمنطقة سركه لو وبركه لو، كانت فيها كل دقيقة ترتكب جريمة، بل لن نتطرق الى الأرقام لئلا تختلط الأمور مع عدد قذائف الراجمات التي استعملها الجيش ضد السكان المدنيين من أهل القرى، بالإضافة الى سيول الرصاص التي وجهتها مدافع الطائرات الرشاشة مصحوبة بقذائفها وصواريخها، مع استعمال طائرات الهيلكوبتر السمتية.
وضمن الفترة من 22 آذار ولغاية 1 نيسان 1988 توسعت الهجمات الكيمياوية لتمتد الى منطقة قره داغ، كانت السلطة قد اخلت اغلب مناطق مركز القضاء وتم حجز اهلها في مجمع النصر وزراين واستولى الجيش على البلدة، وقتل نتيجة القصف الكيمياوي اعداد كبيرة من الفلاحين الذين شموا رائحة التفاح المنبعثة من الغازات، بينما كانت الراجمات مستمرة في إطلاق صواريخها ، حتى امتد القصف ليشمل قرية دوكان، ولم تسلم الحيوانات الأليفة والهائمة والدجاج من شظايا الصواريخ وانفلاق القنابل .
ونتيجة القصف فر المدنيين بما استطاعوا من حمله مع عوائلهم، تلقتهم القوات المسلحة حيث قامت بتصنيفهم، واقتيد الشباب منهم الى أماكن لم تزل مجهولة حتى اللحظة، ولم يتم العثور على جثثهم حتى اليوم، كما تم التحقيق مع الباقين الذين صدقوا قرارات العفو التي اصدرتها السلطة كمصيدة لهم، وكانت المشكلة لاتكمن في أعداد المعتقلين، انما المشكلة في مصير هؤلاء الذين لانجد تبرير سوى القضاء عليهم قتلاً بالرصاص من قبل قوات السلطة الصدامية ودفن جثثهم في مقابر مجهولة حتى اليوم.
تعرضت منطقة كرميان الى الأنفال للفترة من 7 نيسان الى 20 نيسان 1988، حيث اقتحمت الوحدات العسكرية القرى الواقعة ضمن محيطها، واقتيد مئات الرجال الى نقطة التجمع المحددة، بعد تدمير وحرق 120 قرية، واختفت اعداد كبيرة من أهالي تلك القرى وخصوصاً قرى ((زنكنة )) التي أوجعتها السلطة بالقتل والتخريب والتدمير، حيث تم تنفيذ الأعدام بكل رجل تم القبض عليه في تلك النواحي.

صاحب تلك العمليات الإجرامية والعشوائية، والتي نعتقد جزماً أنها كانت بقصد التخلص من الشعب الكوردي تدريجيا وبصمت من خلال حملات ابادة منظمة ومستمرة ، وباستغلال القوات المسلحة وقدراتها التسليحية والقتالية، صاحب ذلك نهب للممتلكات وسرقة الأموال تحت ذريعة الأنفال التي فهمها الطاغية صدام بهذا الشكل.
في مراكز التجمع حيث يقوم الناس بتسليم انفسهم انسجاما مع قرار بالعفو كان قد أصدرته السلطة وأذيع على الناس، وكان المصيدة التي حصدت رقاب من يسلم نفسه ، حيث كان القرار كاذباً وخديعة لإيهام الناس، بالإضافة الى الكماشة المنصوبة لقتل كل قادر على حمل السلاح، وهذه المسألة التقديرية تقررها اجهزة الاستخبارات والأمن، مع إن اوامر القتل شملت العديد من النساء وكان من بينهن ليس فقط الحوامل، وانما من كانت تحمل رضيعها على صدرها أو من كانت حديثة الولادة.
أنفال وادي الزاب الأسفل للفترة من 3-8 مايس 1988، بالأضافة الى تعرض المنطقة للقصف الكيمياوي، فقد تم القبض على الأطفال والشباب الذين كانت اعمارهم بين 15-20 الفارين من القصف الكيمياوي من قبل اجهزة الأستخبارات، وتم تنفيذ الأعدام بهم وإخفاء جثثهم، ومن اللافت للنظر انه تم اختفاء اعداد كبيرة من النساء من مختلف الأعمار في هذه المنطقة.
جبال شقلاوة وراوندوز تم تنفيذ الأنفال بها بين 15 مايس ndash; 26 آب 1988، تم اكتساح المنطقة من قبل قوات الجيش، وجرت تخلية قرى عديدة من سكانها، وتعرضت القرى الأخرى الى الهجمات الكيمياوية، وتعرضت اعداد ليست قليلة من الناس الى الموت بالغازات كما نفقت الحيوانات بتأثير ذلك، واستسلمت اعداد أخرى من المدنيين في قرية كولان، وتوضح تقارير الأمن إن اعداد كبيرة منهم تم استلامهم من قبلها، غير إن مصيرهم لم يتم التعرف عليه لحد اليوم.

الأنفال الأخيرة تمت في منطقة بهدينان من 25 آب الى 6 أيلول 1988، أشتركت في تنفيذ المهمة من 14 ndash; 16 فرقة عسكرية بمعدل 12 الف جندي لكل فرقة بالأضافة الى فوج الأسلحة الكيمياوية ووحدات القوة الجوية والجحوش، بدأ القصف الجوي الكثيف، ثم اعقبته القنابل الكيمياوية، وتم انتشار القوات المسلحة حيث تم تفتيش بيوت القرى الذين تعرضوا للقتل العشوائي ودون سبب، وكانت الأساليب المعتمدة في الأنفلة قاسية وشديدة، وشوهدت القطعات العسكرية وهي تقود مجاميع من الشباب مقيدي الأيدي وتم قتلهم بالرصاص ومن ثم دفنهم دون تحقيق أو محاكمة، وكانت السيارات العسكرية (نوع أيفا ) تقوم بنقلهم من اماكن التجمع الى ساحات التنفيذ، وقد هلك نتيجة الغازات السامة والجوع والتعرض لسوء الأنواء الجوية ونقص الأدوية العديد من المدنيين، وان التعليمات كانت تقضي بقتل كل من يسلم نفسه من المقاتلين الكورد حتى ولو كان مشمولا بالعفو.
غير الأعداد التي تم القضاء عليها ميدانياً تحت أمر قادة الأفواج والفرق ودوائر الاستخبارات العسكرية، فقد جرى تسليم أعداد أخرى الى دوائر الأمن للتحقيق معهم، ولكن الأمر يبدو عصياً حين لا نتعرف على ضوابط التسليم للأمن والأسباب الحقيقية لذلك، غير أن هذه الأعداد انشطرت الى قسمين، الأولى منها ماتم تنفيذ الحجز والأبعاد بحق الرجال الى صحراء السلمان والى معسكرات الجيش الشعبي في تكريت وسجن النساء في الموصل بالنسبة للنساء والى معسكرات مسيجة واماكن اخرى ، فأن ما بقي من أعداد لم يتم التعرف على مصيرهم ولم تسجلهم سجلات الأمن في تلك المنطقة.

يقينا أن عفواً عاماً صدر من السلطة، وهذا العفو بمثابة القانون النافذ الواجب الاحترام من قبل السلطة الذي أصدرته قبل غيرها، الأمر قد يبدو غريبا حين تلجأ السلطة الى استعمال اساليب الخديعة والحيلة وتوهم الناس بالعفو لتقبض عليهم وتقرر إعدامهم. ولم يسجل التاريخ القديم والحديث قيام سلطة ما بالضحك على الناس من خلال إصدار قرارات والنكول عنها بقصد قتلهم والقبض عليهم، ثمة أمر يبدو انه يتطابق مع أنتهاكات القوانين العراقية، يتعلق بسوء استعمال المنصب أو استغلال السلطة إن المتهم صدام أستغل القوات المسلحة لارتكاب جرائم الأبادة الجماعية.
وجريمة الأبادة الجماعية تعني قتل المدنيين والعسكريين من أبناء الشعب الكوردي في مجازر ألأنفال، بالأضافة الى الحاق الأذى والضرر الجسدي بأفراد منهم، واستعمال الأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً، واخضاعهم عمداً لأحوال معيشية يقصد بها أهلاكهم الفعلي كلياً أو جزئياً.
تم حجز أعداد من البشر وابعادهم ونقلهم القسري عن مناطق سكناهم، بالأضافة الى حجز حرياتهم وحرمانهم من ابسط الحقوق الإنسانية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي وتعريضهم الى ظروف الهلاك وتعمد إحداث المعاناة اللاأنسانية، وفي مخيمات الحجز كانت تلغى الحقوق الإنسانية وتنتهي أدمية الإنسان، مع أستمرار تجريف القرى والبساتين، هذا مع أستمرار التدقيق في هويات وشخصيات المحجوزين واقتياد من ترى السلطة أن له علاقة بالمقاتلين أو تشتبه به ليذهب الى مصيره المجهول دون إن يتعرف احد على مصيره.
بقيت حملة الأنفال تحصد أرواح المدنيين من الأكراد لغاية حزيران 1989 ، وخلال تلك الفترة أرتكب الطاغية بأوامر مباشرة منه وبتعزيز من أوامر الحاكم العسكري العام علي حسن المجيد وبواسطة آلة التنفيذ المتمثلة بقوات الحرس الجمهوري والقوة الجوية وأجهزة الأستخبارات العسكرية والأجهزة المساندة، العديد من الجرائم التي طالت مئات الالاف من المدنيين الأبرياء، وتم استعمال الأسلحة المحرمة دولياً بما فيها الأسلحة الكيمياوية والغازات السامة، وارتكاب جرائم الأعدام لأكراد مقاتلين دون محاكمة أو تحقيق بل ودون تهمة في احيان كثيرة، بالأضافة الى الأستيلاء على الممتلكات المنقولة لأهالي القرى التي تعرضت لعمليات الأنفال دون وجه قانوني، والقيام بتجريف البساتين وتهيم البيوت السكنية وقتل الحيوانات في هذه المناطق ، وحجز المدنيين ونقلهم الى محاجر ومخافر وقلاع محددة، بالأضافة الى التعمد على اجبار المواطنين لتغيير قوميتهم من الكوردية الى العربية قسراً.
كانت النتيجة تتحدث عن قتل واختفاء 182000 مائة واثنان وثمانون الف انسان وتدمير 4000 اربعة الاف قرية كوردية قسم كبير منها مسح من الارض والباقي لم تزل اثارها واطلالها باقية غير أنها لم تعد صالحة للسكن فاعيد ترميمها وسكنها الناس بعد تصويرها وتوثيق خرابها.
ونجد أن الأتفاقية الدولية الخاصة بمنع جريمة الأبادة الجماعية (الجينو سايد ) والمعاقبة عليها الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها المرقم 2670 والمؤرخة في 9 كانون الأول 1948، والنافذة بتاريخ 12 كانون الثاني 1951، والتي صادقت عليها جميع الأطراف بما فيها العراق، حيث تشكل جريمة الأبادة الجماعية التي ترتكب عن نية لإبادة كل أو جزء من مجموعة بشرية وطنية اثنية عرقية أو دينية، سواء ما أرتكب منها في زمن السلم أو الحرب من جرائم القانون الدولي، وتشكل الجرائم المستمرة التي سميت (مجازر الأنفال )، صورة مطابقة لفقرات هذا القرار الدولي، ولا تعتبر مثل هذه الجرائم من الجرائم السياسية وفقاً لمعايير القانون الدولي والأتفاقيات الجارية ووفقاً للقانون الوطني ، كما يمكن ملاحقة المتهمين الهاربين خارج العراق طبقاً لهذا النص بتلبية طلب تسليمهم للعراق لمحاكمتهم وفقاً للقوانين العراقية والاتفاقيات الدولية، وتتم محاكمة مرتكبي هذه الجرائم بمقتضى نص الفقرة (6 ) من القرار المذكور أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة العراقية التي تم ارتكاب الجرم فيها وعلى أرضها ويتحقق بذلك الاختصاص المكاني، وعند تعذر ذلك يصار الى أحالة القضية الى محكمة جزاء دولية تكون ذات اختصاص أزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد أعترف بولايتها.
كما ألحق القرار الدولي بقرار أخر برقم 2391 في 26 تشرين الثاني 1968 وأصبح نافذاً بتاريخ 11 تشرين الثاني 1970، اتفق فيه على عدم تقادم الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الأبادة الجماعية بصرف النظر عن وقت ارتكابها، أي أن هذه الجرائم لاتسقط مهما تقادم ومر عليها الزمن. كما قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها المرقم 3074 في 3 كانون الأول 1973 الزام الدول بتعقب وأعتقال وتسليم المتهمين بارتكاب مثل هذه الجرائم، وتؤازر الدول بعضها وتتعاون في جمع الأدلة والمعلومات، ولا يجوز للدول منح ملجأ لأي شخص توجد دواع جدية للظن بارتكابه مثل هذه الجرائم، وبهذا فلا يجوز إضفاء أي نوع من الحماية القانونية على هؤلاء المتهمين، ببما فيها عدم جواز منحهم اللجوء السياسي أو التحجج باكتساب عدد منهم غير الجنسية التي كان يتمتع بها عند ارتكابه الجريمة أو اشتراكه بتنفيذها.

توفرت في هذه المجازر الإنسانية جميع القرائن والأدلة والبراهين التي تثبت صحة أرتكاب الفعل، وتم تحديد المسؤولية أثناء عمليات التحقيق الأولي، كما تم تثبيت المقابر الجماعية التي استطاع فريق التحقيق التوصل اليها، وهي تشكل جزء من المقابر التي تضمها جثث المغدورين، كما تم تشخيص هويات هذه الجثث. توفرت في عملية التحقيق الأشرطة الصوتية والصورية، والقرارات الصادرة من المتهم صدام شخصيا وتعليماته الكتابية أو الشفهية أو مكالماته بصدد الأستمرار في ارتكاب عمليات الأنفال الإجرامية وإناطة المسؤوليات المباشرة بالمتهم علي حسن المجيد، بالأضافة الى الاعترافات الصريحة التي تم توثيقها وتصديقها من قبل سلطة التحقيق لعدد من المتهمين والشهود والمتضررين والمدعين بالحق الشخصي، وما يعزز الأدلة المخاطبات الرسمية المعثور عليها، والتي تبادلتها الأجهزة الأمنية واستخبارات الجيش والحزب البائد، مع تقارير الأطباء العدليين وفرق اطباء حقوق الانسان وهيئات البحث التقصي عن المقابر الجماعية، وما سيظهره التحقيق القضائي اثناء المحاكمة.

إن أنشاء المحكمة الجنائية العراقية العليا وفقاً للتشريع العراقي وحصر تخصصها في النظر بجرائم محددة منها جرائم الأبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وأنتهاكات القوانين العراقية، وخضوع آالية العمل القضائي فيها الى نصوص قانون اصول المحاكمات الجزائية، وتشكيل هيئة تمييزية تكون المسؤولة عن تدقيق قرارات المحكمة وأحكامها، بالأضافة الى صدور قواعد الأجراءات وجمع الأدلة الخاصة بهذه المحكمة ونشرها في الجريدة الرسمية بتاريخ 18 تشرين الأول 2005، يعزز من تمسك المحكمة بنصوص القوانين النافذة ويجعلها منالمحاكم العراقية الشرعية والقضائية التي تتخصص في النظر بنوع معين ومحدد من الجرائم، بل يتوسع عمل المحكمة لتحكمها مباديء القانون الجنائي العامة، وعند عدم وجود نص قانوني في القوانين النافذة يتم تطبيق قانون العقوبات البغدادي النافذ للفترة التي سبقت نفاذ قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 ، وقانون العقوبات العسكري رقم 13 لسنة 1941، والأستعانة بأحكام المحاكم الجنائية الدولية عند تفسير الأحكام والقوانين.
وأزاء الجرائم المستمرة التي كان القانون يوجب تفريقها الى عدة قضايا، فأن القاعدة 32 الخاصة بتعدد الجرائم في قواعد الأجراءات وجمع الأدلة الخاصة بالمحكمة الجنائية العراقية العليا ، الزمت المحكمة من أنه أذا نسب الى متهم جرائم متعددة أن تتخذ بحقه الأجراءات وفقا للمادة (132 ) من قانون ا صول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 71، وجواز احالة المتهم بأكثر من جريمة على المحكمة بقضية واحدة، حيث أشترط النص أن تكون تلك الجرائم المتهم بها المحال معاقب عليها بمادة واحدة ومن قانون واحد.
وإزاء ما تقدم فأن سلطة التحقيق استكملت إجراءاتها في قضية الأنفال (مجازر الأنفال الجماعية )، ووجد قاضي التحقيق أن الأدلة المتوفرة ضد المتهم صدام وعلي حسن مجيد وبقية المتهمين المحالين كافية للإحالة على المحكمة الجنائية العراقية المختصة استنادا لنص الفقرة ثالثا من المادة 18 من قانون المحكمة، واستنادا للفقرة ب من المادة 130 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.