أُعطيَ نجيب محفوظ مُهمّتان لا تتوفرا غالباً لرجل الأدب: التأسيس والتجديد. فنجيب الذي أسّس عملياً الروايةَ العربية، حيث قبله، لم تكن ثمة رواية عربية بالمفهوم الفني، هو أيضاً الذي جدّدَ هذه الرواية، وأدخلها في طور التجريب، وارتياد الآفاق الفنية المجهولة - سواء على مستوى الشكل أو المضمون. وهذا أمر نادر الحدوث في تاريخ الأدب العالمي.
هذه واحدة، أما الثانية، أو بالأحرى المهمة الثالثة، فلا تقلّ عن المهمتيْن السابقتيْن خطورةً وأهمية، وإنْ كانت في مجال عام، لا يرتبط مباشرة بعوالم الرواية، وهي مسألة تجديد

ملف رحيل نجيب محفوظ: مقالات، متابعات وذكريات

محفوظ للغة العربية ذاتها. فهذه اللغة، بعد نجيب محفوظ، هي غيرها قبله. نجيب، أدخل لغتنا العربية إلى فضاء العصر الحديث، بعد قرون من الزخرفة الفارغة والترهل. كانت لغتنا قبله، لغة أقرب إلى الانحطاط: لغة لغو وثرثرة، إطناب وزخارف، فجاءها محفوظ، ليدخلها في مختبره الفني، وليُخلّصها من كل زوائدها، لتخرج معه لغة ناضرة حيوية لا تقل عن مثيلاتها العالميات في اجتراح مغامرة الفن، وفي ارتياد آفاقه الصعبة. وبالطبع كان له شركاء في هذا الجانب: الصحافةُ العربية التي سبقته ورافقته، من جهة، وبعض الكُتاب ممن سبقوه سناً وكتابةُ، كالمازني والعقاد والحكيم وسواهم، من جهة أخرى. لكنه تميّز عن هؤلاء، بأنه الأول الذي جعل من لغتنا أداةً صالحة وقابلة للسرد الفني الروائي، بأتمّ معاني هذه الكلمة.
والآن، إذ أتلّقى خبر رحيله المتوقع، متأخراً عن الناس يوميْن بسبب مشاكل الكهرباء في غزة، أودّعُ مرحلةً من تاريخ الرواية العربية، ومرحلة من تاريخي الشخصي معاً. فأنا من جيل راهق على روايات الرجل، وأدمنها منذ بدايات تفتّح الوعي والجسد: جيل قرأ الثلاثية، وزقاق المدق، وبداية ونهاية، وهو على مقاعد الدرس في المرحلة المتوسطة، فما كان له إلا أن يُفتتن بها، ويتماهى مع أبطالها، فتصبح إنجيله الأدبي، المتنقل معه من مكان إلى مكان.
كان نجيب في ذلك الزمن: أول سبعينات القرن الماضي، قد أصبح ملء العين والقلب وكتابات النقاد. وكنا نقرأه بنهم، ونتابع آخر إصداراته أولاً بأول. لكن مع مجيء معاهدة كامب ديفيد، وموقفه المعروف منها، صار الكُتاب والقراء الفلسطينيين، وربما العرب، يقاطعونه ويتحاشون ذكره إلا إذا أوغلوا في ذكر مثالبه السياسية. ولقد أثبت الزمن، حتى على الصعيد السياسي، صدق موقف الرجل، وبعد رؤيته، وانحيازه لمستقبل كل شعوب هذه المنطقة، في العيش بسلام، بعيداً عن إرث الحرب والدم اللامتناهي. وبعيداً أيضاً عن عقد الماضي الثقيلة.
وحين حصل على أرفع جائزة عالمية وهي نوبل، فرحنا له، وشعرنا بأنها معطاة للأدب العربي، متمثلاً في شخصه وإنتاجه الشاهق.
لقد تأخرت الجائزة عن نجيب، لكنها أتت في النهاية لرجل يستحقها تماماً: يستحقها عن جدارة وعن تاريخ وعن إبداع فريد.
بهذا المعنى، فنجيب، الذي يتهمه بعض القومجيين، ما زالوا، بما ليس فيه، هو أفضل من خدم الأدب العربي عالمياً، وهو أقوى من فتح الطريق لهذا الأدب، كي يصل عبر الترجمة، إلى الأفق الكوني والإنساني. ولا بأس أن نتذكر في هذه النقطة، أنّ ما تُرجم من الأدب العربي، نثراً وشعراً، قبل فوزه بالجائزة العظمى، هو أقلّ من القليل. أما بعد فوزه، فاختلف الوضع تماماً، وصرنا نسمع ما بين الفينة والفينة، عن ترجمة رواية عربية أو ديوان شعر، هنا وهناك، إلى هذه اللغة أو تلك.
نجيب إذاً فتح الباب واسعاً للأدب العربي كي يصل إلى العالم. ونجيب هو، وأكثر من غيره، مَن أسدى هذه الخدمة الجليلة، حتى ولو بدون قصد مباشر، إلى أدبنا الحديث.
جاء كثيرون من الروائيين العرب بعد نجيب. وجرّبوا هم أيضاً، لكنهم، تقريباً، لم يتجاوزوه إلا قليلاً، فما زالت فتوحاته الفنية، هي الأعلى، وما زالت رواياته، تصلح لزمننا، ولزمن طويل قادم، مثلما صلحت لزمانه.

حين زرت القاهرة وأقمت فيها سنتيْن أوائل الثمانينات، نظرتُ إلى المدينة الهائلة، منذ وطأت قدماي ترابها، بعيون نجيب محفوظ لا بعينيّ الفيزيقيتيْن! كنت أجول في الحواري الشعبية والزنقات، أو أجلس على المقاهي، فأتخيّل أن تناديني امرأة من بطلات رواياته! هذا هو سحر وفعل الأدب العظيم! الأدب الذي يخلق مدينة موازية أبهى وأجمل من المدينة الواقعية: أدب الموهبة الكبرى الاستثنائية، وأدب الخالق الأدبي العظيم كنجيب محفوظ.
وبهذا المعنى، فنجيب هو روائي المدينة العربية الأول. لا ينافسه في ذلك أحد. روائي القاهرة تحديداً، بما هي مدينة وعاصمة وعلاقات متشابكة غير قابلة للتبسيط. روائي لم يكتب طوال عمره لا عن الريف الزراعي ولا عن الصعيد، بل حصر نفسه وأعطى موهبته للمكان الذي يعرفه حقاً، وهذا أيضاً درس فني ثمين، وبالأخص لكتّاب الروايات، فأن تكتب عما تعرف وتعيش، لأفضل لك من الابتعاد إلى أمكنة لا تعرفها. صحيح أن الخيال يسعف الموهوبين، لكن التجربة ههنا جد مهمة وتؤازر الخيال، فتجعله خلاّقاً.
لقد رحل الرجل أخيراً، بعد قرن تقريباً من العطاء والحياة. قرن هو قرن نجيب محفوظ بامتياز، لا على الصعيد المصري فحسب، وإنما على الصعيد الأدبي العربي. تماماً مثلما كان هذا القرن، هو ذاته قرن الجواهري بامتياز، لا على الصعيد العراقي، بل على الصعيد العربي كله أيضاً.
ولعله من تدبير الصدف أن عاش هذان العظيمان المقدار عينه من عدد السنين. عاشا عصرهما فكانا عملاقيْه، كلٌ في مجال تخصصه، فانطبع العصر بطابعهما، وكان أن عشنا نحن في زمانهما الواحد: القرن العشرين: قرن محمد مهدي الجواهري ونجيب محفوظ عبد العزيز!
رحم الله الرجلين، بقدر ما أبقيا لنا وللأجيال العربية القادمة من تراث فني عزيز زاخر، ورحم الله نجيباً الذي كان واحداً منا وواحداً من الناس: هذا الرجل الذي جلست قريباً منه ورأيته مرات وتكلمت معه، فلم أشعر برهبة أولئك الصغار الذين يقابلون العظماء. والفضل في ذلك يعود لتواضع الرجل ودماثته الشهيرة وإنسانيته المرهفة، وسمو أخلاقه العالية، التي لا أروع ولا أصدق ولا أنبل.

وداعاً أيها المُعلّم.
وداعاً يا عم نجيب.
وعذراً على هذه العجالة الصحفية التي لا تليق بقدرك وبمكانتك في القلوب.