يطرب العرب إلى الكلام مثلما يطرب غيرهم من الشعوب إلى الموسيقى، قالت ذلك مرة عميدة المستشرقين الألمان الراحلة أنا ماري شمل رحمها الله، و أحسب أن الرؤساء العرب، خصوصا أولئك الذين زعموا لأنفسهم مرجعية قومية عربية، أفضل من وعى هذا الحديث وعمل به، كما أحسب أن الشعوب العربية ما تزال أحرص ما يكون في الحفاظ على هذه الخصلة الحميدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهي لا ترجو من زعمائها غير إعلان الشعارات العظيمة الدينية والقومية، أما الكوارث والمصائب والأزمات المستفحلة الناتجة عن السياسات الفاسدة والديكتاتورية فسيجد لها فقهاء السلطان في الحكم والمعارضة، ألف حجة وذريعة، فالنية أهم من النتيجة، والشعار أهم من الثمار، وما دامت الامبريالية الأمريكية والصهيونية تعلن أن بعض الحكام العرب أعداؤها الأبديون، فهم سيبقون بالضرورة الحكام الأبديون..

طيلة ثلاثة وثلاثين يوما من الحرب الاسرائيلية الوحشية على لبنان لم يتكلم بشار الأسد، وعندما تكلم بعد نهاية الحرب احتفل بانتصاره الذي لم يساهم في تحقيقه بشيء، وانتشى بفوزه في حرب لم يدفع إليها جنديا واحدا من جنوده، وتحدى العالم بمقاومة لم تجر على أرضه المحتلة منذ أربعة عقود، وخون رجالا و أقواما هم في الأصل من صنع الانتصار والفوز والتحدي، بالحكمة والصبر وسعة الأفق، وبالتعفف عن المزايدات وسوق الشعارات وخديعة الشعوب ببيعها الأوهام والمخدرات الدينية والسياسية والخطابية.
التيارات السياسية الكبرى في العالم العربي، وخصوصا الإسلامية والقومية منها، تثبت دائما أنها في طليعة الميسرين أمر الخديعة أو المتقبلين لها بسهولة، فالتنظيم الدولي للاخوان المسلمين على سبيل المثال، وهو الذي يضم حركات إسلامية كثيرة من المشرق إلى المغرب، أصبح بقدرة قادر متجاوزا لآثار تجربته الأليمة في حلب وحمص وحماة، حيث سقط ما يقارب المائة ألف من إخوان سوريا في مجازر جماعية نفذها آل الأسد، تماما كما التنظيمات القومية الناصرية التي ستسمو برؤيتها عن ماضي التنظيمات البعثية معها، وما انجر عنه من عمليات تصفية وتعذيب وسجن جماعية طالت الآلاف من رفاقهم في الشام وبلاد الرافدين، وليس المقابل إلا بضع كلمات مزايدة لا داعم لها على الأرض، غير فساد عائلة وتجبر طائفة ومصادرة حقوق شعب يئن تحت نير مستبد ظالم جاوز غيه المدى.

بشار الأسد ليس شاذا في عمله بقاعدة بيع الكلام لشعوب مولعة بالكلام، فقد سبقه إليها صدام حسين الذي ما يزال يصر على ممارسة العادة القبيحة ذاتها حتى وهو خلف القضبان، ففي أقل من طرفة عين، أضحى الرئيس مؤمنا وأصبحت العقيدة البعثية العلمانية عنده مع العقيدة الإسلامية جناحان لطائر الأمة، كما أعطيت الأوامر للأزلام ذاتهم الذين ذبحوا الصدر الأول والثاني ونكلوا بأعضاء الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية وبالأحزاب الناصرية واليسارية أيضا، لتنفيذ الحملات الإيمانية والروحانية، وعلى هذا النحو غفر لصدام حسين ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، وعاد قائدا إسلاميا وقوميا عظيما، وأصبح أعداؤه من الإسلاميين والقوميين العراقيين عملاء للمحتل وأذنابا للأمريكيين والبريطانيين، لا لشيء إلا لأنهم فشلوا في المعركة الكلامية، والكلام سابق على الفعل عند العرب مثلما أسلفت الإشارة.

بشار الأسد بدا في خطابه الاحتفالي الأخير قائدا قوميا عربيا عظيما أيضا، على الرغم من أنه لم يخض معركة واحدة ضد العدو، إنما خاض طوال السنوات السبع الماضية من حكمه السعيد مئات المعارك الشرسة ضد أبناء شعبه ومثقفيه وسياسييه ، وضد أبناء شعب شقيق ومثقفيه وسياسييه، فالعظمة القومية عند العرب ليست حكما صالحا رشيدا يحارب الفساد والمفسدين، ولا انتخابات ديمقراطية تعددية حقيقية أو دولة مؤسسات شرعية وقوانين تقدس حقوق الإنسان والمواطنة، إنما هي خطاب رنان يخون العملاء والمأجورين من أتباع الامبريالية الأمريكية والصهيونية ويهدر دمهم على أيدي أجهزة المخابرات العتيدة.

الأسد الإبن يرى العروبة أيضا، أن يحارب اللبنانيون جميعا من أجل نظامه، وأن لا يرضى اللبنانيون بغير الدور المرصود لهم من خارجهم حتى بعد أن تمكنوا من تحرير جميع أرضهم، أما العروبة التي تجعل من مقاومة الجولان ضرورة فهي عروبة ضارة قد تقود إلى إسقاط نظامه، والنظام أكثر قداسة عند بشار ndash; ووالده من قبله- من مصالح سوريا والمصالح القومية العربية، فخوض معركة الجولان ربما أدت في بدايتها إلى إنهاء الحكم العلوي لكنها ستنتهي حتما بتحرير الأرض السورية تماما كما تحررت أرض الجنوب اللبنانية، فليس ثمة معركة تحرير أرض مغتصبة انتهت بخسارة طال الزمان أم قصر، وليس ثمة شعب في الدنيا مهما كان ضعيفا خسر معركة حرية دخلها بإرادة حرة.
عروبة بشار الأسد هي عروبة قطرية محضة، لا يختلف وضعها عن الوضع في أي دولة عربية أخرى لم يزعم نظامها مرجعية قومية، إن لم يقل أنها أكثر قطرية من أي حالة عربية أخرى، فلقد كانت العداوة الجارية بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق ألد عداوة قامت بين دولتين عربيتين، تماما كما أن العداوة بين النظام السوري ومعظم الأنظمة العربية هي اليوم العنوان الأبرز في المشهد السياسي العربي.

سيادة لبنان ووحدته الوطنية ليستا ضمن وارد المصلحة القومية العربية لدى بشار الأسد، وللحفاظ على نظام طائفي فاسد في سوريا، لا ضير من تحطيم دولة شقيقة وإعادتها إلى فوضى الحرب الأهلية والمقامرة على مصيرها، فالأهم من لبنان ومن سوريا ومن كل العرب بقاء النظام العلوي سيدا على قصر المهاجرين، والأهم من الجولان وجنوب لبنان أن يظل الأسد رئيسا للأبد، فلقد كانت تركة الأب ثقيلة، ولم يكن التوريث كما بدا ضرورة قومية أو وطنية بقدر ما بدا ضرورة عائلية طائفية محضة.

بشار الأسد يطرح عروبة متهافتة بدل العمل على تجديدها، لكن أنى له تجديدها، فرئاسته كما أثبتت الأحداث كانت هروبا عائليا إلى الأمام، من أجل تأجيل عملية الإجابة عن الأسئلة الكبرى إلى ما لا نهاية، ومن أجل الحفاظ على المستور منذ قيام الحركة التصحيحية، والأهم من كل ذلك، حفاظ العائلة والعائلات المتصاهرة معها على امبراطوريات مالية ومصالح عظمى تناثرت في أصقاع العالم على حساب الشعب السوري المقهور والمفقر والمسجون.

بشار الأسد لا يستطيع الإجابة عن الأسئلة الصعبة من قبيل متى سيمارس الشعب السوري حقه في الحرية والتعددية والديمقراطية، ومتى سيكون من حقه فتح جبهة لتحرير أرضه المغتصبة في الجولان، ومتى سيكون بمقدور نوابه المنتخبين حقا أن يفتشوا في ملفات الفساد وتهريب مليارات الدولارات من المال العام والخاص إلى الخارج، ومتى سيحال المتورطون في جرائم التعذيب والاغتيال والاعتقال التعسفي على القضاء، ومتى سيخرج الحكم من دائرة الأب والإبن والحفيد..؟
لقد رغب الأسد الإبن في أن تطوي صفحة الأحداث اللبنانية المفتعلة، صفحة جرائم بشعة مورست في حق مجموعة من أهم الشخصيات اللبنانية في التاريخ المعاصر، في مقدمتهم باني لبنان الجديد الشهيد رفيق الحريري، وهو بدل أن يبتعد عن مسرح الجريمة ظل يراوح مكانه حولها متطلعا إلى عودة ظالمة إليها، عبر رفع شعارات قومية كبرى، ليس الهدف من ترديدها غير التضليل على جنايات كبرى والهروب من محاكمة كبرى..
عروبة بشار باختصار هي عروبة مضللة، ليس الهدف منها تحدي عدو خارجي ولا نصرة مقاومة محتل ولا الوقوف في وجه شرق أوسط جديد أو قديم، إنما هي عروبة كلمات فارغة تخدع عقول شعوب يائسة، وتهدف إلى الهروب من استحقاقات وطنية وقومية حقيقية كبرى، وتكرس منطق الخديعة الذي لم يمله العرب بعد، ويحول دون التأسيس لعروبة جديدة متجددة تتجاوز الزعامات والخطابة والشعارات، إلى الشعوب الحرة التي تعبر عن إرادتها من خلال صناديق الاقتراع الشفافة وممارسة الرقابة على حكامها بتنصيبهم وإقالتهم كما تشاء وبمحاسبتهم على الانجازات لا العبارات.

العروبة الجديدة المتجددة جاءت بعض معالمها الرئيسية في خطابات سعد الحريري ووليد بيك جنبلاط وفؤاد السنيورة وسواهم من رموز حركة 14 آذار، المتصدية لحملة الافتئات الأسدية على القوى الديمقراطية في لبنان، فهذه الخطابات أكدت جميعها على تمسك لبنان بعروبته، العروبة التي تجعل الشعوب العربية جميعا تقف على قدم المساواة، فليس ثمة مشروع قومي عربي يمكن أن يسوغ احتلال دولة عربية لدولة عربية أخرى، وإذلال شعب عربي لشعب عربي آخر، و لا ثمة مشروع قومي عربي يمكن أن ينجح إذا بني على ظلم وحيف واحتقار.

أما معلم العروبة الثاني بحسب الحركة الديمقراطية اللبنانية، فليس سوى الديمقراطية نفسها، فقد أثبتت الأنظمة الشمولية والديكتاتورية التي حكمت في العالم العربي تحت يافطة الشعارات القومية، أنها أكثر إساءة للعروبة من أي نظام آخر، حيث لا يمكن أن يتخيل أن نظاما يعذب ويسحل وينتهك حرمات مواطنيه بمستطاعه العمل على صيانة المصالح القومية، كما لا يمكن لنظام يقوم على التوريث والفساد العائلي وعلى مصادرة الحريات العامة والخاصة أن يزعم الدفاع عن الوطن والأمة والشرف القومي.
المعلم الثالث للعروبة وفقا لخطاب سعد ورفاقه في حركة الاستقلال اللبناني، النأي بالأمة عن المزايدات والشعارات والخطابات الجوفاء، والتركيز على العمل الجدي في ورشات الإعمار وإعادة البناء، والسعي إلى إقامة دولة لبنانية ديمقراطية جامعة لا الحفاظ على دويلات طوائف داخل الدولة، تعمل كل واحدة منها لحساب جهات أجنبية، لا تهمها مصلحة اللبنانيين بقدر ما تهمها مصالحها الذاتية، فمن حق اللبنانيين كما السوريين وسائر الشعوب العربية أن تتقاسم الغرم كما تقاسمت الغنم، وأن تتساوى في التضحيات والجبهات، فلبنان على سبيل المثال قد حرر أرضه بالمقاومة، وليس من العدل مطالبته بالمقاومة بالنيابة عن غيره، اللهم إلا إذا اتخذ العرب قرارا جماعيا بالمقاومة الجماعية، حينها فقط يمكن تحويل كافة الجبهات إلى جبهة واحدة.

خلاصة القول أن بشارا طرح مشروع عروبة متداعية تبعد العرب عن طرح سؤال الديمقراطية وتسوغ له أمر قيام اللبنانيين بالمقاومة بالنيابة عنه، لا لتحرير الأرض إنما للإفلات من العقوبة على جرائم بشعة قام زبانيته بتنفيذها، وتؤبده على حكم سوريا وتغطي على طبيعة حكمه الشمولي والديكتاتوري والطائفي، أما سعد فقد طرح مشروع عروبة متجددة ترتكز على ضرورة دمقرطة الكيانات العربية أولا قبل المرور إلى أي مرحلة وحدوية، وعلى أهمية أن تبنى العلاقات العربية- العربية على أساس المساواة والاحترام المتبادل، وعلى ضرورة محاسبة المجرمين والمفسدين في الأرض العربية مهما علا شأنهم حتى وإن كانوا رؤساء دول رعب وجمهوريات.
وبين العروبتين، سيظل العرب في تقديري أكثر عطفا على من يمنحهم الكلمات، لأنهم يعولون على أن يعوضهم الله سبحانه وتعالى في جنة الخلد عن الإنجازات..وهم لا يدرون ndash; كما قال الكواكبي- أنهم بعقليتهم هذه قد يخسرون الدارين، الأولى والآخرة.

كاتب من تونس