بسم الله الرحمن الرحيم

موجز حياته
عاش سعيد بن المسيب في عنق الزجاجه في الفترة الانتقالية بين الخلافة الرشيدة والملك الاموي العضوض، حيث ولد في المدينة قبيل وفاة عمر بن الخطاب بعامين ومات سنة 94هـ، في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد استقرار الحكم الاستبدادي في ذرية عبد الملك بن مروان.
أي ان سعيد بن المسيب ادرك من حيث الفترة الزمنية اخطر احداث التاريخ الاسلامي التي لا تزال تؤرق الضمير المسلم حتي الان، شهد اغتيال عمر بن الخطاب،وشهد الاختلاف علي عثمان، وشهد مصرعه، وعاش الفتنة الكبرى من مواقع الجمل وصفين و النهروان، وشهد انتقال الخلافة الي معاوية، وتحولها الي ملك وراثي يستبد بها يزيد بن معاوية، وشهد في عصر يزيد مقتل الحسين وآله في كربلاء، ثم في العام التالي شهد موقعة الحرة وثورة المدينة، وهزيمتها واقتحامها واستباحتها وقتل اهلها وانتهاك حرمتها، وشهد حصار الامويين للكعبة وضربها بالمجانيق، واعلان ابن الزبير خلافته، والصراع بين ابن الزبير والامويين، ومقتل ابن الزبير، وانفراد عبد الملك بن مروان بالحكم، ثم غدر عبد الملك بأبناء عمه الامويين بعد اتفاقية الجابية، واسناده ولاية العهد لابنيه الوليد ثم سليمان، ومات سعيد في خلافة الوليد بن عبد الملك.
عاش سعيد كل هذه الاحداث الجسام وهو في المدينة، لم يبرحها الا الي مكة للحج، او بمعني اخر شهد سعيد بن المسيب عظمة المدينة المنورة كعاصمة للمسلمين، ثم شهد انتقال الاضواء عنها الي الكوفة ثم الي دمشق.. أي انه شهد المدينة وهي تداوي جراحها السياسية بعد ان عجزت عن استعادة دورها السياسي بعد هزيمتها في موقعة الحرة، وتحولها الي مدرسة علمية تحاول ان تنافس العراق في الفقه والتاريخ والتفسير والحديث.
ان سعيد بن المسيب الذي ولد سنة 31هـ قد فتح عينيه علي كل تلك المصائب من قتل عمر وعثمان وعلي والفتنة الكبري، ثم كان رجلا مكتمل الرجولة وهو يشهد قتل اهل المدينة واستباحة نسائها على يد الجيش الأموى فى موقعة الحرة سنة 62 هـ، ثم عاش في ظل القمع الاموي الي ان مات سنة 94هـ، وناله من هذه الفتن الكثير من المحن، حيث كان مطلوبا منه ان يبايع للحاكم المستبد فيرفض، فيتعرض للضرب والاهانة، مع مكانته الاجتماعية والدينية.
وبعد هذه الصورة العامة لعصر سعيد بن المسيب، نتوقف مع تحليل لشخصيته مبني علي ما جاء في سيرته في الطبقات الكبري لابن سعد، اقدم مصدر تاريخي لدينا فى السير والتراجم.

محنة سعيد بن المسيب:
لقد كان سعيد بن المسيب من بني مخزوم اشراف قريش وكانوا من المتحالفين مع الأمويين ضد الاسلام، ولكن كان جده من أصحاب النبى محمد. وقد اصبح سعيد في شبابه افقه اهل المدينة وصار في شيخوخته رمزا للمدينة، وكبيرا للتابعين في عصره والتابعون هم الجيل التالى للصحابة والذى عايش الصحابة. وبسبب مكانته العائلية والفقهية والمعنوية، فقد كان هدفا مناسبا للمتصارعين علي الحكم، اذ لابد من ارغامه علي البيعة حتي يبايع الاخرون، فاذا رفض عوقب حتي يكون عبرة للاخرين.وكالعادة يقوم والي المدينة بعقابه، ثم يكتفي الخليفة بعتاب رقيق للوالي علي ما فعله بسعيد مع استمرار وقوع الظلم علي سعيد.
بدأت هذه اللعبة، حين اعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في مكة، وعين جابر بن الاسود الزهري واليا علي المدينة، ودعا الوالي اهل المدينة لبيعة ابن الزبير، فرفض سعيد بن المسيب قائلا (حتي يجتمع الناس) أي حتي يكون هناك اجماع واتفاق بين اهل الشام والعراق ومصر والحجاز، او بمعني اصح رفض سعيد ان ينحاز الي الحزب الزبيري في صراعه مع الحزب الاموي. ولخطورة هذا الموقف علي اهل المدينة واهل الحجاز فقد ضرب الوالي سعيد ستين سوطا.. وبلغ ذلك عبد الله بن الزبير، فكتب الي جابر يلومه ويقول (مالنا ولسعيد دعه) وبذلك استمال ابن الزبير اهل المدينة، وحقق ما اراد، ودفع سعيد الثمن.
وتغلب الامويون على ابن الزبير وقتلوه، وتمهد الامر لعبد الملك بن مروان،وقد كان عبد الملك من قبل رفيقا لسعيد بن المسيب فى طلب العلم، وبعد توليه السلطة وسفكه الدماء جاء عبد الملك وخطب في اهل المدينة عام 75 قائلا: (.. والله لا يأمرني احد بتقوي الله بعد هذا الا ضربت عنقه) وكانت هذه اللغة موجهة لسعيد واصحابه الذين كان مفترضا منهم ان يأمروا الحاكم بتقوى الله،حسبما كان متبعا في المدينة في عصر الراشدين.
وبعدها ـ وبناء على طلب الخليفة عبد الملك ـ طلب الوالي هشام بن اسماعيل المخرومي ابن عم سعيد مبايعة اهل المدينة لابني عبد الملك، الوليد ثم سليمان، فبايع الناس، وابي سعيد بن المسيب كالعادة،فضرب الوالى هشام بن اسماعيل المخزومي ابن عمه سعيد بن المسيب ستين سوطا، وامر فطيف به في المدينة في هيئة مزرية، وسجنه، وكتب بما فعل للخليفة، فقال عبد الملك له (سعيد كان والله احوج الي ان تصل رحمه من ان تضربه، وانا لنعلم ما عند سعيد من شقاق ولا خلاف) ومع ذلك ظل في السجن، ثم افرجوا عنه و منعوا ان يجالسه احد في المسجد، وحين قيل لهم ان سعيد بن المسيب ينوي ان يدعوا عليهم في الحج منعوه من الذهاب للحج.

الهجران والاعتزال:
ومن ناحيته كانت لسعيد سياسته الخاصة، وتتمثل في الاستقلالية عن الامويين والابتعاد عنهم وعن الفتن والمشاكل ما امكنه، ومن اجل ذلك كان يتاجر في الحرير ويذهب للسوق، وحين دخل السجن صنعت له ابنته طعاما كثيرا فأرسل لها يقول: (لا تعودي لمثل هذا حتي لا يذهب مالي واحتاج الي اموالهم، وهذا ما يريدون، ولكن ابعثي لي ما كنت اكله في بيتي) وكان سعيد يصوم كل يوم، أي كفي مؤونة نفسه تقريبا في الطعام، وفي نفس الوقت رفض ان يأخذه راتبه من الامويين، ويقول (لا حاجة لي فيه حتي يحكم الله بيني وبين بني مروان).
وفي اجتنابه للسلطة الاموية (كان لا يخاصم احدا من الناس، ولو اراد انسان ان يأخذ رداءه رمي به اليه) وسئل في السكران، هل يذهبون به الي السلطان ليعاقبه ؟ فقال:(ان استطعت ان تستره بثوبك فافعل)، وبسبب تطرف الامويين في القمع والقتل كان يكثر من قوله (اللهم سلم سلم).
ومع ذلك لم يكن جبانا، بل واجه طغاة الأمويين بشجاعة وكرامة، فقد رفض ان يأتي لمقابلة الخليفة عبد الملك حين زار الخليفة مسجد المدينة، اذ ارسل الخليفة حاجبه الي سعيد يستدعيه وامر الحاجب ان يترفق بسعيد، فرفض سعيد ان يقوم من مكانه، فازداد عجب الحاجب وتمني لو لم يأمره الخليفة بالترفق به، اذ كان سيأتي للخليفة برأس سعيد. وتكرر نفس الموقف حين جاء عبد الملك الي المدينة واراد ان يتسامر مع سعيد ويستعيد معه ذكرياتهما المشتركة حيث كان عبد الملك من قبل من فقهاء المدينة ومن زملاء سعيد واصدقائه، فرفض سعيد ان يذهب اليه، فتحمل عبد الملك ذلك ولم يؤذه، أي ان اعتزال سعيد ارتبط بشجاعة وثبات.
ثم مات عبد الملك وتولي ابنه الوليد الخلافة، وبالطبع لم يبايعه سعيد ولم يعترف به حاكما.
وزار الخليفة الشاب مسجد المدينة فوجد الناس يجتمعون حول سعيد يتعلمون منه، فأرسل اليه يستدعيه، فرفض المثول امامه، فغضب وامر الحاجب أن يذهب اليه ويقتله ويأتى له برأسه، فقال الناس للخليفة (انه شيخ المدينة وشيخ قريش وصديق ابيك) وما زالوا به حتي سكت عنه..
وقبل ذلك في موقعة الحرة فى خلافة يزيد بن معاوية بين اهل المدينة وجنود الشام الامويين كان القتال يدور في طرقات المدينة، وسعيد قد اعتزل الناس، يظل نهاره وليله في المسجد لا يبرحه الا (ليلا من الليل) ويقوم يصلي في المسجد العشاء والفجر وحده.. ويدخل عليه جنود الشام فيقولون: انظروا الي هذا الشيخ المجنون ؟.
وبسبب لزومه المسجد رفض اقتراحا (بالتبدي) أي العيش في بادية الصحراء مفارقا الحضر بعيدا عن السلطة الاموية وقهرها، اذ قيل له (quot; لو تبديت ؟ فقال: فكيف بشهود العتمة) أي صلاة العشاء وصلاة الفجر في المسجد.. وهكذا ظل يلازم المسجد وصوم الدهر وهجر الظالمين الي ان توفي سنة 94هـ.

التحريف في سيرته وفقهه:
وازداد الظلم الاموي فيما عدا ثلاث سنوات في خلافة عمر بن عبد العزيز.. الي ان سقطت الدولة الاموية سنة 132 هـ، وجاءت الدولة العباسية بظلم افظع، وشهدت المدينة محنة اخري حين ثار فيها محمد النفس الزكية في خلافة ابي جعفر المنصور. وتركت تلك الملامح السياسية بصماتها علي الحياة العلمية في المدينة وعلى تلامذة سعيد بن المسيب في الاجيال اللاحقة. وبدأ التدوين في العصر العباسي وقد تأثر بما اشاعه الجيل الاول من تلامذة سعيد بن المسيب، وتلون بذلك الفقه المكتوب في كتاب الامام مالك (الموطأ) المروي عن سعيد بن المسيب، كما تحولت سيرة سعيد في بعض هوامشها الي ما يشبه المعجزات التي لم يعرفها عصر سعيد..
ونوجز توضيح هذه الملامح في العناصر الاتية:
ان القهر السياسي للامويين في القرن الثاني الهجري نال الفقهاء والمثقفين المعارضين، بينما عمل الامويون ثم العباسيون علي تحويل المدينة الي سوق رائجة للجواري والمتع الحسية من الغناء والمجون ndash; وكتاب (الاغاني) للاصفهاني اصدق تعبير عن هذه الحالة ndash; وكان الغرض من ذلك اغراق شباب المدينة باللهو حتي ينصرفوا عن المعارضة السياسية، وبالتالي عرفت المدينة وقتها حياة المجون والعربدة جنبا الي جنب مع حياة الزهد و التشدد الفقهي، وبينما يتمتع الشعراء و اهل المجون برضى السلطان فان القمع كان من نصيب الفقهاء.
وكان من الطبيعي ان يصل التشدد الفقهي في رد فعله الي الافتاء برجم الزاني المحصن والزانية المحصنة حتى الموت، والمحصن يعنى الذى تزوج أو سبق له الزواج.والقتل رجما هو من العقوبات التى اخترعها فقهاء الدين الأرضى السنى والشيعى. وسبق الامام مالك بتقرير هذه العقوبة الوحشية فى كتابه (الموطأ) ونسب القول بها الى حديث زعم أن عمر بن الخطاب قد قاله، وجعل الراى عن عمر هو سعيد بن المسيب الذي شهدنا شخصيته المسالمة وطرفا من آرائه المتسامحة ومنها رفضه لعقوبة السكران والترفق به (ان استطعت ان تستره بثوبك فلتفعل). هذا مع أن الفقه السنى جعل عقوبة لشرب الخمر تقل عن أربعين جلدة، وبعضهم غالى فيها فيما بعد.
المؤسف أن المدارس الفقهية الأخرى السنية والشيعية أخذت عن مالك هذا الافتراء فأصبح الرجم من أهم العقوبات فى شرائعهم خلافا لما جاء فى القرآن، وقد أثبتنا فى بحث خاص تعارض هذه العقوبة مع القرآن الكريم.
2- وانتهز هؤلاء الفقهاء اللاحقون الفرصة في ان عصر سعيد بن المسيب لم يعرف التدوين، وحين عرفوا التدوين كتبوا ما شاءوا ونسبوه لسعيد، يقول يحيى بن سعيد، وهو تلميذ متأخر لسعيد بن المسيب (ادركت الناس يهابون الكتب، ولو كنا نكتب يومئذ لكتبنا من علم سعيد ورأيه شيئا كثيرا).
وتلك الروايات الفقهية عن الرجم التي اسندوها لسعيد بن المسيب قالوا عنه انه رواها عن عمر بن الخطاب، أي انه عاش شابا فى عصر عمر بن الخطاب وتعلم منه، مع ان سعيد قد ولد قبيل مقتل عمر بعامين فقط، فكيف يروى طفل رضيع عن عمر؟ ومحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى يؤكد علي هذه الحقيقة حين يقول (روي انه سمع من عمر، ولم ار اهل العلم يصححون ذلك، وان كانوا قد رددوه) وهو يشير الي مالك في الموطأ، والمعني ان اهل العلم يرفضون ان يكون سعيد بن المسيب وهو يحبو في طفولته المبكرة قد روي عن عمر، ومع ذلك يروون تلك الروايات،أي كان هناك دافع في نسبة تلك الروايات الي عمر عبر سعيد بن المسيب.
والملاحظ ان محمد بن سعد قد كتب سيرة سعيد بن المسيب في طبقاته الكبرى في 18 صفحة من القطع الكبير (5 / 88: 106) وذكر فتاويه، ولكن تجاهل منها ما يخص موضوع الرجم،أي انه لا يرى صحة حديث الرجم الذي نسبوا لسعيد بن المسيب روايته عن عمر..
3- وقد ولد الامام مالك سنة 93، أي قبيل سنة من وفاة سعيد بن المسيب، ثم اصبح مالك في المدينة يحتل مكانه سعيد بن المسيب فيها، ويلقي نفس العنت من العباسيين حين رفض مثله البيعة لابي جعفر المنصور، وفي هذا المناخ الملئ بالسخط علي الانحلال الذي تشجعه السياسة تناثرت الروايات الفقهية، ورواها مالك شفهيا دون أن يكتبها بنفسه فى كتابه (الموطأ)، ثم كتبها علي لسانه الرواة اللاحقون فيما بعد، وهم الذين كتبوا (/وطأ مالك) بأيديهم بعد موت مالك، واشهرهم محمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة 198 في خلافة الرشيد،أي ان مالك لم يكتب الموطأ بنفسه ولم يكتبوا الموطأ في حياة مالك وانما بعد وفاته. نريد أن نقول أنهم كذبوا بالتأكيد على سعيد بن المسيب، ونسبول له رواية تشرع عقوبة القتل رجما فى الزنا بالاحصان، وهذا ما لم يروه سعيد ولم يقله. وربما يكون مالك بريئا هو الآخر، وربما لا يكون.
4 ـ هم أيضا زيفوا بعض سيرة سعيد الشخصية، وبينما إنتبه المؤرخ محمد بن سعد لكذبهم فى القول بأن سعيد روى عن عمر بن الخطاب، فإن إبن سعد غفل عن أكاذيب أخرى فرواها مصدقا لها.
ففي سيرته جعلوا سعيد بن المسيب شخصا أسطوريا مستجاب الدعوة وينبىء بالغيب.
فهناك رواية تزعم ان احدهم سب طلحة والزبير وعليا فنهاه سعيد بن المسيب فلم يرتدع فدعا عليه بان يسود الله وجهه فخرجت في وجهه قرحة سوداء فأسود وجهه. ولو كان سعيد مستجاب الدعوة فلماذا عجز عن حماية نفسه من الضرب ولماذا صبر علي كل هذا الظلم والقهر من الامويين. وهناك روايات اخري تزعم انه تنبأ بما سيحدث لابن الزبير وواليه حين كانوا يضربونه.. ورؤى اخري تزعم انه تنبأ باستقرارا ملك عبد الملك في ذريته اثناء صراع عبد الملك مع عبد الله بن الزبير. وانتهز الرواة المزورون الفرصة فاسندوا لسعيد القدرة علي تفسير الاحلام hellip;
ثم التفتوا الي ناحية اخري تأثروا فيها باعتكاف سعيد في مسجد المدينة، فاسندوا له رواية تقول انه كان في ليالي موقعة الحرة يصلي وحيدا في المسجد فيسمع الاذان آتيا من قبر النبى محمد فى المسجد.يقول ابن سعد:(لبث سعيد بن المسيب أيام الحرة فى المسجد لم يبايع ولم يبرح ... وكان الناس يقتتلون وينهبون وهو فى المسجد لا يبرح الا ليلا من الليل، قال: فكنت اذا جاءت الصلاة أسمع آذانا يخرج من قبل القبر) (الطبقات الكبري لابن سعد 5/ 98)
ويروى ابن سعد (قال سعيد بن المسيب:لقد رأيتنى ليالى الحرة وما فى المسجد احد من خلق الله غيري، وان اهل الشام ndash; اى جنود الأموين- ليدخلوا زمرا زمرا ndash; اى جماعات جماعات ndash; يقولون: انظروا الى هذا الشيخ المجنون. وما يأت وقت صلاة الا سمعت آذانا فى القبر، ثم تقدمت فأقمت فصليت، وما فى المسجد أحد غيري) (الطبقات الكبري 5 / 97: 98).
قد يقال إن سعيد ابن المسيب فى حالته النفسية تلك كان يتخيل آذانا يأت له من موضع قبر النبي محمد فى المسجد، والمعنى ان القبر المنسوب للنبي كان موجودا فى مسجد المدينة وقتها، وأنه كان معروفا وقت معركة الحرة. وهذا خطأ فاحش ودليل على ان تلك الرواية قد صيغت فى العصر العباسي و اسندت الى سعيد ابن المسيب الذى مات دون علم بها.
دليلنا ان موقعة الحرة كانت يوم الأربعاء الثاني من ذى الحجة سنة 63 من الهجرة فى خلافة يزيد بن معاوية، وفى هذا الوقت كان مسجد المدينة على حاله منذ أن قام عمر بن الخطاب بتجديده، وكانت بيوت نساء النبى بعد موتهن خالية وقريبة من المسجد ولكن ليست داخلة فيه، وكان من بينها حجرة السيدة عائشة التى كان مدفونا فيها جثمان النبى محمد. أى أنه فى وقت معركة الحرة واقتحام المدينة واعتكاف سعيد بن المسيب فى المسجد لم يكن هناك قبر لأحد فى المسجد وقتها، بل لم يكن هناك وقتها إهتمام بحجرة عائشة أو ما فيها من قبور مغطاة للنبى محمد وصاحبيه أبى بكر وعمر.
بعدها بربع قرن أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك فى شهر ربيع الأول عام 88 بهدم مسجد المدينة لتوسيعه وجعله تحفة معمارية فى عصره. إستلزم التوسيع هدم بيوت ازواج النبي القريبة من المسجد القديم وادخالها فى بناء المسجد الجديد (المنتظم 6، 283: 285) وكان جثمان النبى محمد مدفونا فى حجرة زوجته عائشة، وكانت قد توفت قبل ذلك بأكثر من ثلاثين عاما. وبالتالى فلم تكن حجرة عائشة ومكان دفن النبى محمد داخل مسجد المدينة القديم سنة 63 حين وقعت معركة الحرة. وبالتالى ـ أيضا ـ فتلك روايات كاذبة، وقد صيغت أساسا لتعكس تقديسا لقبر النبي استشرى فى العصر العباسي وعكسه ابن سعد المتوفى سنة 222 فى هذه الرواية. rlm;