ليس الخوف من انتصار حزب الله كمقاومة ضد اسرائيل، بقدر ما هو الخوف من انتصار ايديولوجية حزب الله في العالم العربي، بحيث لم يعد حاجة للجيل الثاني من الخمينيّة (أحمدي نجاد ومن هم حوله( إلى تصدير الثورة الخمينيّة كما سعى الخميني في حياته. فحزب الله في لبنان ndash; مبدئياً - قد صدّر فعلاً مبادئ هذه الثورة بطريقة غير مباشرة، التي أصبحت الآن - وبفضل الحرب مع اسرائيل - في كل بيت عربي، وفي كل رأس وقلب عربي، ممن يخفون، وممن يظهرون.
فالخطر على الحرية والديمقراطية، يكمن في الانتصار الإيديولوجي لحزب الله، وليس في الانتصار العسكري. فالنصر العسكري يتبعه دائماً تحقيق أهداف أيديولوجية معينة، وإلا فلا معنى للانتصار العسكري.
الانتصار العسكري لحزب الله، انتصار محمود رغم مخاطره المستقبلية. ولكن الانتصار الأيديولوجي الخميني، الذي سيتبعه هو المذموم، وهو ما لا تعيه الغالبية العربية العظمى.
فلو كان الانتصار العسكري في لبنان، هو انتصار كل اللبنانيين، من مسلمين شيعة وسنة، ومن مسيحيين من مختلف الطوائف، ومن أرمن، ومن دروز، ومن كافة الطوائف اللبنانية التي يقال أنها 18 طائفة، لكان ذلك انتصاراً محموداً. ولكن الانتصار العسكري لفئة واحدة، وطائفة واحدة، وأيديولوجية متزمتة واحدة خطيرة، هو الانتصار المحفوف بالمخاطر مستقبلاً.

ابتدع الإمام الخميني مقولة ولاية الفقيه، لوصوله ووصول رجال الدين إلى السلطة السياسية. وهي بدعة استنكرتها السُنّة، واستنكرها كثير من الشيعة كذلك. وموجزها أن السلطة يجب أن تكون حكراً على الفقهاء فقط. وقد ظهرت مقولة ولاية الفقيه في الوقت الذي نشط فيه الصراع على السلطة في العالم العربي والإسلامي بين الحركات الأصولية وبين العلمانيين التنويريين، خاصة في الباكستان واندونيسيا وتركيا. وكان نجاح ثورة الخميني في إيران، برهاناً عملياً على أنه بإمكان الفقهاء الوصول إلى السلطة، والاستئثار بها.
وعندما انشق حزب الله عن quot;أفواج المقاومة الإسلاميةquot; (أمل) في العام 1982 ، أشار الذين أرخوا لحزب الله، كآمال سعد أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الاميركية في بيروت، ووليد شرارة المؤرخ اللبناني الذي كتب (حزب الله: حركة إسلامية وطنية) وغيرهما من طرف خفي ، أنه كان في ذهن المنشقين أن يقيموا في لبنان في المستقبل البعيد سلطة الفقيه وولاية الفقيه، على النموذج الإيراني. ووجدوا أن الطريق الأمثل هو اقامة جيش الفقيه أولاً، أو ميليشيا الفقيه. فشكلوا الجناح العسكري لحزب الله من الشيعة الخمينيّة فقط، واستبعاد أية عناصر شيعية أخرى، أو سُنيّة، أو مسيحية، أو درزية. ثم كبرت هذه الميليشيا بمساعدة ايران وسوريا، بعد أن وقفت سوريا إلى جانب ايران، في حربها مع العراق (1980-1988)، وبعد أن انشغل لبنان في حربه الأهلية، ثم بالمصالحة الوطنية بعدها. كل هذا جرى بعلم الغرب، وبعلم أمريكا ، التي كانت تعلم بتسلّح حزب الله، وبقوة حزب الله في التسعينات وما بعدها، ولكنها غضّت النظر، لانشغالها بحرب الخليج الثانية 1991 وتداعياتها، وإخراج صدام حسين من الكويت، وحصاره وتجويعه، ثم انشغالها بتداعيات كارثة 11 سبتمبر 2001، والإطاحة بحكم طالبان وصدام حسين 2003. كما انشغل معظم الزعماء السياسيين اللبنانيين من مختلف الطوائف عن حزب الله وسلاحه وقوته في التسيعنات، وفي السنوات الممتدة من عام 2000 إلى الآن، بجمع المال بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والتسابق على مناصب مجلس النواب، ومجلس الوزراء، لامتلاك مزيد من المال من خلال القوة والسلطة.
إذن، فقد كان الجمعُ عالماً، ومتغافلاً، ولاهياً، وساكتاً . وكان لكلٍ أسبابه السياسية والمالية والاجتماعية والطائفية كذلك. وهكذا كبُر حزب الله ككرة الثلج المتدحرجة، بحيث أصبحت الأذرع اللبنانية عاجزة عن ضمها واستيعابها، وإيقاف تدحرجها. وتسلّح حزب الله تسليحاً قوياً من حلفائه، وأصبح أكبر قوة عسكرية شعبية ضاربة في المنطقة، تحقيقاً للخطوة الثانية، وهي اقامة ولاية الفقيه في لبنان، وفي غير لبنان، على الطراز الملالي الإيراني القائم الآن في طهران. وإذ لم يكن الأمر كذلك، وكان هذا من هذيان الليبراليين، فلماذا اقتُصرت المقاومة اللبنانية على حزب الله؟ ولماذا اقتُصر حزب الله على المسلمين فقط، دون باقي الطوائف الأخرى؟ ولماذا اقتُصر المسلمون على الشيعة فقط دون السُنّة؟ ولماذا اقتُصر حزب الله على الشيعة الخمينيّة فقط؟ ولماذا كانت فصائل حزب الله التي تؤمن بأفكار ومبادئ الثورة الخمينيّة هي فقط عناصر هذا الحزب؟ ولماذا اكتسحت جنوب لبنان المؤسسات الخيرية والطبية والتعليمية والاجتماعية المُسمّاة بأسماء زعماء إيرانيين، وعلى رأسهم الخميني؟ ولماذا تُرفع صور الخميني وعلي خامنئي ومحمد خاتمي وأحمدي نجاد وغيرهم من زعماء ايران السابقين والحاليين، في كل مناسبة سياسية وعسكرية ودينية يقيمها حزب الله؟

أسئلة كثيرة تشير إلى اتجاه البوصلة نحو أيديولوجيا سياسية معينة. ولعل مما يؤكد هذه المعطيات لدى المحلل والمؤرخ السياسي، اشارات كثيرة، منها هذه الإشارة المهمة والدالة لهذا الأسبوع:
السيد علي أكبر محتشمي، هو أحد تلاميذ الخميني المخلصين. ومن أبرز الأعلام السياسية الإيرانية. وكان سفيراً سابقاً لإيران في سوريا ولبنان، كما كان وزير داخلية في ايران. وهو الذي أخرج حزب الله في العام 1982 من رحم quot;أفواج المقاومة الإسلاميةquot;(أمل). إذن، فالرجل ليس هلفوتاً إيرانياً، ولا ينطق عن الهوى، حتى لا نأخذ كلامه على غير محمل الجد، أو نعتبر كلامه غير رسمي، ولا يُعبّر عن رأي الدولة الإيرانية.
قبل أسبوعين، صرح محتشمي لصحيفة quot;شرقquot; الإيرانية، تصريحات خطيرة بشأن حزب الله، كشف فيها المستور، عن مدى علاقة ايران السياسية والأيديولوجية العضوية بحزب الله. وهذه التصريحات، لا جديد فيها، رغم إنكار زعماء حزب الله لها، وتعامي معظم أجهزة الإعلام العربية عنها، جبراً لخاطر المتلقي العربي المتشنج هذه الأيام، وكسباً له إلى صفها، وطمعاً في تصفيقه لها، ولكنها تكشف لنا ماضي حزب الله وحاضره ومستقبله، ومستقبل لبنان والمنطقة، في ظل وجود حزب الله.
قال محتشمي ثلاث جمل، تلخّص ماضي وحاضر ومستقبل حزب الله، وتشير إلى دوره الأيديولوجي/السياسي في المنطقة مستقبلاً:
-حزب الله، جزء من الحكم في إيران.
-حزب الله، عنصر أساسي في المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية.
- علاقة حزب الله مع إيران أبعد بكثير من علاقة نظام ثوري بحزب، أو تنظيم ثوري خارج حدود بلاده.
وعندما نفسر هذه الجمل الثلاث على الأرض، فكيف ستكون النتيجة؟ هل سيتحول لبنان إلى جمهورية إسلامية كما هو حال الجنوب اللبناني الآن، الذي تحول إلى جمهورية إسلامية مُصغّرة، مرشدها الأعلى حسن نصر الله؟

لم ننتهِ بعد، وما زال في جعبتنا الكثير مما يُقلق ويُخيف ويقضّ المضاجع، ويشير إلى مستقبل لبنان والمنطقة، بعد انتهاء هذه الحرب المجنونة والمرسومة بعناية فائقة، من قبل كل الفرقاء. سنكمل في الاسبوع القادم.

السلام عليكم.