ثمة خيط رفيع لكنه من الوضوح بقدر لا يمكن تجاهله، بين تمدد الأصوليات المتعطشة للدماء على اتساع خارطة المنطقة، وممارستها الابتزاز على الأنظمة الحاكمة الآيلة للسقوط، وخطابها التعبوي الزاعق الذي يعمق مشاعر التعصب، وذائقة التشنج، ومشاعر الكراهية الخرقاء، لدى قطاعات واسعة من مواطني المنطقة على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم وثقافاتهم، إذ أصبح المواطن العادي في مصر ـ مثلاً ـ الذي هو لا في العير ولا النفير ـ يتبنى آراء وأفكار التنظيمات المتطرفة دون أن يكون عضواً بها بالطبع، أو حتى يعرف بوجودها أساساً، وهذا يعني فشلاً ذريعاً لكافة الأنظمة الحاكمة سياسياً، في ملء الفراغ بمشروع حضاري وسياسي واقعي، يستقطب الجماهير وتصدقه، وتؤمن به، حتى يمكن أن تلتف حوله .
وما بين أصولية إسلامية سنية تقودها حركة حماس الفلسطينية وأخرى شيعية يقودها حزب الله اللبناني، مقابل أصولية أخرى يهودية يمثلها اليمين الحاكم في إسرائيل، تتمدد الأصوليات كوحش شرير على خريطة المنطقة، وتسعى كل منها إلى تعبئة المشاعر المحتقنة لدى الشعوب، وتصبح لغة الرصاص وإيقاع القاذفات الصواريخ هي الأساليب المعتمدة لحسم الخلافات والنزاعات التاريخية، التي تؤسس لها أساطير القوة الوهمية، التي لا تلبث بدورها أن تتحطم أمام أول اختبار جاد، فلا الأصوليات الإسلامية نجحت في ترجمة خطابها إلى واقع عملي ودولة تصلح نموذجاً يقتدى، ولا الأصولية اليهودية أفلحت في توفير الأمن للإسرائيليين، وهو ما يؤكد صحة الرؤية التي خلص إليها الباحث الفرنسي الشهير جيل كيبل، بأن القرن الحادي والعشرين هو quot;قرن اللهquot;، أو quot;قرن الأصولياتquot;، بعد أن كان القرن العشرون هو quot;قرن الأرضquot;، أو quot;قرن القومياتquot;، الذي أفرز الفاشية والنازية وغيرها من التجارب المريرة الدامية التي كانت وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليها من آثار وخيمة مازالت عشرات الدول تدفع ثمنها حتى اليوم .
وإذا كان من المفهوم أن تلتقي نيران منظمة أصولية سنية مثل (حماس) الفلسطينية، مع نيران منظمة راديكالية شيعية مثل (حزب الله) اللبناني، مدعومتين بزيت إيراني، وغطاء سوري، باعتبار أن quot;التطرف كالكفر، ملة واحدةquot;، وأن الخصومة التاريخية بين quot;الروافض والنواصبquot; أو الشيعة والسنة يمكن أن تتوارى تحت مؤثر البراجماتية والانتهازية، التي تتسم بها عادة مثل هذه الحركات الإرهابية التي تحكمها ذهنية التنظيمات السرية، وتهيمن عليها عقلية المؤامرة، وقلما تكترث بالجانب الإنساني إلا لأسباب دعائية
وإذا كان من الوارد أيضاً تفهم دوافع رضوخ الأنظمة الحاكمة في شتى بلدان المنطقة لابتزاز هذه المنظمات الأصولية الراديكالية، بسبب هشاشة الأنظمة وافتقادها للدعم الشعبي، خاصة في ظل تردي سياساتها وتفشي الفساد في كافة أركانها، وسوء القائمين عليها وتدني قدراتهم وتواضع مهاراتهم، وافتقادهم إلى أبسط مقومات الحكم الرشيد المتعارف عليها بين شتى الأمم والشعوب المتحضرة .
غير أنه ليس مفهوماً بالمرة أن يصل الهوس بشعوب المنطقة إلى حد تفقد معه بوصلة أهدافها، وتمعن في التحرك بالاتجاه المعاكس لمصالحها الحقيقة، فترى مواطناً بسيطاً محتقناً لأسباب تتعلق بما يكابده من إحباطات يومية، وما يتجشمه من مهانات لا حصر لها، ليفرغ كل هذا المخزون الهائل من الخيبات في الاتجاه الخاطئ تماماً، على quot;شماعة إسرائيلquot; بينما لا تتحرك شعرة في جسده، حين يرى المواطن العادي شباباً كالزهور يتعرضون للضرب المبرح والإهانة لأنهم يحتجون سلمياً على الفساد والاستبداد، أو يتابع ذات المواطن بسخرية بغيضة مشهد هتك عرض فتاة مثل ابنته أو أخته على أيدي حثالة من البلطجية الذين يستخدمهم الحزب الحاكم، أو لجلاوزة الأمن المتنكرين في أزياء مدنية، ولا يغضب المواطن لهؤلاء الذين يتصدون للدفاع عن مستقبله هو وأبنائه، لكنه ينتفض ويرغي ويزبد حين يتعلق الأمر بمواجهات اختلطت فيها الأوراق، إلى درجة لا يمكن للمرء أن يميز فيها بين القاتل والضحية، وعلى أدنى تقدير ليس لهذا المواطن العمومي أو العادي، أي نفع من ورائها، بل هي محض ضارة، كما هو الحاصل الآن مثلاً في الحرب بالوكالة التي يخوضها quot;حزب اللهquot;، بل ويغلق هذا الموطن عقله، ويستلب جوارحه حتى يفقد قدرته على التمييز بين ما ينفعه وما يؤذيه، ويعجز عن القراءة الصحيحة للوقائع والأحداث المحيطة به .

خرافات ومغامرات
ويذهب مروجو الخرافات في غيهم إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يبسّطون الأمور بشكل مخل، متصورين أن عملية انتحارية هنا أو اختطاف جنديين هناك، من شأنه أن يغير ويقلب موازين القوى العسكرية والسياسية في المنطقة، وهذا بالطبع غير صحيح بالمرة، بل هو شكل من أشكال الخرف والتفكير بالتمني، فلا اختطاف جندي أو ضرب مقهى من شأنه أن يجعل منظمة مثل quot;حزب اللهquot; قادرة على إزالة ما تسميه quot;الكيانquot; من الوجود، بل هذا من شأنه أن يقود إلى حرب شاملة، لم يستشر حزب الله شركاءه في الوطن بشأنها، وقد تصرف على طريقة من يحدث ثقباً في السفينة بزعم ملكيته لهذا الجزء منها، وهو بالضبط ما يمارسه quot;حزب اللهquot; حين يعمد إلى التصرف في مستقبل بلد كامل وفق رؤيته الخاصة، ووفق قناعاته العقدية والسياسية، وبالوكالة عن إيران وسورية، دون أن يقيم وزناً لآراء وحسابات الآخرين من شركائه في الوطن مثل الموارنة والدروز وغيرهم، وإلا فما معنى أن يدفع مواطن لبناني لا يتفق مع حزب الله في رؤيته حياته ومستقبله ثمناً لمثل هذه المغامرة، التي كان ثمنها ـ حتى الآن ـ البنية الأساسية للبنان، من جسور وطرقات ومطارات ومحطات كهرباء ومياه وغير ذلك مما لا يستطيع quot;حزب اللهquot;، ولا من يقفون خلفه، أن يتحملوا المسؤولية الإنسانية والسياسية في إعادة إعمار البلاد التي دفعوها إلى هذه الحرب .
في جانب آخر من هذا المشهد العبثي هناك مراقبون تخصصوا في الإغراق في نظريات المؤامرة، وأمعنوا في تبرير كافة الخطايا التاريخية، يصورون الأمر وفق سيناريو مفاده أن اسرائيل وقعت في فخ نصبته لها طهران، فدخلت مواجهة شاملة ضد حزب الله وحماس، لكن الحقيقة هي أن طهران ـ وربما بعض دول المنطقة ـ يعمي عيون القائمين على شؤونها غبار المواجهات الدامية الدائرة الآن في غزة ولبنان، فتركز على الصراع بين إسرائيل وتلك المنظمات الراديكالية، غير مدركة انه وسط هذه الأجواء ربما يحلق سرب من الطائرات التي لن يعرف ما إذا كانت أميركية أو إسرائيلية، لضرب المفاعلات النووية في إيران، وحينها قد تندلع حرب شاملة تؤسس لفوضى عارمة في المنطقة، سيعاد فيها ترتيب خرائط المنطقة وموازين القوى فيها على نحو يجزم معه المرء أنه لن يكون في صالح العرب، وحينها لن يكون أمامنا سوى البكاء والعويل ومزيد من التورط في تأدية دور أشرار الكون الذين تتآمر وتتكالب عليهم الأمم .
وبقراءة الحروب الخمسة السابقة بين العرب وإسرائيل يتضح أنها بدأت بمناوشات وعمليات محدودة لتحقيق لهدف تكتيكي هنا وهناك لكن سرعان ما تطورت إلى حروب شاملة وانتهت بتغييرات جوهرية في خريطة المنطقة، وهذا هو ما تجرنا إليه مغامرات الأصوليين الآن بعد أن استنفذت كل الحركات البلشفية العسكرية المتلفعة بالقومية كافة الفرص لتحصد مزيداً من النكبات والنكسات، أما المنظمات الأصولية التي أصبحت تختطف القرار الإقليمي برمته، فتجد الآن أرضاً خصبة ومناخاً مواتياً، في شارع جرفته دبابات العسكر، ولدى شعوب أنهكتها التجارب السياسية الفاشلة على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
وأخيراً فإن الحاصل الآن بمنتهى الصراحة ودون مورابة، أن العالم العربي بات عاجزاً أمام التيارات الاصولية، يخضع لابتزازها ويزايد على خطابها العبثي الذي يفتقد لأدنى درجات الحكمة، ولعل هذا هو المؤشر الأخطر لهزيمة كل المشروعات الحضارية والإنسانية أمام الانتحاريين، وهوسهم الذي يقود الشعوب والأمم إلى الخراب، دون أن يتحمل هؤلاء مسؤولية ما يقدمون عليه من مغامرات شريرة .
وافتقاد هذه الأنظمة الجاثمة على صدور شعوب المنطقة منذ عقود للقدرة على بلورة خطاب حضاري وسياسي بديل، الأمر الذي يعني بكل بساطة أن انتصار الأصوليات بات مسألة وقت فقط، فالأنظمة الحاكمة في المنطقة بوسعها الاستمرار في السلطة بفضل آلة الدولة الأمنية والعسكرية، أي أن الرهان ينحصر في إدارة المرض والتعايش معه وليس الشفاء منه، والأسوأ من هذا أيضاً أن كافة أنظمة الحكم العربية المستبدة تمهد الأرض أمام الحركات الأصولية، وتسبغ عليها الشرعية، لهذا فإنه ينبغي التوقف عن الخضوع للابتزاز الاصولي من جهة، والصمت على النظم الديكتاتورية الحاكمة من جهة أخرى .
والله المستعان،
[email protected]