غاب وزير الخارجية السوري عن اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير الذي عقد في مقر الجامعة العربية بالقاهرة، لبحث تطورات الوضع في لبنان عقب قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بوقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ، وبدء الجيش اللبناني الانتشار في الجنوب اللبناني بموافقة جماعية من كافة القوى والأحزاب السياسية اللبنانية بما فيها حزب الله. وغياب وزير الخارجية السوري رغم عدم أهميته وعدم أهمية الاجتماع المذكور نفسه، له أسباب ودلالات.

الأسباب
من الواضح حسب الأخبار والمعلومات الواردة من العديد من العواصم بما فيها دمشق، أن هذا الغياب سببه الحرج السوري البالغ من مواجهة وزراء الخارجية العرب، خاصة المصري والسعودي بعد الهجوم الوقح غير المبرر للرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الأخير على هذين النظامين، خارجا على كل الأعراف الدبلوماسية والأخلاقية بوصفه بعض الحكام العرب ب (أنصاف الرجال)، في حين أن الرئيس السوري لم يثبت أن موقفه يختلف عن مواقف الأنظمة العربية، فهو لم يطلق رصاصة أو صاروخا واحدا ضد الجيش الإسرائيلي المهاجم والمعتدي على لبنان، أو يفتح جبهة جولانه المحتلة منذ عام 1967 وأعلنت إسرائيل ضمها رسميا عام 1981. وهذا يعني أنه لم يكن(رجلا) يختلف عن أولئك (أنصاف الرجال) الذين هاجمهم. ولم يكن باستطاعة النظام السوري مواجهة وزراء الخارجية العرب، خاصة بعد هجوم الرئيس المصري عليه، والحملة التي فتحتها ضده الصحافة المصرية مبينة عبر مسؤولين مصريين أن بشار الأسد كان يستجديهم للتوسط مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ليعرفوا أن دعمه للمقاومة الفلسطينية واللبنانية لا يتعدى البيانات الكلامية.
وما إن انتهى اجتماع وزراء الخارجية العرب المذكور حتى بدأ النظام السوري حملة الاعتذار خاصة لمصر، موعزا بوقف الحملات الإعلامية ضد الدول المذكورة، وعلى التوالي صرّح وزير خارجية النظام ووزير إعلامه بأن رئيس النظام لم يقصد أيا من الحكام العرب في وصفه (أنصاف الرجال)، ولكنه (كان يقصد المشككين في قدرة المقاومة سواء كانوا داخل سورية أو خارجها)، وهذا هو التذاكي العربي الغبي الذي عندما تقع الواقعة، ويجدونها أكبر من قدرتهم على التحمل يهرعون إلى التفسير الذي يحمي ما تبقى من ماء وجوههم، وهم يعرفون أن الطرف الآخر لا يصدق تفسيراتهم تلك . أما وزير الإعلام السوري محسن بلال فقد تبارى في مديح الشقيقة الكبرى مصر وقائدها الرئيس حسني مبارك وأن سورية شعبا وحكومة تكن له الاحترام والتقدير، ولا تفكر مطلقا في الإساءة لمصر أو الخلاف معها. ومن الملاحظ تبعا لسلوك النظام السوري في العيش على التناقضات فإن اعتذار مسؤولي النظام كان موجها للشقيقة الكبرى مصر ورئيسها دون ذكر الشقيقة الأخرى المملكة السعودية.

الدلالات
إن دلالات هذا الخطاب والتخبط السوري هي أن هذا النظام ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو شديد الحرص على تمييز نفسه عن باقي الأنظمة العربية، من خلال الشعارات غير المصحوبة بأي فعل، ويحشد لذلك الهتيفة من داخل سورية وخارجها من أحزاب ومؤتمرات عربية، تعيش هي بدورها على الشعارات كما تجلى في دعمها الخطابي للطاغية صدام، غير آبهين بمشاعر الشعب العراقي، وهم في تطبيلهم وتجميلهم للنظام السوري لا يعبئون بمشاعر الشعب السوري الذي يعيش في سجن كبير فيه المئات من سجناء الرأي المعارضين لسياسات النظام.

المطلوب
لذلك وحرصا على هدوء العلاقات العربية فالمطلوب من النظام السوري كي ينسجم مع بقية الأنظمة وجامعتها العربية، فالمطلوب منه واضح وسهل إن قرر الكف عن إسلوب المهاترات والمزايدات الكلامية:
أولا: سوريا المطلوب توسيع هوامش حرية الرأي على الأقل كما هو سائد في الكويت والأردن والشقيقة الكبرى مصر التي يتغنى النظام بصداقتها. وهذا يتطلب تبييض السجون السورية من آلاف السجناء خاصة سجناء الرأي والمعارضين السياسيين،وإقرار التعددية السياسية عبر موافقة فعلية على تشكيل الأحزاب والعفو عن كل المعارضة السورية في الخارج للعودة بأمان تمارس خلافها السياسي مع النظام من الداخل كما هو في أقطار عربية عديدة.

ثانيا: لبنانيا المطلوب هو الاعتراف بسيادة لبنان واستقلالها عبر الكف عن التدخل في شؤونها وترسيم الحدود رسميا وفتح السفارات وتبادل السفراء، والاعتراف رسميا من خلال الأمم المتحدة بلبنانية مزارع شبعا حتى يكون من حق لبنان مطالبة إسرائيل بالانسحاب منها تبعا لقراري 1559 و 1071 وليس ربطها بالجولان المحتل الذي يشمله القرار 242 ، وكذلك الإفراج عن المعتقلين والسجناء اللبنانيين والمفقودين منهم.

ثالثا: فلسطينيا التوقف عن استعمال ورقة المقاومة الفلسطينية للمزايدة التي تنعكس خلافات في داخل المناطق الفلسطينية، كادت في الشهور الماضية أن تؤدي إلى حرب حقيقية بين حركتي حماس و فتح، بسبب خطابات خالد مشعل الدمشقية التي كال فيها اتهامات الخيانة والعمالة للعديد من القيادات والمسؤولين الفلسطينيين، والإفراج عن المئات من السجناء الفلسطينيين والأردنيين المعتقلين منذ عام 1983 عندما تم طرد ياسر عرفات وخليل الوزير من دمشق، بعد الانشقاق عن حركة فتح الذي أعدته ودعمته المخابرات السورية، واستعملت القائمين عليه لسنوات في مواجهة ياسر عرفات، ثم انتهوا دون فعل ما أو أن يسمع بهم أحد اليوم حتى على مستوى إصدار البيانات الكلامية.

عربيا: الكف عن محاولات توتير العلاقات مع أية دولة عربية، فلا تختلف الأنظمة العربية كثيرا عن بعضها، لذلك يصبح ميثاق الجامعة العربية الذي ينصّ على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة هو الحكم والمقياس. ولا ندعو لذلك لتأكيد الفرقة و الانعزالية بين الأقطار العربية، ولكن يأسا من نجاح وتقدم التنسيق العربي المشترك الذي لم يحقق خطوة واحدة طوال ستين عاما الذي هو عمر الجامعة العربية، لذلك ضمن هذا التشتت يصبح هدوء العلاقات العربية مكسبا كبيرا. وفيما يتعلق بالجولان السوري المحتل فهو مسألة سورية داخلية، سواء حررها بالقتال أو المباحثات السلمية أو نسيها للأبد كما هو يتناساها منذ أربعين عاما، وكما تناسى إقليم الإسكندرونة المحتل من تركيا منذ عام 1936 . وعندما نقول إن الجولان مسألة سورية داخلية فلأن الواقع العربي هكذا، فالدول التي وقعت معاهدات سلام مع دولة إسرائيل لم تستشر الدول العربية الأخرى ولم تأخذ موافقة الجامعة العربية.
إنها ليست مطالب تعجيزية، ولكن هذا هو الواقع السائد غالبا بين الأقطار العربية، مذكرين أن هذه الدول تشهد توترات ثنائية من حين إلى آخر، أي أن الأمر لا يقتصر على النظام السوري في هذا المجال...هذا هو الواقع العربي البائس اليائس إلى حد أن هدوء العلاقات مع استمرار هذا الحال يعتبر مكسبا، لأننا تعودنا أن توتير العلاقات لا يعاني منه إلا المواطن العربي، طردا وسجنا ومنعا من الدخول والتوقيف في المطارات! فلسنا بحاجة إلى واقع أمرّ من المر الذي نعيشه، إلى أن تتمكن الشعوب العربية من إقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية، عندئذ تزول تلك الأسباب والدلالات والمطالبات.
[email protected]