يتطلب الاقتصاد الجديد تكوين نخب مميزة في مجال البحوث يصعب تخريجها من الجامعات الحكومية في الدول العربية التي هي مؤسسات quot;تعليم بالجملةquot; وحتى الجامعات الخاصة المهمشة والتي تعتمد على الراسبين في القطاع الحكومي... من هنا تأتى التجربة التركية، التي نجحت حيث فشلت الدول العربية، بتوفير البنية التشريعية والمؤسسية الملائمة لتعليم عالي خاص مبني على أرقى المعايير الدولية. حصل هذا بنجاح السلطات التركية في لجم الدور التخريبي للقوى المعادية لهذا القطاع - بحكم المصلحة أو الإيديولوجيا-، المتمثلة أساسا في بيروقراطية الدولة والأعضاء المتنفذين في الجامعات الحكومية التي ترى في النظام الدخيل تهديدا لمصالحها، والقوى الشوفينية والأصولية التي ترى بكثير من الريبة دور هذه المؤسسات، بل تعتبرها مجرد أوكار للتجسس الأجنبي ومنافية للأخلاق العامة، كما يحصل عندنا إلى الآن، حيث اتهم أحد زعماء الإخوان المسلمين في مصر مؤخرا الجامعة الأمريكية في القاهرة بالنشر للشذوذ الجنسي.

في الحالة التركية، تم اتهام الجامعات الخاصة على اعتبارها غير دستورية، مما دمر قدرتها على التطور في الفترة التي سبقت صدور القانون المنظم للقطاع عام 1982. كما استغل المسئولون من حزب الفضيلة الأصولي مواقعهم بمجلس بلدية استنبول بتقديم شكوى إلى المحكمة للحيلولة دون إنشاء جامعة كوش quot; Koc University quot; بدعوى المحافظة على البيئة. لكن مع الحاجة الملحة لتوفير تعليم عالي راقي، والضغط المتزايد الذي مثله خروج الطلبة الأتراك لمواصلة تعليمهم في الجامعات الغربية، تم إقرار quot;قانون المؤسسات الجامعيةquot; (Foundation University Law ) سنة 1982، الذي اقر بإنشاء quot;مؤسسات غير ربحية هدفها بناء مؤسسات التعليم العاليquot;.
ونشأت على هذا الأساس أول جامعة خاصة في البلاد وهي quot;جامعة بيلكنتquot; سنة 1984، على يد رجل الأعمال إحسان دوغرامسي لتصبح اشهر الجامعات التركية في الوقت الحاضر. مع نجاح التجربة، تم تطوير الإطار القانوني ثانية سنة 1991، مما تبعه تأسيس جامعات جديدة بلغ عددها 27 جامعة حاليا. وأصبح تكوين الجامعات الخاصة العمل الخيري الأكثر شعبية بين أثرياء البلاد.

لعبت هذه الجامعات دورا أساسيا في عكس وجهة quot;هروب الأدمغةquot; حيث عاد نصف الأساتذة والباحثين في هذه الجامعات من الخارج، جلبتهم الرواتب المجزية التي تقدر بثلاثة إضعاف ما يوفره القطاع الحكومي. غالبا ما توفر الجامعات الخاصة الجديدة في تركيا مناهج دراسية في تخصصات ذات طلب كبير في سوق العمل. ويمثل هذا في حد ذاته مصلحة وطنية كبرى مقارنة بمناهج القطاع العام، التي غالبا ما توفر فائضا في الدراسات الإنسانية والقانونية ذات الطلب المحدود في سوق العمل، مع تجاهل احتياجات القطاعات الاقتصادية الصاعدة مثل الصناعات التصديرية والسياحة والتقنيات الحديثة.

لكن الإضافة النوعية الأهم للتجربة التركية تتمثل في اعتمادها المناهج الأمريكية المتقدمة للتعليم، مع استعمال اللغة الإنجليزية كأداة للتدريس. على سبيل المثال، قضت هيئة جامعة quot;سابانسيquot; أكثر من سنتين في الإعداد للبرامج التعليمية التي تنوي عرضها، حيث تمت مقابلة مسئولين من 50 مؤسسة جامعية أمريكية، بغية تحديد النظام الجديد. وانعكس هذا على قدرة الخريجين على الالتحاق بالجامعات الأمريكية المرموقة لمتابعة الدراسات المتقدمة لشهادات الماجستير والدكتوراه، وبالتالي إنتاج نخب الغد التركية.
كما تبين من نتائج الاستبيانات أن خريج هذه المؤسسات يحصل على معدل عرضين في سوق العمل، وهي نتائج استثنائية مقارنة بتفشي ظاهرة ما يسمى ببطالة حاملي الشهادات الجامعية في المنطقة العربية.

حققت الجامعات الخاصة التركية تقدما هاما على صعيد تطوير البحث، وذلك بالشراكة مع الجامعات الأجنبية المرموقة ومع القطاع الصناعي الخاص داخل الدولة ( كبرى الشركات الوطنية والشركات الأجنبية العاملة في تركيا). وعلى هذا الأساس، ارتفع عدد البحوث الأكاديمية المنشورة من 450 خلال 1982 إلى 1200 بحثا في السنة الأخيرة. كما ساعد القطاع على زيادة كبيرة في عدد الطلبة الأتراك الذين يواصلون تعليمهم في أرقى الجامعات الأمريكية الذين بلغ عددهم 15 ألفا، بالإضافة الى40 ألف طالب في الجامعات الأوروبية.

تمثل التجربة التركية نموذجا ناجحا على الصعيد الاجتماعي، حيث ساهمت في مساعدة المتفوقين من ذوي الدخل المحدود. فالمعلوم السنوي للتسجيل في جامعة quot;بيلكنتquot; يفوق 10 آلاف دولار. ولا يتجاوز في معظم الجامعات الخاصة الأخرى مبلغ 3 آلاف دولار. وهذا المبلغ الأخير يتناسب مع معدل تكلفة تكوين الطالب في جامعات القطاع العام. وهو اقل بكثير من تكلفة الطالب التركي المسجل في الجامعات الأمريكية المقدر بحوالي 25 ألف دولار، مما وفر الكثير على الأولياء وحال دون خروج الأموال إلى الخارج. لكن تكلفة الجامعات الخاصة بقيت خارج مقدرة الطبقات محدودة الدخل. وتمت معالجة هذا الوضع بتوفير منح دراسية للطلبة المتفوقين، وهي طريقة معروفة تهدف الجامعات الخاصة من ورائها تحسين سمعتها في المجتمع والارتقاء بمستواها التعليمي.
كما لا بد من التنويه بالدور الذي لعبته هذه الجامعات على المستوى الثقافي، حيث كانت جامعة quot;بيلجيquot; سباقة في تنظيم مؤتمرات تهدف لاعادة تقييم التاريخ الوطني إزاء الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما كان يعتبر من التابوهات في السابق. وفتحت جامعة سابانسي معارض للفنون الحديثة موجهة للعموم، وجلبت مأثورات عالمية للعرض، كان الاطلاع عليها، حتى وقت قريب، مقتصرا على قلة الأثرياء الذين يقدرون على السفر إلى الخارج...
استفادت الجامعات الحكومية في تركيا هي الأخرى من النظام الجديد، بحكم المنافسة وبالاستفادة من مساهمة الإطار التعليمي للجامعات الخاصة في البرامج البحثية، مما بدد الشكوك السابقة وضاعف الدعم الرسمي والشعبي لتجربة هامة من المهم دراستها واعتمادها في الدول العربية التي ما زالت تشكوا تخلفا كبيرا في هذا المجال، والتي لا تحتاج حقيقة إلى إعادة اختراع العجلة أو حتى البارود الذي اخترعته الصين منذ قرون. لكنها في اشد الحاجة اليوم إلى استلهام التجارب العلمية الناجحة -التركية وكذلك الهندية والصينية وتجارب باقي النمور الآسيوية الأخرى-

باحث أكاديمي وخبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن.
[email protected].