وأخيرا تبدأ المحاكمات الخاصة بجرائم الأنفال وهي جرائم ضد الإنسانية حملة إبادة عنصرية. في حملات الأنفال في كردستان لعراق [1985- 1988] تجاوز عدد الضحايا 182 ألف ضحية، راحت تحت صواريخ وهاونات وقذائف النظام الصدامي. خبر المحاكمة مفرح بشرط أن لا تطول كسابقتها وأن تحسم بسرعة مع مراعاة حقوق المتهمين واستيفاء كافة البيانات والأدلة. أما في غازات حلبجة لعام 1988 فقد تجاوز عدد الضحايا من المدنيين 6000 ضحية، وهذا رقم كرقم الأنفال يبلغ أضعاف ضحايا حملة الدجيل التي شرعت المحاكمات بها.
لقد تعرض الأكراد العراقيون إلى سلسلة من سياسات القهر والتمييز منذ بناء العراق الحديث، ولكن هذه السياسات بلغت أقصى درجاتها والأكثر دموية في عهد نظام صدام بعد أن تنكر لاتفاقية آذار لعام 1970 حول الحكم الذاتي. وكانت حملات تهجير الأكراد الفيلية في بداية الثمانينيات مرحلة بالغة القسوة والسادية في السياسات القهرية العنصرية والطائفية. وإذا كان الأكراد الفيليون جزءا لا يتجزأ من الأمة الكردية المجزأة، وكانوا دوما متعاطفين مع الأحزاب الكردستانية ونضالها في كردستان، فإن خصوصية قضيتهم تتمثل في مذهبهم الشيعي وانتشارهم في بغداد ومناطق الوسط والجنوب العراقيين.
إن جرائم الأنفال وحلبجة صارت لحسن الحظ معروفة لحد كبير على النطاق الدولي وليس بإمكان أية مغالطات محامين الدفاع عنها أو تبريرها ولذلك يلجئون لاتهام المحكمة الخاصة بعدم الصلاحية، مناقضين أنفسهم: فإذا كانت محكمة غير شرعية فلماذا يمثلون أمامها؟! أما مأساة الفيلية فلا يزال الكثير من صفحاتها القاتمة مجهولا على الصعيد الدولي. إن حملات تهجير حوالي ثلاثة أرباع مليون من شيعة العراق، يبلغ الأكراد حوالي نصفهم أو أكثر، والسطو على ممتلكاتهم، وتجريدهم من وثائق المواطنة العراقية والهوية، ودفعهم غدرا داخل الحدود الإيرانية حيث راح المئات منهم ضحايا الألغام المزروعة، لهي جرائم رهيبة انتهكت حقوق الإنسان تماما، وهي تستحق تقديم المسؤولين عنها يوما للمحاكمة، سواء بوجود صدام أو بغيابه. ومن المؤلم، وكما ورد منذ أيام في المقالة المؤثرة للكاتب والقانوني الضليع زهير كاظم عبود، أن التمييز مستمر اليوم تجاه الأكراد الفيلية، كمطالبتهم بشهادة الجنسية التي حوربوا باسمها، وعدم رد ممتلكات الكثيرين منهم، وعدم التحقيق في مصير حوالي 5000 إلى 6000 شاب منهم، اعتقلوا بعد تهجير عائلاتهم، وأودعوا سجونا سرية، وقيل إن المئات منهم ماتوا تحت التعذيب ومئات أخرى ماتوا بتجربة السلاح الكيميائي والسلاح الجرثومي عليهم.
إن ما يحتاج أيضا للتأكيد عليه المعاملة العنصرية القهرية التي عاملت بها إيران المهجرين الشيعة رغم أنهم هجّروا بتهمة موالاة إيران. وباستثناء قيادات تنظيمات ومليشيات تشكلت هناك من المهجرين وفريقا من الشخصيات الموالية، فإن الأكثرية حرموا من حق العمل وهوية الإقامة وحرم أطفالهم من حق التعليم، ثم بلغت القسوة حد مطاردتهم في أواخر التسعينات لخارج إيران وحتى للعراق. وقد أدى هذا الاضطهاد لتقديم العشرات من الشخصيات الشيعية العراقية، مذكرات استنكار لخامنئي نشر بعضها في صحف المعارضة ومنها صحيفة حزب الدعوة التي كانت تصدر في لندن.
لقد توقفنا عند هذا الجانب من مأساة المهجرين لتفنيد ادعاء النظام الإيراني عن حرصه على مصالح شيعة العراق، وإنما يستخدمون الورقة الشيعية لأغراضه السياسية والنووية.
أخيرا نحيي ذكرى ضحايا الأنفال وحلبجة والأكراد الفيلية، آملين أن تأخذ العدالة القانونية مجراها وأن يلقى المسؤولون عن تلك الجرائم الكبرى قصاصا عادلا يوازي حجم الجريمة وفظاعتها.